تشظّي الكتابة في “قليل من الملائكة” لعبد الله المتقي لأن الأدب نتاج عصره و لأننا في عصر تتسارع فيه إيقاعات الحياة.. فقد انصهر الأدب في واقعه و أنتج أنماطا إبداعية جديدة تعبّر عن روح العصر و لهاث الإنسان خلف هذه الإيقاعات المتواترة و السريعة في شتّى مجالات الحياة.. لذلك ظهرت القصة القصيرة جدا بما هي أسلوب في الكتابة و التعبير و الاقتصاد في اللغة تستجيب لتشظّي إنسان اليوم و تأزمه. و لأن الإنسان تعوّد أن ينتج الشيء ثم يبحث عن قواعده و طريقة تقنينه الممكنة.. تماما مثلما أنتج اللغة ، كذلك ظهرت القصة القصيرة جدا و بدأ النقاد يقتفون أثرها و يصوغون قوانينها و يضبطون خصائصها من خلال الاشتغال على النماذج الإبداعية التي ينحتها كتّاب القصة القصيرة جدا و يقدّونها من أعصابهم وينسجونها من مهجهم و قد كان لها عدة فرسان يكتبونها بحرفية بيّنة و مهارة جليّة و لعل ّالكاتب المغربي عبدالله المتقي يعتبرمن بين هؤلاء المبدعين. عبدالله المتقي هو شاعر أتى على صهوة القصيدة النثرية و حطّ رحاله على الأرض البكر للقصة القصيرة جدا، فبعد ديوانه ” قصائد كاتمة للصوت” ومجموعة قصصية ممهورة ب ” الكرسي الأزرق .. أصدر أخيرا كتابا بعنوان ” قليل من الملائكة” ، و يبدو أن تأثير الشعر فيه و القصة بيّنا إن على مستوى الصورة أو الأسلوب. في “ قليل من الملائكة” يبدو الكاتب متمركزا حول ذاته المبدعة، لذلك نلاحظ أنه ينفرد بدور الراوي و لعلّ ذلك يمثل الخيط الناظم في كل قصص المجموعة و لا يرضى أن يترك مكانه لغيره ربما يعتبر نفسه كمبدع من مهمته أن يتحمّل مسؤولية مجتمعه أن يتمثّل الآخر و يعبّر عن مشاغله و همومه .. فنلاحظ رفضه التقوقع حول ذاته الضيقة ، و انعزال أناه المتفرّدة بل ينفتح على الخارج و يتواصل مع العالم و يرصد بقع الجمال المتناثرة في الحياة ثم يعود إلى ذاته ليكتب ذلك بطريقته فتراه ينثر فتات كيانه المتشظيّ حوله و ربما لذلك اختار أن يهدي مجموعته القصصية إلى امتداده نضال و يهدي قصصا أخرى إلى بعض أحبته.. لعل أهمّ ما نلاحظه في الق الق ج أنه يقوم فيها بالحكي .. انه يحكي ليرصد وجوه الحياة في مجتمعه فيواجهها مرة بالسخرية و مرة بالألم، فكانت قصصه كما لسعات يوقظ فيها القارئ على صدمة انتحار كاتب و فجيعة حب متعفّن و بؤس طفولة تائهة و إحباط مواطن يائس.. كل ذلك و غيره يشتغل عليه الكاتب عبدالله المتقي بحرفية مميزة و مهارة عالية . ** فجيعة الكتابة .. أهم ما لفت انتباهي في قصص عبدالله المتقي أنه يرصد حالات الكتابة والكاتب ، و هي تيمة مهمة لأن الكاتب هو مرآة مجتمعه يعكس ذاته المتشظية في قاع المجتمع و ينظر بعين لاقطة إلى ما حوله و ينقله إلى أوراقه البيضاء.. ينقل عبدالله المقي أجواء الكتابة .. المحفوفة بالخطر في قصة ” سمكة حمراء” ( ص 33 ) : الساعة السابعة ، الصباح أنيق كالغبار و الجو يغري بالكتابة، في عربة القطار ناولته