شاعر رهن وجوده للحياة، مُترحِّلا عبْر مفاوزها ومغالقها، دهاليزها وسراديبها المتشعّبة والمفضية إلى متاهات لا نهائية، ومُقيما في عزلة الشعراء العِظام، ينْسُج تفاصيل الحياة بإبرة الاحتمال والتأمل المتبصّر، والمُدرك لأسرار المكابدة والتباساتها المحيّرة والغامضة. لم ينشغل بتفاهة العالم؛ بقدر ما اتخذ زاوية حادّة من أركانه للانغماس أكثر في الأسئلة الحارقة والمارقة، الأسئلة التي تُرْبِكُ الحواس بِرُمَّتها وتُحفّزها على مُراودة شوارد الأشياء، التي تنفلت من الإنسان هكذا بدون سابق إشعار، هذه الزاوية الحادّة مكنّت عبد الحميد بن داوود – الذي يحيل اسمه إلى مناطق الشاوية العريقة على ما أعتقد- أن يلتقط صور الحياة بعين ثالثة لا تنظر لهذه الصور بقدر ما تجُسُّهَا بالبصيرة، هو صيّاد التشظيات التي يحياها الإنسان دون أن يهتم بها وتكشف عن عالم كله تناقضات، لكن الشاعر يوليها أقصى جَهْدِهِ حتى تظل دائمة الحضور في الذاكرة. والقلب. هكذا نعثر على الشاعر يقتنص لحظات الوجود لِيَقْلِبَ موازين الزمن ويحوّل المكان/ البياض إلى لوحات حافلة بالحياة والجمال، ويبتدع عالم المفارقات بلغة ثعلبية الدلالة، ماكرة ومتوهّجة بالدهشة والغرابة القريبة المأخذ بلغة القدامى، والمتحلّية بالبساطة التي تثير الافتتان الاستعاري ، عالم يعُجُّ بمنعطفات فجائية تقود الإنسان إلى تجديد الأنفاس لملاحقة الهارب والمنفلت. وينسج تجربته في الكتابة والحياة بإزميل الأصالة والعمق والابتعاد عن الاحتذاء ، الأمر الذي بوّأه مكانة متميزة في إبداع الشذرة بكل مقوماتها الجمالية. هذه الشذرة المبتدعة بمثابة المهماز الذي يحفر حكمها ودروسها بتؤدة، وتخلف أثرها في باطن القلوب المتعقلة المتفكرة المتدبّرة، هو الْمُدْرِكُ بأنّ الحياة طريق مُلْتَوٍ، لكنّ الخطو منحرف، وبالتالي فبساطة التعبير تفْسح للذات إمكانات أسلوبية متولِّدة من صميم التجربة والرغبة في ارتياد آفاق ممتدة في هذا الشعور الملتبس تجاه البدايات، التي يكون رحم الأم البوّابة الأولى لها لإعلان الولادة/ الكينونة، وعليه فرمز الأم يُضْمِرُ دلالات مفتوحة على احتمالات تأويلية لا متناهية يقول: ( الإنسان يكبر بجوار الأم، لذلك يلزمه أن يستبدل أمّه باستمرار كي يكبر باستمرار) أليس في هذا المقول حكمة نابعة من كون الأم مصدرا للحياة، وبها يجدّد الإنسان وجوده، ويصيّر هذه الحياة ذات امتدادات غير محدودة، بل منفتحة على آفاق تحفل بالاستثنائي و المدهش المنبثق والمنبعث من المناطق المعتمة، فالأم مرآة الذات الإنسانية التي تعكس جوهر العاطفة والحب والعطاء والخصوبة، من تمّ يحتاج الإنسان إلى بذل الجَهْد لعبور كل العتمات، حتى يحقق الرؤية الواضحة يقول:( كم سديم يلزمني كي أراك في صفائك الأجلى.؟ / وكم من حقل ظلام يلزمني أن أعبر؟ ) بين النور والعتمة مسافة رغبة في اقتحام المجهول والصمت والجسد والمرأة، من أجل كَنْسِ الظّلام الذي يعتور الأبصار والبصائر، وفي هذا الموقف تجلية لرفض الشاعر كل ما يجعل الإنسان مجرد مستهلك في واقع سوريالي ، أي مُعلَّبا لا قيمة مما يجعل كينونته في حالة الهشاشة، ولإدراك هذه الأمور يحتاج الإنسان إلى فكر وقّاد ورؤية حاذقة وتجربة متجذرة في مطاردة البهاء والجمال.