أحاول جاهدا أن أكتب سيرة الجسد؛ بلغة تقترب من الذات، وتبتعد عنها في اللحظة نفسها، وهو تصور نابع من كون الكتابة تجربة تسعى إلى تأريخ ندوب الروح وكوامنها، وفتح كوّات وثقوب في مسامات المشاعر، حتى تعزف كورال الألم و الأمل، وتمنحني القدرة على أن أطلّ على خبايا الجسد والاستمتاع الأليم بنزيفها الأبدي، فالألم هو مولّد طاقة القول والصوغ، لكتابة شعرية تكون شاهدة على الوجع بمعناه الذاتي والوجودي. والكاتب الأبدي في ذاكرة الإبداع الإنساني، هو القادر على التعبير عن المشترك بين الناس، فيكون لسانهم الناطق بعذابات الكائن؛ في كون يغمره الشَّرُّ ويحيط به. فالقدرة والمهارة والخلفيات المعرفية ، الثقافية والفلسفية التي تؤطر منطلقه الإبداعي مكونات جوهرية في الإبداع، فبدونها يستحيل الحديث عن كتابة إبداعية تلمس الجوانب الخفية للإنسان وفي الإنسان، وتُبْدِعُ كينونتها النصية المحمّلة بأفكار، هواجس وتأملات، تصورات ومشاهد ذاتية وآخرية ، كل هذا يوطّن هذه الكتابة ويَتِمُّ ترسيخُها في الوجدان البشري، وقليلة هي الكتابات التي تمكّنت من الإقامة في الذاكرة الإنسانية، لأنها تغلّبت على معيقات القراءة التفاعلية المتجلية؛ في الابتعاد عن التعبير النرجسي المرضي للمبدع؛ والسقوط في اللبس القولي التعبيري أي الإبهام، وأخيرا عدم تجسير صلات التلاقي بين الكاتب والمتلقي. إن كتابة تخلو من كولسترول تضخم الأنا، ومتخفّفة من ثقل الإيديولوجيات المتكلسة، كتابة ناجحة لكونها تنتصر للبعد السامي وللقيم الفاضلة، ولا يعني هنا تسييج الكتابة بقيود الإسقاط الأخلاقي؛ وإنما تطعيمها بشحنات وطاقات تزيد الخطاب حيوية وحركية وعمقا، فليس المبدع من يشحن نصه بالزوائد الأسلوبية الفجّة، بل هو الذي يكتسب رؤية عميقة للعملية الإبداعية ومتأصِّلة في تربة ماهو كوني حتى تحقّق وجودها الإبداعي. ولا مشاحة من القول، إن كتابة الذات تشكيل لوعي مرتبط بالكائن بدلالته الانطولوجية، وبالعالم كفضاء للتأمل والبحث عن غوامضه والتباساته، التي تدفع الموجود إلى امتطاء غمار السَّفَر والرَّحيل واللاإقامة؛ وذلك عن طريق امتلاك المعرفة التي تضيء العتمات وسبيل العاطفة . فبالمعرفة المستفزّة والمتمرّدة عن السائد، يخلق المبدع جغرافيات جديدة لم يتمكن السابقون من فتحها واكتشافها في الذات والعالم، وهنا مكمن إبداعية المبدع وتجلّ من تجليات السَّبْق في ابتداع أفكار هي كانت مطمورة في وعي تاريخ البشرية، لكن قدرة المبدع الحدسية تستطيع اجتراح عوالم جديدة، ومتجددة في الإبداع الكوني، ومن هنا لابد من الإشارة إلى أن أي إبداع لا يمكن أن يحقق وجوده، إلا من خلال، تجسير الحوار مع النصوص السابقة، فالنص المتخلّق تحقيق لكينونة كانت غائرة وخلية نائمة في أرض الإبداع، لهذا فالمبدع يحرث الأراضي الإبداعية ويقْلِب تُرْبَتها ، ويسْقيها بماء مداركه ومعارفه وتجاربه حتى تنبت شجرة نصية لها غصون ممتدة في جذور الغائب النصي الذي يتم استحضاره عبر التفاعل المنتج، ومُلْقية ظلالها على حاضر الكتابة ومستقبلها. إن الوعي بالذات وعي بالواقع ، ولا يتحقّق هذا التلاحم بينهما ،إلا إذا اتصفا بالتماهي الحقيقي مع الوجود، هذا الأخير يكون ،بمثابة الدافع الرئيس، صوب معانقة هذين المقومين في كتابة سيرة الإنسان كتابة تؤمن بأحقيّة التعبير والانفتاح على العالم، متحررة من قيود الرقابة الذاتية والجماعية . فالإبداع، في جوهره، تكمن قيمته في تكسير