رزئت الثقافة المغربية، الأسبوع الماضي، بوفاة الشاعر والإعلامي عبد الحميد بن داود، الذي أسلم الروح لبارئها بعد معاناة طويلة مع المرض. وقد خلّف رحيل صاحب ديوان «التشظي» حسرة كبيرة في نفوس أصدقائه وزملائه وقرائه، كما تجسد ذلك في التدوينات التي غصت بها صفحات التواصل الاجتماعي. وهنا عينة منها: نجيب العوفي (ناقد أدبي): عبد الحميد بنداود، شاعر وكاتب من طينة إبداعية خاصة، مرهفة وصلبة في آن. يعجن الكلمات من سويداء قلبه وعنفوان فكره. عاش متوحدا ورحل متوحدا. هكذا هم الاستثنائيون الصامتون، يغيبون سريعا محفوفين بجلال الصمت، تاركين وراءهم العالم نهبا للصخب والعنف. وصدق الشاعر المجاطي: حين أذكر أحباب قلبي.. أنثر أسماءهم واحدا واحدا سامح درويش (شاعر): رحلت إذن.. رحلت يا عبد الحميد، يا شاعر التشظي في أقصى تجليه الوجودي، رحلت على حين غرة، ولم تترك لي فرصة للنظر في عينيك الخضراوين كي أرى كيف تهدأ العاصفة. رحلت ولم تترك لي منك سوى هذا الهبوب القلق من هبوبي، وهذا التشظي المبرح وبعض مزق من الطريق التي جمعتنا، حتى اكتشفنا أننا من سلالة غبار خطونا، وأننا من فصيلة شعرية واحدة. رحلت إذن إلى الخلاء الفسيح الذي أحببته دوما وتركت لي هذا الشعور الغريب كما لو أن لغة هوجاء تسفّ ترابي، حتى أنني لم أعد أرى مني سوى هذا الحصى الذي كان لنا معلما مشتركا. رحلت إذن يا عبد الحميد. هذه تشظياتك تدلّ عليك. « كم من سديم يلزمني كي أراك في صفائك الأجلى؟ وكم من حقل ظلام يلزمني أن أعبر؟ كم يلزمك من عدو كي تتيقن من نبلك؟ ماذا أهديك أيها الليل ردا للجميل غير موتي الكبير، وهذا الصمت الذي يستدعيني لإتقان التأبين. أيها الليل كم تظل صاحيا حتى في نومي. النائم فوق الحصير أبدا لا يخشى السقوط. أبدا أجهل لمَ لأكره الفقر وأحب الفقراء. وحده الألم الكبير قدير على أن يطيل العمر. تعلمنا حكمة الشجر أن الناضج هو أول ما (من) يسقط. ما نقيد بالكتابة يحتاج أيضا إطلاق سراح . يولد الإنسان جمرة ساخنة ثم يشرع في الانطفاء عند ارتطامه ببرد العالم. يا لفرحة التجار بالكتب المقدسة.. إنها الفرصة الثمينة لهضم حقوق المؤلف . فدعني أتشظى معك حين تسأل: لماذا كلما ركبتني القصيدة خفّ وزني؟ « رحلت إذن يا عبد الحميد.. وقد كنت واحدا ممن فتحوا عينيّ على سحر الشذرة وعنفوانها، واحدا ممن علمونا تشذيب القصائد ومهارة التكثيف، فكيف ترحل الآن وتترك لي حزنا في غاية الإطناب.. كيف تسكن هذه الفيفاة من البياض كأنك كلمة وحيدة في الماوراء وتترك لي هذا الحيز الضيق من السواد. رحلت إذن يا عزيزي.. حسنا، فقد وصل الشلال إلى حتفه.. عشت أبيا يا عزيزي ومت أبيّا. وداعا.. وداعا .. المصطفى كليتي (قاص): عذرا العزيزة شهرزاد لقد سبق الموت موعدنا، وترجل عبد الحميد إلى البرزخ الآخر، لا يرجع أحد من هناك، الموتى يرحلون ولا يلتفتون إلى الوراء، مضى الرجل الجميل بصمته الحكيم، وشخصيته النافدة إلى القلب من نحبهم يستعجلون الرحيل .