لذلك ظل منافحا عن القيم التي تنتصر للإنسان بعيدا عن التصورات المؤدلجة الميّتة، والتي لم تزد البشرية إلا الإقامة في غابة مليئة بالزيف والألبسة الاستعارية التي تخفي حقيقة الكائن في ممكن مستحيل، وقد تمَّ التعبير عنها بلغة عارية من التشابيه المبتذلة، بل اختار لها مقاسات عمادها المجاز كآلية أسلوبية بلاغية تقوض الظاهر، مبتغية الجوهر، ولعلّ هذا ما يرومه الشاعر من كتابة تكثف اللغة وتشحنها بدلالات تحدث صدمة لذوي العقول النّقلية، وتحفّز العقول المستنيرة بالوعي والإدراك إلى الإصغاء للذات والعالم . والمتأمل في كتابه الفريد» التشظّي» سيخلص إلى السمات المميّزة لرؤيته للعالم، وهي رؤية معبّرة عن واقع موبوء بعلل كثيرة،وحضارة إنسانية في حالة احتضار واضمحلال ، ولعل خير ما عبّر عن هذا الوضع هو ألبرت سفايزرAlbert SHwizer الذي صوّر الأزمة الراهنة للحضارة البشرية « ليس خافيا على أحد أننا نعيش عملية تدمير ذاتي حضاري، وما بقي منها لم يعد في مأمن، لقد اضمحلت القدرة الثقافية الحضارية للإنسان الحديث، لأن الظروف التي تحيط به تسبب اضمحلاله ودماره النفسي» فَغَدَا الجنون بلسما لهذا الاضمحلال والرتابة يقول( الجنون: إنه الشفاء الأنجع لمرض إسمه الرتابة)، وعليه لا ينبغي فهم الجنون في دلالته المتداولة، بقدر ما يعتبر وسيلة للخروج من السأم الذي يعمّ الذات والعالم. فاللفظ، في هذا السِّفْرِ الضَّاجِّ برؤيات للعالم ، لامع وامض مكثف، يحقق للمعاني الاتّساع والامتداد في الدلالة اللامحدودة، وتلك خصيصة من خصائص كل إبداع، ذلك أنه «كلما كان العمل هامّا، كلما أَمْكَنَهُ أن يعيش وأن يُفْهم لذاته، وأن يشرح مباشرة بواسطة تحليل مختلف الطبقات الاجتماعية» ، وهذا ما تحقق في كتابات عبد الحميد بن داوود الذي يمتلك القدرة على تشكيل الواقع المختلف، المتعدد والمفارق،وفق علاقات متصادية بينه وبين الكائنات والأشياء لتأليف كليات – بعبارة لوسيان غولدمان- تتوهج بدلالات مثقلة بحمولات ذات أبعاد وجودية. فالسخرية آلية من آليات الكشف عن الأعطاب التي تعتور المجتمع،بغية تعديل وتصحيح الاختلالات الرهيبة والتخفيف -قدر الممكن- من المفارقات التي يعجّ بها الواقع، و هي تعبير عن موقف الرفض لبنى اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية متخلفة وثابتة، جرّاء هيمنة ثقافة النسخ والنقل، وتعدد الأقنعة باسم الإله يقول:( يا لفرحة التجار بالكتب المقدّسة..إنها الفرصة الثمينة لهضم حقوق المؤلف!!) فتبئير هذه الشذرة يمنحنا القدرة على التأويل، فالشاعر يسعى إلى التعبير عن مواقفه تجاه ما تعرفه الحياة من انتكاسة في كل مناحي الحياة : الدين ، الإبداع، الحقوق، وبالتالي فهو يدق ناقوس الخطر لإثارة الانتباه لهذا الانحطاط الحضاري، الذي يُطوّق الإنسانية ويهدّدها في وجودها. والأسلوب الساخر ما هو إلا طريقة ماكرة للغة للإفصاح عن المغيّب، عن المهمّش والهامشي في الذات والمجتمع، عن الأمراض المستشرية في جسد الوجود المعطوب بتقنية مارقة و مُصَيِّرَة الإنسان بضاعة، كما يتمّ به – الأسلوب الساخر- التعبير عن الوعي الشقيّ الذي يشكّل خلفية الكتابة لدى عبد الحميد بن داوود يقول في شذرة لافتة وعميقة الدلالة:( التكنولوجيا: ألا تكون هي التفاحة المحرّمة الأخرى التي ستعرّض إنسان الأرض لطرد آخر خارج الأرض) هكذا يُقْرِنُ الشاعر ، من خلال مقوله، التقنية بالخطيئة الثانية بعد خطيئة آدم وحواء الأولى والتي كانت سببا في الطرد من الجنة، إنها معادلة تفضي إلى إدراك خطورة هذه التقنية على البشرية جمعاء، وفي هذا يمتلك الشاعر ناصية الرؤية المستقبلية، وما نكابده ونعانيه من أمراض تسللت بغتة إلى الذوات والمجتمع شاهد على ذلك. واللغة عنده لغة لا ترتبط بما هو شائع، وإنّما متعلقة بالمختلف لا المتّفق والمتواضع عليه، لغة تكسّر الأصول وتخلق صوتها الخاص، المتجلّي في الإبداع بدل الاتباع الذي كنّاه بالاتفاق/ النقص/ التنازل، يقول:( اللغة التي هي «ملك مشاع بين الناس» ، هي لغة الاتفاق، النقص، التنازل والحدود الدنيا..