سمكة حمراء و ناولها هو تمثالا لحيوان خرافي.. نزلا من القطار و سارا جنب الى جنب، من كشك الى كشك و من مطعم الى مطعم. في الفندق نسيت حيوانها الخرافي كما نسي هو سمكتها الحمراء. يقدم عبدالله المتقي الأجواء الزمكانية للكتابة كما يؤمن بها : الزمن : صباح أنيق كالغبار يما يعني أنه صباح ملبّد، مغبّر يكاد يكون صباح مظلم بائس لعلّه يبرر رغبة الكاتب في الكتابة أو لعلّ الغبار قد اكتسب في عين المبدع جمالية ما فأصبح له أناقة ممكنة طالما أن الكاتب جعله مؤهلا للكتابة.. المكان : قطار هوالحياة باهتزازاتها المتواصلة التي تربك فيها الناس البسطاء يمينا و يسارا و هم يلهثون خلف خبز يومهم.. و عبدالله المتقي يعتبر أن هذا هو الوضع الملائم للكتابة .. وسط المجتمع، في الزحام كأنه يستجيب لقولة ماركس عندما يؤكد أن المجتمع هو المادة الممكنة للكتابة.. الشخصيات : الرجل و المرأة .. الأطروحة و نقيضها حتى تستقيم الحياة.. لكن نلاحظ المفارقة بينهما، الأنثى حالمة ( سمكة حمراء) و الذكر أصبح مثقلا بالماضي (تمثال لحيوان خرافي) و كليهما بمنأى عن الحاضر.. ربما يريد أن يشير المتقي الى صعوبة أن نعيش الواقع و أن نقول الراهن الانساني في هذا العالم / الفوضى ألم يحوّل القاص حميد ركاطة شخصيات قصصه الى حيوانات يجعلها ناطقة بأحوال البشر لتعّبر عن معاناتهم و تكشف ضيمهم..؟ نزلا من القطارسارا جنب الى جنب من كشك الى كشك و من مطعم الى مطعم هي البلاد قد تحولت في زمن العولمة إلى أكشاك و مطاعم و محلاّت ..كأن البلاد فندق كبير و المواطنون مجرد نزلاء يغيب لم يعد لهم الشعور بالاستقرار و الإحساس بالانتماء لوطن ، بامتلاك هوية.. إنها منتهى التراجيديا .. و قمة المأساة أن يصبح الناس غرباء في ” أوطانهم” ذلك عينه ما أشار إليه التوحيدي عندما قال ” الغريب من هو في وطنه غريب..”.. يحدث ذلك عندما تعصف رياح العولمة المتوحشة على الجنوب فتحوّل بلدان العالم الثالث الى أسواق استهلاكية و الأوطان الى فنادق.. و يضيق الفضاء على عصفور الإبداع فيعجز عن التحليق.. “في الفندق نسيت حيوانها الخرافي كما نسي هو سمكتها الحمراء..” لعلهما اكتشفا الجسد الذي اعتبره نيتشة الحقيقة الوحيدة الممكنة.. لعلها عودة الى الرغبة الواعية كما يقول سبينوزا، لعلها حلم لتجاوز الواقع على طريقة فرويد.. و قد قال الكاتب التونسي الكبير محمود المسعدي في رائعته الشهيرة ” حدث أبو هريرة قال ..” متحدثا عن تجربة الجسد الذي اختارها بطل الرواية مع راهبة في ديرها ” كانوا يحسبوننا في الدير و كنّا في الشيطان..” لكن هل حقا سيعود الكاتب إلى الوطن / الفندق و ينغمس في لذائذ الجسد و يغفل عن شغفه بالكتابة.؟ يعود بنا القاص إلى طقوس الكتابة.. ليرصد حال الكاتب الذي يحترق من أن أجل أن تزهر كلماته فيخضرّ الوطن.. لذلك يرسل بضوئه إلى روح المبدعة مليكة مستظرف الذي قطفها الموت في عزّ الحياة و كأن مليكة شهادته على الدمار الذي يحدق بالكاتب انها تجسّد الوضع الحقيقي للمبدع في بلدان الجنوب حيث يضيق به الحال و تشتد به المحن و تحاصره الأمراض ” فيستجدي العلاج في بلاده”.. و من خلال مليكة مستظرف يريد عبد الله المتقي أن يشير الى الموت الرمزي الذي يتعرض له المبدع في أوطان الجنوب هو التهميش و الإقصاء و اللامبالاة وهو بذلك يضع أصبعه على موطن الداء حتى لا تتكرر مأساة الكاتبة مليكة مستظرف بطرق أخرى و يتناسل المبدعون تدريجيا و دون انتباه في اتجاه الموت الرمزي الذي هو أشدّ و أعنف . يقول الكاتب عبدالله المتقي في” قصة ( غير ) منسية “- الإهداء إلى مليكة مستظرف – ( ص 17 ) : قبعة بالمشجب يذرف دمعا ناشفا ، معطف أسود يرتعش من البرد كرسي يجلس القرفصاء علبة أنسولين قطة رمادية تتفرّج في ذهول بضع مسودات قصصية و جثة غارقة في الموت.. مشهد .. لا يحتاج إلى تعليق، يحتاج فقط طاقة لتحمّل المشهد.. هذا هو مآل الكاتب ( ة ) ، هذا ما يمكن أن ينتهي إليه : دمع / حزن/وحدة/فراغ/ وحشة/ رائحة دواء/ و جثة غارقة في صمتها.. يقول برهان غليون ” ليس هذا الزمان زماني فكأني فيه وحيد، و ليس في هذا المكان مكاني فأنا عنه غريب..” و تلك هي حالة المبدع انه يعيش الغربة القاتلة.. انه وحيد في وحدته، غريب في غربته لذلك قال التوحيدي ” الغريب من هو في غربته غريب” و تبدو الكلمات التي يختارها الكاتب عبد الله المتقي تزيد من الإيقاع الدرامي الحاد إلى حالة أشدّ هي حالة اغتراب و يعتبر ماركس أن الاغتراب هو حالة استلاب الذات بمعنى يشعر فيها الفرد أنه ليس المالك الحقيقي لذاته و يذهب ماركس الى اعتبار الظروف الاجتماعية هي التي تبعث شعور الاغتراب عند الفرد.. ربما لذلك يلجأ عبد الله المتقي الى يأس قاتل لعله نهاية منتظرة في ظل راهن بائس و عولمة متوحشة تخنق القيم الإنسانية و تقتل الإنسان لذلك اختار عبدالله المتقي التصدير التالي لكتابه : كلما رأيتم رجلا ذا ميول كلاسيكية، رجلا لا يصاب بالجنون و لا يمارس الانتهاك اقبضوا عليه و زجّوه في السجن انه يشكل خطرا على الانسانية ( هنري ميللر) . و لذلك ربما لا يفاجئنا عبدالله المتقي اذا يدفع بكاتبه الى الانتحار.. من ذلك قصة ” مجرد انتحار” ( ص 23 ) : غرفة مثلجة قطة تنام في فروها قلم جاف و عاطل عن الكتابة و جثة تتدلى من السقف ( يمكن التفكير ببساطة في أن ما وجدته الشرطة في هذه الغرفة الباردة مجرد انتحار ). يفسر علماء النفس أن ” الانتحار تختلط به الكثير من الأحاسيس منها الانعزال و اليأس و الاكتئاب و الشعور بألم انفعالي لا يطاق و لا يوجد حل سوى الانتحار..” بهذا المعنى يصبح الانتحار عبارة عن صرخة حادة يطلقها عبد الله المتقي يريد بها هزّ العالم من كتفه و يطالب فيها بحياة كريمة للكاتب لا يضطر فيها لتسوّل الدواء و جرعة أكبر من الحرّية تحلّق فيها طيور أفكاره دون قيود.. لأن وظيفة الكاتب أن