تعد رواية « موت مختلف « لمحمد برادة واحدة من الروايات ، التي تعيد صياغة التجربة في الحياة والعيش والكتابة . وفيها يضعنا الكاتب ، من خلال سيرورته الإبداعية ، أمام مرآتين ؛ إحداها نكتشف بها ذواتنا ، و الأخرى نعي بها ما يحيط بنا من أحداثٍ و وقائعَ . ولئن كانت التجربة الروائيَّة ، عند محمد برادة في مساره الإبداعي ، التي دام ما يزيد عن خمسة عقود ، غنية من حيث القضايا الاجتماعية و السياسية و الفكرية التي يُبَئِّرها في إنتاجاته الأدبية ؛ فإن في « موت مختلف « نحس أننا نركب آخرَ قطار نحو النهايات ، أو نطل من على جرف هار على مصائر البلاد و العباد . انطلاقا من « لعبة النسيان « 1987 إلى حدود « موت مختلف « 2016 ربط الكاتب مصير الكتابة و الإبداع بالتَّحولات الاجتماعية و السياسية و الفكرية والنفسية أيضا ، عن طريق تموقفه الصَّريح و الواضح من أهم القضايا ، التي تؤثر في الحياة الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع . إن محمد برادة كان من رعيل المبدعين القلائل الذين جمعوا بين الكتابة و التجربة السياسية ، التي كان ينظر إليها بعيون مليئة بالأمل و التفاؤل ، بل جعل منها وصيدا نحو تغيير شامل ، وقوة دفع نحو معانقة التحديث و الحداثة . غير أن في « موت مختلف « نحس أن برادة تشرَّبَ الخيبة والأسى و فقدان الأمل في التغيير ، فأصبح ذاك الطموحُ ، الذي راوده في عنفوانه الإبداعي ، يذوب أمامه ناظريه ككتلة ثلج عائم . يقول الكاتبُ « سأعطي لنفسي، قبل أن تُقطف روحي ، حق التوهم بأن ما عانقته طوال رحلتي في الحياة الدنيا ، سيستمر ميمّما صوب الحلم الإنساني الجميل ، ليعطي للبؤساء ، المظلومين ، فرصة تشييد حياة يطرز حواشيها الحب والحرية و الطمأنينة خلال رحلتهم الدنيوية « . في هذا الإحساس و الشعور اختزل الكاتب المسافات ، بعد تجربة غنية بالحب و المشاركة السياسية الفاعلة ونضاله في صفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي . تحكي رواية « موت مختلف « عن رحلة منير من مسقط رأسه دبدو ، في الجهة الشرقية من المغرب ، إلى الديار الفرنسيَّة . حيث كان متفرغا للنضال السياسي علاوة عن عمله كأستاذ للفلسفة في مدرسة إعدادية بإحدى ضواحي باريس الشمالية . ارتبط منير ب « كاترين « التي تعمل كمحامية ناجحة ؛ فرزقا سنة 1982 بطفل بهي الطلعة سمياه ب « بدر « . تتمفصل الرواية إلى ثلاثة فصول ، يراها محمد برادة كافية لصياغة موقفه و التعبير عنه ؛ ففي الفصل الأول ، الذي عنونه الكاتب ب « زيارة مسقط الرأس «، يستشرف من خلاله الكاتب على ما طال مسقط رأسه من إهمال و نسيان . حيث إن النظرة القاتمة ، التي يقارب بها دبدو ، وهي القابعة في أحضان مدينة تاوريرت المحاطة بالجبال و التلال من كل الجهات ، أصبحت فعلا في نظر منير نقطة نهاية و أفول . وهكذا يكون الحنين إلى مسقط الرأس مصحوبا بوجع الانتماء و التشظي بين عذوتين شديدتي التباعد الثقافي و الحضاري ، فضلا عن سؤال الجذور و الهوية الضاربة في عمق التاريخ . وفي هذا كله كان لدبدو حضور في عمق الدولة المرينية بني مرين ، بما هي امتداد شرعي للسلطة المغربية في شرق المملكة . هذا النبش في ذاكرة التاريخ ، جعل من هوية الكاتب تتشظى بين الحنين إلى الأم المفقودة و التوق إلى تغيير ملامح وسحنات وجه دبدو البئيس . يقول الكاتب : « الآن وأنا أسير بين طرقاتها ، التي لا أجدها تبدلت عما كانت عليه حين غادرتها في أكتوبر سنة 1965 ، أحس بغربة مضاعفة …» . ومن هنا تمططت هذه الصورة القاتمة لدبدو لتشمل كل مناحي الحياة ، لاسيما وأن أهلها يعيشون على الفلاحة و الزراعة ، وأغلب شبابها قد