الأغلال وتحطيم جدران الذهنية القائمة الجامدة، التي لاترى سوى التَّكرار واجترار الكائن؛ والابتعاد عن الممكن والمحتمل. ولعلّ هذا من أهم المعوقات الأساس في قتل الإبداعية في الثقافة العربية؛ و الإقامة في جُبَّة الأسلاف المحنَّطين بفعل الصنمية العقلية، التي ترفض التجاوز وتقُصُّ الأجنحة التخييلية والابتداعية، وهنا يكمن دور المبدع الحقيقي، الذي مهمته عدم الانصياع لهذه الصنمية ، من خلال، كتابة تحتفي بالمضيء للعقلية المعتمة. وتجربتي في كتابة سيرة الذات؛ تندرج ضمن هذا الوعي الشقي الناجم عن رؤية تعتقد أن هذه السيرة امتداد للسير السالفة لكتاب ومبدعين مروا من نفس السبيل ، غير أن العبور يختلف وفق سياقات تاريخية وحضارية واجتماعية وثقافية ، هذا العبور في الكتابة هوية الذات الإبداعية باعتبارها تاريخ تجارب موسومة ومبصومة بسمات وبصمات بالعمق والأصالة.ولا غرو في هذا، فمعظم النتاجات الإبداعية تحفر في أرض الذات، وتحترق بقلق الواقع في إنصات لا يهادن، بقدر ما يثير الأسئلة الحارقة والمارقة، ولا يستسلم لكوابح الخلق، وإنما يتخطى الحدود؛ ليوقد جِذوة البحث الأبدي عن عشبة خلود الحياة والإبداع. لذلك أعتبر أن الرحلة في أهوال التيه والمكابدة من أبرز المحدّدات المهمة لكتابة خلّاقة ومتخلّقة بقيم الإنسان دون سواه، وهنا مطمح الإبداع القح والجدير بالديمومة. وقد تمكّنت عبْر،رحلتي المتواضعة، أن أقف عند تخوم الذاتية والموضوعية في تشابك وتوالج وتواشج بينهما، دون ادّعاء بتحقيق ذلك، فانا ما زلت دائم التنقيب عن وسيلة أسلوبية ناجعة لهذا الأمر العصيِّ عن القبض، بل إن سيرة الكتابة محاطة بعوامل الداخل والخارج ، فكلما كانت الدواخل مشتعلة بالنزيف والقلق والسؤال، كلما كانت الذاتية هي الطاغية والمستبدة على الخطاب، وكلما كانت الجلبة والصراع والخراب والحرب كان الخارج سائدا، وهذا لا نقصد من وراءه الفصل بينهما، فهذا حديث مغلوط ومنافٍ للعملية الإبداعية، فالأجدر التأكيد على تحقيق اللحمة . علاقة الذات بالواقع تحكمها جدلية تذوّب المسافات المفتعلة بينهما؛ بدعوى أن المبدِع من واجبه الابتعاد عنه؛ وخلق واقع جديد، لكن من المستحيل إبداع واقع جديد؛ دون الانهمام بانشغالات الخارج النصي، الذي يمْنح إمكانيات عديدة لانفلات الكتابة على الحياة، واقتناص المألوف والغرائبي بفنية جمالية تنحت صوت الذاتوالوجود. من هنا لابد من التأكيد على أن أي نص إبداعي؛ لا يمكن أن يفلح، في تحقيق الاستمرارية في الذاكرة الإنسانية، دون الوعي بالواقع، واستنباط الغائر والمغيّب والمدهش والفاتن والمغري. ونقصد بالوعي القدرة على التعبير عنه؛ بعيدا عن التشكيل المسطَّح والانعكاسي، قريبا من الإحساس الباطني المفعم بحرارة التجربة، وعمق الإنصات. فالكتابة إضاءة لعتمات الذات والواقع، وبحث عن جوهر الكينونة، وحفر في المناطق الخفية والمجهولة، على اعتبار أن الإبداع مطاردة للمجهول وإقامة في اللانهائي، ومحاولة للانفلات من رتابة اليومي وفداحة الزمن . فالزمن في الكتابة امتداد في المكان ، وهذا الأخير لا وجود له إلا بالزمن في تفاعل حسي ومعنوي، يضفي على الذات الشعور بالغربة والاغتراب، خصوصا في ظل هذا الخراب الذي يجلّل الكون؛ وانعكاسا واضحا على تغييب القيم وترسيخ قيم الاستهلاك، الذي برّرتها عولمة كاسحة ومدمّرة لجوهر الإنسان. وعليه فالمبدع ، انطلاقا من هذه التمظهرات، يقاوم بما يملك من تجربة