يكون صدى ا لواقع و الضمير المتكلم للمجتمع.. لذلك ليس الانتحار سوى تعبير عن رغبة في الحياة بشروط قيمية و إنسانية و جمالية جديدة.. لهذا لا يزال عبد الله المتقي يكتب قصصه القصيرة جدا و الثرية جدا بّشغف خاص. ** تقنية القص : تقنية الكتابة عند عبدالله المتقي تبدو متأثرة بالأسلوب التجريدي الذي يأنف فيه عنا التقريرية و مهادنة الواقع بل يفضّل أن يرتقي بقارئه و يجعله يفكر معه و يستكشف بنفسه الأبعاد الدلالية لقصصه و لعله بذلك يؤسس لنمط الكتابة الذهنية في القصة القصيرة جدا، و نلاحظ أن هذا الأسلوب الترميزي يكاد يكون سرياليا في أحايين كثيرة و يبدو ذلك في طريقة اختياره للألفاظ و تركيبه للجمل اذ هناك نوع من التقطيع لتلك الجمل و إعادة تركيبها وفق نظام داخلي يربك فيه القارئ الذي اعتاد على السرد المتراص و ألف انتظام ثابت في التعامل مع اللغة لذلك يقول الكاتب عبدالله المتقي في أحد حواراته انه يتعمد الشغب في كتاباته و يوضح فيقول” انه شغب بمثابة لعب ضد نظام أدبي و اجتماعي متصلّب “ و يمكن أن نتبين شغبه هذا في قصة ذات ( ص 58) : "ذات شتاء قديم، ماتت زوجته بأنفلونزا الطيور. ذات ربيع أزرق عاد الى بيته في الخامسة صباحا و بعض الزمان. ذات صيف حارق رمى نفسه من النافذة في الشارع الخالي. و ذات خريف حزين جلس قريبا من جثته يعوي كما ذئب جائع." الكتابة القصصية عند عبدالله المتقي تأتي مضمّخة بماء الشعر من خلال بناء الصور الشاعرية أنظر قصة في انتظار غودو مثلا ( ص 60) : السادسة و النصف صباحا: مغمغم زوجته في فمها سريعا، و لم يغلق الباب خلفه.. السابعة الا ربع : كان وحيدا في المحطة ينتظر قطار السابعة. الحادية عشرة شتاء و .. لم .. يأت القطار الرابعة زوالا : تحول الرجل المسافر الى تمثال من خشب. و في الصيف القادم : شوهدت الصراصير تنخر التمثال الذي لم يسافر. أيضا الشعر كان حاضرا بامتياز من خلال اللغة الشعرية أنظر معي جمال اللغة في قصة قمر و حكاية مثلا ( ص65 ) : محطة البنزين أنيقة هذا الصباح، لأن المطر توقف غزيرا على عتبات الفجر و بعد ساعة سيتسلل رجل بلا ضوضاء، تحت معطفه الشتوي حكاية صفراء، علبة سجائر و قلم أزرق. بعد السيجارة الأولى التي تنفض عن عينيه قصة الليل الطويل ينثر الرجل ضجيج صمته فوق المائدة بين الفناجين و يعود لقمره المنسي ثم أصبح ثانية وحيدا. و ان كنت لا أفصل بين الصور الشاعرية و اللغة الشعرية إلا من منطلق إجرائي بحت .. ذلك ان عبد الله المتقي يمزج بينهما في رهافة بيّنة و مهارة جليّة.. الكاتب عبد الله المتقي في هذه المجموعة قدّم نفسه كأحد فرسان القصة القصيرة جدا الذين تفتخر بهم المغرب و الذي يكتب ليقول ذاته أولا و في ذاته يقول الآخر أيضا.. انه يكتب ليواجه الرداءة و يحارب الموت و يتحدى الفوضى، يكتب ليحتفل بالحياة و يدافع عن الإنسان.. أينما كان. ================== فاطمة بن محمود/قاصة تونسية