غادروا المؤسسات التعليمية ؛ لينتهي بهم المطافُ إلى الإضراب عن الطعام و الاعتصام أمام البرلمان . إن هذا الوضع المزري، في نظر الكاتب ، الذي تعيشه دبدو ، يعد بمثابة فشل و إحباط كبيرين ، بل مأساة وخسارة حقيقية ، في ظل مقارنته بين الوضع في مسقط رأسه من جهة ومكان إقامته بفرنسا من جهة أخرى . ومن هنا يحمِّل القارئ ضمنيا مسؤولية البحث ، على الأقل ، عن العوامل المباشرة ، التي ساهمت في وضع متردٍ لمدينة من حجم دبدو . أما في الفصل الثاني ، المعنون ب « في بلاد الأنوار « يعيدنا محمد برادة في « موت مختلف « إلى الثورة الفرنسية 1789 و أنساقها الفلسفية و الأيديولوجية و الاجتماعية ، ومدى انخراطه اللامشروط في الحياة السياسية الفرنسية … وذلك عن طريق ثورة ماي 1968 الطلابية ، التي ينظر إليها الكاتب ، كمنهاج جديد يتم من خلاله قلب الأفكار القديمة ، وسحب البساط من تحت أقدام المتشددين و الأصوليين و الرجعيين ، فضلا عن توسيع رقعة الحرية الفردية ، و اندغامها الجامد في الحياة السياسية الفرنسية ، يقول محمد برادة : « لماذا ينتابهم الخوف أولائك الذين يهاجمون ثورة مايو 1968 و يسلبون دموع التماسيح ؟ لأن جيلنا يريد طريقة أخرى في تحديد حرية الفرد و علاقته بالمؤسسات « . فالمزيَّة ليست في المشاركة و الكشف عن ألاعيب السياسيين و مخاتلاتهم المعهودة للمواطنين ، ولا في إبراز الدور الفاعل و الفعلي للطلاب في المظاهرات ، التي تهز الجدران و تقتلع أحجار الرصيف أمام البوليس و القوى الاحتياط ؛ إذ المزيَّة تكمن في مدى تعلق الكاتب بتوفير و تهيئة الظروف ، التي من شأنها أن تعتمل في تغيير جذري للدولة الفرنسية . سيكون طبيعيا الدور مناطا على المثقف ؛ ليحدث تلك الرَّجَّة العميقة في الأوساط الاجتماعية و السياسية و الثقافية ، فهو أي الكاتب لا يتنكر للأصول ؛ رواد الثورة الفرنسية أمثال : جون جاك روسو ، وفولتير ، وديدرو و مونتسكيو و آخرون … ، وإنما ينتصر انتصارا شديدا لانتماءاتهم الثقافية و الفكرية و القدرة الفاعلة على التعبير عن أيديولوجيتهم . غير أن تبني أفكار المفكر الإيطالي الذائع الصيت أنطونيو غرامشي ؛ المثقف العضوي ، كان سبيلا نحو اجتراح أفكار جديدة ووعي مسجور بالتغيير . ومنه ، فلم يكن محمد برادة في « موت مختلف « مجرَّد رقم في تربيعة أو سحابة صيف عابرة ، وإنما جسَّد المثقف المتشبع بوعي استمده مما تزخر به الحياة الباريسية من ثقافة و فكر و إبداع و فنون ، يقول الكاتب « أصبح منير حريصا أيضا على ملاحقة المشهد الثقافي و السياسي المتسارع الخطى . لم يعد يكتفي باستيعاب مقررات شعبة الفلسفة ، بل أضحى يتابع ما يقدم على المسارح وفي دور السينما ، وما تصدره المطابع ، وما تحبَل به منتديات السياسة و منابر الفكر . كأنما قطع على نفسه أن يتقمص شخصية شاب فرنسي ، يسعى إلى استيعاب مكونات مجتمعه ليتمكن من التأثير فيه» . إن هذا الوجه الذي أظهره الكاتب ، للحياة في ضواحي باريس الشمالية ، وهو بعيد عن دبدو ، مافتئ يَخْمش لِحاءَه الموتُ ، وإن كان موتا مختلفا ؛ فأظهر على صفحته ندوبا وتجاعيدَ ، وذلك من خلال العلاقة الحميمية التي ربطت كاترين ؛ زوجة منير بالمتدربة الشابة من ضواحي جزيرة لارينيون لويز ، حيث إنها استطاعت ، هذه الآصرة ، أن تتطور لتصل إلى حد المكاشفات الجسدية وإثارة مكامن الشهوة لديهما . وفي هذا المناخ المتوتر ، بدأت كاترين تميل ميولا جنسيا نحو لويز مما اضطرت معه أن تهاجر بيت الزوجية ، وفي ذلك تدمير مطلق لسطوة الذكورة و التحرر الجنسي عند المرأة ، بما هو وجه آخر للموت و للثورة على الجسد وتخليصه من تاريخه الدَّموي ، المتعلق