عفوا شهرزاد خذلنا صديقنا ولم نكن في الموعد، ما أتفهنا وأتفه عوارض الدنيا، أعرف يا شهرزاد بأن رحيل العزيز عبد الحميد سيترك في أغوارك جرحا لا يندمل، كان يغرقك في بحبوحة عطفه ووده وأبوته الرفيعة، وأنت لنا دوما تلك الابنة المعجونة بالرقة والألطاف، كنجمة نزلت من السماء لتسعى على الأرض . عفوا شهرزاد محطم اللذات ومفرق الجماعات لا يستقدم ولا يستأخر ساعة وصوله، مضى عبد الحميد ولن ننساه أبدا فمن نحبهم يدفنون في قلوبنا قبل أن نواريهم الثرى، الموت فراق مر ومصيبة لا مفر منها لكل نفس، ولكن يكون رحيما وسكينة لذات معذبة فراها الألم الممض والموت ما منه بد، نم قرير العين أيها الشامخ في نومتك الأبدية، وحسبنا شذراتك بعض نبضات قلبك رسمت فيها ما به نتذكرك عبر عصارة أفكارك وكلماتك المجللة بوهج المعنى، وفي البدء كانت الكلمة . صالح لبريني (شاعر): إن الشذرة كآلية أسلوبية تصيّر اللغة أكثر تكثيفا وتقطيرا، منحت للشاعر القدرة على الاختزال المولّد للدلالات، والمبئّر للمعاني، ما أضاء التجربة وشرع لها أفقا لكتابة برقية (من البرق) تستفّز أكثر مما تمنح كيانها بسهولة، لكونها كتابة بخيلة اللفظ كريمة المعنى، وفي هذا تدلال على إبداعية منجزه هذا الذي عنونه ب»التشظي» وبالتالي فهذه الكتابة أيضا عبارة عن شظية تشعل نار المعرفة في روح المتلقي حتى يتطهّر من واقع مفارق، وملتبس، وبعبارة أخرى إن ذخيرة الشاعر ملؤها المكابدة والوعي العميق بأسئلة الذات التي تجابه الزمان والمكان، فالأول يبرز من خلال ثنائية النهار والليل، وكيف يعالجها الشاعر، فالنهار تعبير عن البساطة والتسطيح في المقابل نجد الليل زمن العودة إلى الإنسان فينا يقول: (كل صباح.. يأتيني الصباح بالمزيد من الوضوح، بالمزيد من البساطة، بالمزيد من التسطيح../ وحدها أنهار الليل تعمق المجاري في دواخلي» فالنهار زمن الدناسة والليل زمن الطهر والصفاء والغوص في الروح. وهذا يحيل إلى كون الليل سُترة وحجاب، في حين النهار فضح وكشف وغباوة. لحسن لعسيبي (صحافي وشاعر): «لن أكمل رمضان»، ذلك كان يقينه الذي أطلقه في وجه بعض من أحبته وصحبه.. وها قد وفى وعده بالرحيل.. عبد الحميد بنداوود يغادرنا يوم آخر جمعة من رمضان 1440 هجرية، قبل ليلة القدر بقليل.. ذلك الطفل المشاكس فتح باب الأرض وغاص فيها، حيث ينتظره أحب الناس إليه «والده».. كانت بينهما علاقة وفاء لا وصف لها، هي من طينة الصوفية.. كان عبد الحميد بنداوود بقلب طفل يمشي فوق سواد الإسفلت، فكان دوما في خصومة معه، ومع سطوة المؤسسات كيفما كانت سلطتها عليه. ووحده ظل يقاوم بقلب الطين الذي جاء به من تراب بادية تازة، هناك حيث خرير الماء قصة حياة، وحيث الزيتون ثروة الروح، وحيث خبز الأمهات طازج في الفجر، ظل يقاوم سواد الإسفلت ويصرخ عاليا: «لن أستسلم لسوادك أبدا». وداعا أخي عبد الحميد، كم كنت وحدك وكم كنت ممتلئا بك، مكتفيا. لقد أكملت قصتك كما أردت لها بإصرار، بذات النخوة، بربطة عنق دائمة، بأناقة في اللباس، بملامحك الإغريقية، تلك التي ظلت تؤمن بحكمة سقراط: «سقراط ليس الطبيب، الموت هو الطبيب، سقراط كان فقط المريض». محمد معتصم (ناقد أدبي): وداعًا عبد الحميد بنداوود. شاعرٌ أحبَّ الحياةَ وعاشها كما أرادها هو. صحافي متمرس، وكاتب مقال، وتحقيقاته الميدانية كانت لغتها مختلفة عن لغة من عرفت وقرأت لهم من الصحافيين. إنسانٌ مفرطٌ في إنسانيته. أنيقٌ في مظهره، يصر على أن يكون جميلا في مرآته الخاصة. له حضور قوي في الجماعة التي يكون فيها، ويشد إليه الجميع. مشكلته كانت في صراعه بين ما يؤمن به وما هو عليه.. اخضرت عيناه من كثرة البحث عن المعادلة الصعبة تلك.. أظنه الآن قد وجدها، قبلنا، كانت علاقتنا عميقة فيها احترام متبادل، هادئة، أشركني معه في كتابات غير أدبية ونقدية باسم مستعار عندما أشرف في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» على «الملحق