ومتخيل وتصورات وروافد معرفية هذا التَّسَرْطُن اللَّاقيمي في جسد الإنسانية، وذلك عن طريق اللغة كوسيلة للإدراك والفهم،وأداة تعبيرية عمادُها متخيَّل ينْهل من الذات والكون، ويرحل في خنادق الكوامن ومناوشة العالم وتُخُومِه بالأسئلة القلقة، والترحال الدائم في مسالكه الملتوية، ومُنْعَرجاتِه المفضية إلى متاهات قصية ومبهمة تحيّرُ العقل والفِكَر، وتربك الذائقة الأسلوبية ، فبها يتم خلخلة القائم والمألوف في الكتابة ، حتى يعانق المبدِع الحرية، وكل كتابة بدون حرية لا يعوّل عليها، لكوْنها تظلّ مخنوقة، وتخلق كيانها معطوبا ومشوّها، لذلك، وعلى مرّ التاريخ، سعى الكتّاب والمبدعون إلى تحرير العقل من أغلال الخرافات، والرقابات الكابحة لإرادة الذات والمعيقة لولادة الكينونة؛ والتعبير عن العالم برؤية جدلية ومدركة لخباياه، التي تبقى في حكم الالتباس وذاك ملح الإبداع. فالكتابة الإبداعية التي اخترت سبيلها، بمحبة وعشق ورغبة دفينة لمراودة الماضي، ومماحكة الحاضر من أجل الانتصار للمستقبل ، كانت الملاذ الأول والأخير لممارسة حماقات الذات والشعور بالحرية المطلقة وتحقيق الكينونة التي تتعرض للتشوية الوجودي، بفعل إذاعة ونشر الابتذال والتسطيح في عالم مسلّع ، عالم مجنون بآخر الصيحات في كافة مجالات الحياة، عالم لا يعطي للذات الفرصة لتخلق وجودها، بقدر ما يروم إلى استعباد الإنسان. الشيء الذي يدفعني إلى التأكيد على قيمة وقدرة الكتابة الإبداعية في تخليص الإنسان من عبودية الحيواني والشهواتي فيه، والسمو إلى سماوات مضاءة بنور العقل.فالاختيار لم يكن اعتباطا، وإنما جاء انطلاقا من أهمية الإبداع في حياة البشرية، وفي هذه اللحظة المفارقة من عصرنا الحالي، الذي يعيش أتعس مراحله التاريخية والحضارية، حيث الحروب والاقتتالات والتهجير والتشريد والتدمير والخرابات ، ومناصرة الظلام ، وترسيخ ثقافة الرعب واللاأمن وإشاعة الفوضى ، يجب على كل كاتب ومبدع، أن يكون في طليعة المقاومين لهذا الليل العالمي العولماتي، الذي أعمي ويعمي البصر والبصيرة، وزرع بذور الأمل رغم الآلام والعذابات . وجدير بالإنسان أن يمعن النظر؛ فيما يحيط به من مهالك والتفكير في أنجع السبل، التي بإمكانها إعطاء فسحة أمل في حياة كريمة، وعدالة اجتماعية أساسها الإنسان، ففضل الإبداع كامن هنا، أي في إثراء العقل البشري وتطهير الروح من دنَس التسلط والاستبداد، التي تعمي القلوب والأبصار. وأنا أكتب نصي لا أكتبه من أجل الكتابة ، أو بغية اللعب المجاني أو التسلية الفجّة، لكن أكتبه وفق استراتيجية بنائية ذات أبعاد جمالية وفنية، كتابة تنفتح على النزيف والاحتراقات والقلق الوجودي، كتابة لا تساوم ولا تهادن، وإنما تشاكس وتحلم بعالم الحق والكرامة والعدالة والحياة. فالنص الإبداعي الذي لا يحمل رسالة ذات بعد إبداعي وإنساني مآله الفناء والهباء، وحصاده النسيان.فكل إبداع، هو في جوهره، ينطوي على كتابة الحياة بمجازية واقعية؛ اي يحوّل الواقع إلى إشارات استعارية مثقلة بإيحاءات ممزوجة ببلاغة الخارج النصي، وبمتخيل كرافد من الروافد المُسْهِمَة في إثراء التصور، وتعميق رؤية المبدع للعالم من أجل ارتياد عوالم أكثر سَعَة؛ وأبعد توغّلا في الأغوار الباطنية للذات؛ والإصغاء لِرَجّات الواقع. ويرتضي حياة الكتابة كديمومة مستمدة كينونتها من الوعي بالماضي، ومُنْوَجِدَة في الحاضر وممتدة في المستقبل، بحثا عن المجهول في الذات والكون.