بالإنجاب والعادة الشهرية و ما يتبعها من آلام و مكابدة ؛ من أجل استمرار الجنس البشري . ولما كانت المثلية الجنسية في « موت مختلف « رحلة في عوالم التمرد على الطبيعة ، فإن العودة إلى الصفاء الروحي ، وترك الآخر في صخبه ، الذي ينذره بالموت ، لا تتم إلا بالرجوع إلى الأصل و المنشأ . غير أن هذين الأخيرين كانا سببا مباشرا في توتر العلاقة بين الأب والابن ، يقول الكاتب « منذ أنهى بدر دراسته الجامعية ، وبدأ يشتغل بإحدى الشركات ، وبعد زيارته للمغرب صحبة أمه ، اتخذت علاقته مع أبيه وجهة مختلفة لا تخلو من حدة و مماحكة «. إن التاريخ ، النضالي و السياسي لمحمد برادة ، لم يشفع له أمام تساؤلات ابنه بدر المحرجة ، خصوصا وأن المد الأصولي و الديني في تفاقم و اطراد مستمرين ، ليس في فرنسا وحدها ، وإنما في باقي أنحاء أوروبا . فضلا عن التشويه و الكراهية المقيتة ، في الصحافة والإعلام ، التي يتعرض لها المواطنون الفرنسيون ، الذين ينحدرون من أصول إسلامية . وبالموازاة مع ذلك ، كان اللجوءُ إلى وضع بدر أمام الاختيارات الدينية الصَّعبة ، بين الإسلام و المسيحية ، تعبيرا عن سلوك حضاري خبِره الكاتب عن كثب ، جرَّاء تجربته الطويلة في العيش و الثقافة . أما في الفصل الثالث و الأخير جمَّع فيه محمد برادة أهم منعطفات مساره الطويل مع السياسة والنضال في صفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي ، انطلاقا من ثورة مايو 68 الطلابية ، التي أُرسى فيها دعائمُ حزب اليسار ، الذي خطف الحكم في فرنسا بقيادة السياسي المحنك و والكاريزمة فرانسوا ميتران بعد مؤتمر « إبناي « 1971 ، عندما رصَّ حزب اليسار صفوفه لخوض غمار الانتخابات ، وقطع الطَّريق أمام غريمه حزب اليمين . حيث انتعشت انتعاشة حقيقية ، خلال حكمه لفرنسا ، الذي دام زهاء عشر سنوات ، الحياة الفكرية و الثقافية والعمالية أيضا . لينتقل الحكم بعد ذلك إلى سُدَّة الحزب اليميني بقيادة جاك شيراك و ساركوزي ، قبل أن يظفر ، من جديد ، الحزب الاشتراكي بالسلطة في فرنسا بقيادة فرونسوا هولاند . ولمَّا كانت الحياة السياسية منتعشة في فرنسا ، أمام التنافس المثمر بين اليسار و اليمين ، فإن انعدام الحرية ، بالمقابل ، في مسقط رأس الكاتب دبدو، يعتبر نقطة سوداءَ تُحبِّر كل مناحي الحياة الراكدة الجامدة ، ومنه تسلل إليه الإحساس بالموت الذي يعتبره ، الكاتب ، مختلفا وغير عادي . نرى ، في ضوء ما قدمناه ، أن رواية « موت مختلف « للكاتب الكبير والمتميز محمد برادة جاءت كثمرة عشق ، إلى حد الهَوَس الجنوني ، للكتابة و الإبداع ، الذي دام زهاء خمسة عقود من الزمن . من زاوية يصبح فيها الكاتب فاعلا عضويّا ، يحرك الميَّاه الرَّاكدة الآسنة في المجتمع ، حتى لا يطالُ الموتُ و اليبابُ كلَّ شيء ، وما حديث الكاتبِ مع إبليس ما هو إلا تمَاه في جوهره مع مقامات عائض القرني ، من زاوية المقاربة الصُّوفية للموت ؛ حيث تجعله ، فعلا ، موتا مختلفا ؛ ينتقل فيه المَرءُ من الحركة إلى السُّكون ، أو من الفاعليَّة إلى الانعداميَّة ، أو من الظاهر إلى الباطن أو من الضياء إلى الظلام . تنضاف رواية « موت مختلف « إلى قلائد الرواية المغربية و دررها المعلقة على سُمُوط الأدب المغربي الرَّفيع ، الذي ركب الحداثة و التحديث منذ منتصف القرن الماضي ، وذلك عبر تناوله القضايا الرَّاهنة ، يستشرف من خلاله مستقبلا واعدا بالاستقلالية الذاتية و التخلص التدريجي من عقدة الآخر ، دون تجاوز أو إغفال ما راكمه أي الأدب المغربي من نصوص و روايات تحفلُ بالهويَّة المغربية الأصيلة خلال مسارها ؛ الذي نَيَّف عن ثمانية عقود من الزمن .