عبد الحميد بنداوود، قبل كل شيء هو صديق عزيز، لا أشبع شخصيا من مجالسته، وأجد نفسي بين الحين والحين في حاجة ماسة للقاء به وتبادل الحديث الشيق معه عن الصحافة والشعر والتشكيل والحياة… لكن قبل أيام لم يعد ممكنا ذلك اللقاء، فقد داهمه الوحش الذي خطف حفيدتي أريج، والكثير من الأصدقاء، وألقى به في غرفة العناية المركزة بمستشفى السويسي بالرباط. عبد الحميد بنداود، لمن لا يعرفه، أو لمن يريد أن يتناساه وينساه الناس، مواطن مغربي بسيط، احترف الصحافة واستهوى كتابة الشعر المتشظي، وعاش بين الناس مختلفا طيبا. عرفته أقدم جريدة في المغرب (العلم) التي اشتغل بها كمحرر لمدة قصيرة لكنها كانت حافلة، قبل أن ينتقل إلى أسبوعية البلاغ المغربي التي عوضت قليلا الغياب القسري لصحيفة المحرر.. كان قد حكى لي الكثير مما صادفه وهو يعمل بهذه الجريدة، ولأن ذاكرتي لا تحتمل الكثير من المعطيات والمعلومات، كنت دائما أتمنى منه أن يتفرغ يوما لكتابة مذكراته الغنية جدا… عندما تعرفت عليه بشكل مباشر، كان يشتغل بجريدة الاتحاد الاشتراكي، يدهشني بمقالاته الساخرة وشذراته الشعرية المتشظية… كان بارعا ومتميزا في مختلف الأجناس الصحفية من العمود إلى الافتتاحية، فالحوار والريبورتاج والمتابعة والقراءة النقدية. كان مقلا ومقتصدا في كتابة الشعر، لكنه عندما أصدر بيت الشعر أنطولوجيا الشعر المغربي، انتقده نقدا لاذعا لأنه شطب بجرة قلم غير مفهومة على العديد من الشعراء المغاربة وأقصاهم من تلك الانطولوجيا… لإعلامي الكبير الراحل خالد مشبال، كان معجبا بكتابته الشعرية الشذرية، فكان يلح عليه كلما التقاه بجمع نصوصه عارضا عليه نشرها ضمن سلسلة «شراع» التي كان يصدرها من طنجة ضمن سلسلة منشورات «وكالة شراع «من أجل مجتمع مغربي قارئ»، وهكذا أصدر له ديوان «التشظي» فكان مناسبة فريدة ووحيدة للاحتفال بالكتاب والكاتب. ديوان «التشظي» الذي يقع في 86 صفحة من الحجم الصغير، هو محصلة عشر سنوات من الكتابة والمحو كما كان يمارسها عبد الحميد بنداوود، مازجا بشكل خلاق بين الحكمة والفلسفة والشعر في تأملات وانفعالات مدججة بالسخرية السوداء. يقول في كتاب التشظي: أنا لا أعتقد أن الانسان كان في بداية من البدايات الموغلة في القدم، قردا. فلو كان فعلا للانسان كل هذه القدرة على التحول، لكان أصبح إنسانا!!! أكثر من ذلك، فإن عبد الحميد بنداوود، هو أيضا فنان تشكيلي، حتى وإن لم يدع ذلك، فبيته بمدينة سلا عبارة عن معرض فني مبهر، يضم لوحات نفيسة من التشكيل المغربي اقتناها عبد الحميد بانتقاء وعشق، إلى جانب لوحات رسمها هو بريشته وخياله وجدانه. عبد الحميد بنداوود من فصيلة إنسانية مهددة بالانقراض، ملامحه التي توحي بالهدوء تخفي خلفها كائنا متمردا لا يقبل المهادنة ولا أنصاف الحلول… حتى الشبكة العنكبوتية التي التفت خيوطها على كل العوالم واكتسحت كل البيوت وأوقعت في حبالها كل الناس، لم تنل منه إلا النكران والرفض والازدراء… إنه كائن وفي للقلم والورق، يتوجس كثيرا من الشاشات البيضاء والحروف الكهربائية، مثلما يسخر طويلا من البصاصين والمتجسسين الفضوليين بلا نهاية، هو الذي يتعامل مع الهاتف المحمول نفسه بحذر شديد… من المؤكد أن المبدع عبد الحميد بنداوود، له حكايات ومواقف كثيرة حكى بعضها لأصدقائه المقربين، ويحتفظ بالكثير منها، على أمل كتابتها وإصدارها في كتاب كلنا ننتظره بشوق، ويعتريني إحساس قوي بأنه سيهزم ذلك الوحش، ويتعافى ويتحرر من سرير المشفى ويعود إلينا ليكتب ويرسم ويعيش بين أحبائه.