وحده الصمت يدخلك إلى ممالك الحدود القصوى) إنها لغة اللذة التي تجعل الذات تقتحم المناطق الموغلة في المجهول للوقوف على جوهر المادي والمعنوي في الإنسان . إن الشذرة تصيّر اللغة أكثر تكثيفا وتقطيرا، تمنح للشاعر القدرة على الاختزال المولِّد للدلالات، والمبئّر للمعاني، ممّا أضاء التجربة وشرع لها أفقا لكتابة بَرْقِية ( من الْبَرْق) تستفّز أكثر فَتمْنح كيانها بسهولة، لكونها كتابة بخيلة اللفظ كريمة المعنى، الأمر الذي يعكس بوضوح أن منجز عبد الحميد بن داوود إبداعيته وجمالياته التي تمْتحُّ من خلفيات معرفية متنوعة فلسفية، صوفية، أدبية وشعرية. والأكثر من هذا يمكن اعتبار كتاباته شظية تشعل نار المعرفة في روح المتلقي؛ حتى يتطهّر من واقع مفارق، وملتبس. كما أن ذخيرة الشاعر ملؤها المكابدة والوعي العميق بأسئلة الذات وهي تجابه الزمان والمكان، فالأول يبرز من خلال ثنائية النهار والليل وكيف يعالجها الشاعر، فالنهار تعبير عن البساطة والتسطيح في المقابل نجد الليل زمن العودة إلى الإنسان فينا يقول: ( كل صباح.. يأتيني الصباح بالمزيد من الوضوح، بالمزيد من البساطة، بالمزيد من التسطيح../ وحدها أنهار الليل تعمق المجاري في دواخلي) فالنهار زمن الدناسة والليل زمن الطهر والصفاء والغوص في الروح. وهذا يحيل إلى كون الليل سُترة وحجابا ، في حين أن النهار فضح وكشف، تسطيح وغباوة. والشذرة – عنده- ذات نزعة كَتَارْسِيسِية/ تطهيرية، بوساطتها يسعى الشاعر إلى أن يهم بغسل العالم، لكن التوجّس شعور يرافقه خوفا من تدنيس الماء بِدَرَنِ العالم المرغوب في تنقيته، وهنا مكمن المفارقة في الكتابة عنده يقول:( كلما همَمْتُ بِغسْل هذا العالم في الماء، إلا وألفيت نفسي مطوقا برعب هذا الاحتمال: أن أُدَنّسَ الماء، ولا يتطهّر العالم ) إنها كتابة حِكَمِيةٌ أَرَبُهَا وَطَرُهَا إثارة الانتباه إلى أن الوجود مليء بثقوب يجب ملؤها باستعارات اللغة لتجميل المُشَوّه فيه، حتى تستقيم الحياة. إن كتاب «التشظي» منجز إبداعي خلّاق يستبطن جوهر الذات المغتربة والضائعة، الحائرة والمحترقة بأسئلة جدلية تربط الذات بالعالم والأشياء في علاقة تضادية تعرِّي حقيقة المكابدات التي تزيد التجربة أكثر فاعلية، وتفصح عن التوتر الحاصل بين الذات والوجود. وتذهب بالكتابة إلى أن تكون حاضنة للعقل/ الفكر والعاطفة/ الشعور، وقد استطاع الشاعر النجاح في تشكيل ذلك عبر التصوير البلاغي من تشبيه ومجاز وكناية واستعارات والأساليب الإنشائية زادت من وهج التجربة، يقول: ( كم يلزمك من عدو.. كي تتيقن من نبلك؟! ( و( أفلاطون أيها الأحمق: كيف تشيد جمهوريتك الفاضلة على سطح غيمة وتطرد الشعراء؟!) و( وحيدا أضجّ بالأموات، الأموات الذين يقطفون الأشعة كي ينكّلوا بالزمن.) فما نلحظه ، من خلال هذه التعابير الجارحة والمتوغّلة في أنساغ الذات والواقع ، الجنوح صوب المختلف والمغاير، المستفزّ والمحرّض على إعمال العقل للخروج من النقيض الذي يجمع بين العدو والنبل، للنيل من غباوة أفلاطون الذي حكم على جمهوريته بالفشل حين غيّب الشعراء منها، وللوقوف على جدلية الحياة والموت/ الحضور والغياب/ الفعل والانفعال وغيرها من الثنائيات التي يشيّد بها عبد الحميد بن داوود خطاب السخرية، والتي أسهمت في تفجير المفارقة كبنية تتأسس من العلاقات التركيبية والدلالية للجمل فيما بينها. جملة الأمر إن الكتابة العظيمة التي تترك أثرها الجليل في الحياة والإبداع، أُسُّهَا الإنسان كذات واعية بحقيقة وجودها، وحاضنة حضارية / تاريخية/ ثقافية/ كونية، وغايتها مخاطبة هذا الإنسان في إنسانيته حتّى يستردّ كبنونته في أبعادها المفتوحة على الجمال والدهشة، وعلى معانقة البهي والمغري في الذات والعالم، وأعتقد أن الشاعر عبد الحميد بن داوود أزاح الحجاب عن الإنسان والكون بكتابة شذرية متشظية ورؤية عميقة كشفت عن تجربة متفردة في الإبداع.