الاجتماعي» بداية التسعينيات. غيرته على اللغة العربية لا توصف. كانت له مبادرة إطلاق اسم «دار الندوة» على جمعيتنا بداية التسعينيات. استقبلني مرات في شقته في شارع واد الذهب في الدارالبيضاء حيث كان يقيم مع الشاعر الصديق جلال الحكماوي. لا انسى ليلة احتفلنا بعيد ميلاده بالشقة ذاتها وقد ضم الحفل جمعا من الشعراء مغاربة وعربا وقاصين… كتبت مقالة وقت صدور كتابه الشذري، لا أدري إن كانت ما تزال في ذاكرة الحاسوب أو بين أوراقي قبل الثورة التكنولوجية وتعميمها بين الناس… عبد الحميد بنداوود عليك رحمة الله، كنت وحدك وسط الجميع، وأرجو ألا ينساك الجميع وحدك مرة أخرى. عبد العزيز كوكاس (أديب وإعلامي): كيف علقت نجمتك على سماء لا نراها ورحلت.. بأنفة المتنبي كعادتك قررت أن تسير نحو الموت وتختزل طريقه نحو الإذلال.. مررت سريعا، بالكاد أخذ خبر مرضك يصلنا حتى تواريت في الغياب.. لأنك عاشق التشظي كما كنت تقول لي دوما في طنجة التي في الرباط، على إيقاع ناس الغيوان، وصوت آمنة الذي ما زال يسكن الأقانيم البعيدة لمكان الفرسان الذين هزمهم زمن أرذل وقرروا ألا يستسلموا لضجيجه.. هناك وراء بليما حيث كانوا يحمون أحلامهم في زمن التشظي.. شدر مدر، غير عابئين بالخسارات المتراكمة… أتذكر اليوم، تعارفنا عن طريق المرحوم محمد بن يحيى، الذي كنت تحمل بلاغه إلى العالمين بالكثير من الأنفة وزهد الفقراء النبيل، وفي الصحبة الجميلة مع عبد الحميد اجماهري في الحرية في المحمدية، حين كنا نرتق الليل بالنهار، لم نكن ننم خوفا من أن يباغتنا الموت أو تهرب منا متع اللحظة الجارفة يومها.. ويوم اشتط بنا الليل حتى آخره، وحملت ومحمد خفيفي هدية حية إلى منزلك تسلمتها بهدوء السائرين في نومهم وشكرتنا وصعدت نحو مخبأ أحلامك بلا نأمة.. حتى حين تتوارى كنت تتعمد ترك ظلك بيننا، في الخزيرات حيث اقتسمنا الغرفة معا، بكوابيسك وبطيشي.. وفي باريس اقتسمنا الليل بالتساوي صحبة العربي باطما رحمه الله، وعمر الذي ظل دوما سيدا.. هل تذكر اليوم وأنت في مكان لم يعد منه أحد ليحدثنا عن الجو هناك كما يقول درويش، كيف صعدت طاولة مقهى «لوبوتي وزو».. العصفور الصغير بعد أن أغوانا رودان بمخلوقاته العجيبة، وخطبت في معشر الأجانب كشرقي ينتفض لكل أجداده الذين أذلهم الغرب، مثل طارق بن زياد، تحدثت عن الراين والسين وابن رشد والرشدية وابن عربي… وحين كانت لا تسعفك العبارة، كنت ترتشف كأسك وتترك لسان موليير ليرقد قليلا مشهرا لغة الضاد في الوجوه التي استرعيت انتباهها، ورغم كل التدخلات أصررت أن تنهي خطابك بأناقتك التي ظللت محافظا عليها حتى في عز الانكسارات الموجعة.. لم تكن بيننا لقاءات كثيرة، لكن كنا نتبادل الأعمق فينا: الأحلام، الجراح، بعض العبث الضروري لتستقيم الحياة.. كم هو مؤلم هذا الفقد عزيزي وجارح حد النصل.. حفيظة الفارسي (كاتبة وصحافية): كم كنت وحدك يا ابن أمي عذرا، صديقي وزميلي عبد الحميد بن داوود. لم نحبك بما يكفي، لن أنسى نظراتك المنكسرة وأنت على سرير المرض.. كان صمتك العميق، كما صوتك، كما حكمتك، يقول كل شيء. وكنت رغم نصل الداء المغروز بعناية في الصدر، تسترق الكلمات بصعوبة وتنتزع الابتسامة من رماد الأمل، كي تخفف عنا لا عنك، أنت الذي عهدناك صلبا، عنيدا، أمام الرياح. هذا الجسد المتوثب دوما للفرح، لم يساير نوتات الألم، فاختار أن يعزف معزوفته الأخيرة تاركا لنا صدى لنهاية لا تشبه النهايات: نهاية رجل شجاع.