فقدت ساحة الأغنية الأمازيغية في سنة 2014 رمزا من رموز التجديد والحداثة، وهو الفقيد عبد العزيز الشامخ، الذي ظل يعزف لحن الحياة وترسم شفتاه أنشودة المحبة والخير والاعتراف، وتشع في عينيه رغبة طافحة وجامحة للاستمرار في خدمة الفن والحياة والإنسان، إلى أن أطفأت رياح القدر شمعة الأمل والشغف بالغرقة رقم 301 بالمستشفى العسكري بالرباط، فانتهت بذلك فصول حكاية الفنان الأمازيغي عبد العزيز الشامخ كما طويت بذلك صفحة مشرقة من صفحات الأغنية الأمازيغية العصرية. وكانت بداية فصول الحكاية بمسقط رأسه بمدينة الدشيرة، أحد المراكز المشكلة لحزام البؤس لمدينة أكادير، حيث ارتبطت نشأة هذا الفنان الأصيل، منذ نعومة أظافره بفضاءات شهدت ميلاد التباشير الأولى لصيغة المجموعات في الأغنية الأمازيغية المعاصرة، بأدواتها ووسائلها الإيقاعية والوترية الجديدة. و شكلت مجموعة »"تبغاينوزت"« أولى فلتات الصيحة الجديدة، والتي شلكت بحق انتقالا نوعيا وثورة فنية، عكست بشكل جلي رغبة الشباب في تجاوز مرحلة الركود التي عرفت باجترارها لمواضيع عاطفية تقليدية وإيقاعات جامدة تحتاج إلى عمق فني ودراسة أكاديمية وإلى التجديد والجمالية، واستعانت هذه المجموعة أو هذه »الصيحة الجديدة بآلات تستجيب للموضوعات والإيقاعات الجديدة. وبعد مرحلة" »تبغاينوزت"« و مرورا بمجموعة »"لاقدام«"، جاءت مرحلة التأسيس ، حيث نجحت المحاولات والاجتهادات التي دشنها مجموعة من شباب انزكان والجرف وتمسيا والدشيرة، والذين يشتركون في ولعهم وتعلقهم المهووس بالإيقاع الأمازيغي المتنوع، نجحوا في وضع الإرهاصات الأولى لمجموعة إزنزارن، وذلك عبر إعادة أداء أغاني مجموعة "لاقدام" وترديد الإنتاجات العفوية الأولى لمجموعة »"تبغاينوزت"«. وكان لانحدار أفراد المجموعة من شرائح اجتماعية شعبية وبسيطة دور كبير في إضفاء اللمسة الحزينة على إنتاجات المجموعة، وخاصة في مرحلة النضج في النصف الثاني من عقد السبعينات، حيث الكلمات تنطق بالبؤس والمعاناة. واستطاعت مجموعة ازنزارن أن تعتمد البُعد العاطفي والعمق الإنساني لضمان الانتشار والإشعاع والاستمرار والخلود، بل إنها نجحت في تجاوز الحدود الجغرافية والإثنية واللغوية عند أجيال متعاقبة، كما ساهمت إيقاعاتها المتنوعة والغنية في منحها إشعاعاً وطنياً ودولياً، خاصة عندما استفادت من تجربة »ناس الغيوان« ومن خبرة وتعليمات الفنان عمر السيد، فتغنت بقضايا المجتمع كالظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي والرشوة، وكانت نقلة نوعية على مستوى الكلمات والمواضيع، وإضافة نوعية على مستوى جمالية وتعبيرية المشكل. فاختارت في تلك المرحلة أن تطور اللغة الشعرية، وذلك باعتماد لغة شاعرية رمزية تليق وتنسجم مع المواضيع في قوتها وحساسيتها وراهنيتها. وفي سنة 1976 أي في مرحلة التأسيس، اختار الفنان المرحوم عبد العزيز الشامخ أن يغرد خارج السرب باحثاً عن فضاء آخر يمارس فيه شغفه وشغبه الفني بحرية أكثر وبحماس أوفر، فعاد إلى مدينة الدشيرة ليؤسس مجموعة »إزنزارن الشامخ«. وكيفما كانت أسباب هذا الانشطار والفراق، فإن كل المهتمين بشأن الأغنية الأمازيغية وكل عشاقها، فالكل أجمع على أن التجربتين معاً قدمتا إضافات وخدمات للأغنية الأمازيغية وللمشروع الفني التواق إلى التجديد والتحديث بحكم تميز كل واحدة من المجموعتين بتوجهها الخاص وبمسارها المتميز والناجح، فإذا كان الفنان القدير عبد الهادي إيكوت ينفرد بقدرات ومهارات فردية في العزف على مجموعة من الآلات الموسيقية ويملك صوتاً سحرياً ذا نبرات قوية، فإن المرحوم عبد العزيز الشامخ يتميز بصوته الشجي، والذي نجحت نبراته في إحياء وأداء الأغاني القديمة والكلاسيكية كأغاني الحاج بلعيد والرايس بوبكر أنشاد وبوبكر أزعري وغيرهم، كما أبدع في إرساء إيقاعات غنية تليق باللغة الشعرية التي اختارها في معالجة مواضيع الهوية والصحراء والمرأة والشباب والأصالة، في قالب فني يعتمد الرمزية والاستعارة والحبكة الفنية. ولقد نجحت مجموعة »إزنزارن« في وضع الأسس ورسم القطيعة والمسار.. ودشن هذا المشروع الفني أو هذا المذهب الفني الجديد مجالاً آخر ومتنفساً حيوياً للأغنية الأمازيغية، ونجحت في معركتها ضد المترددين والرافضين للتجديد والتحديث، فأوصلت هذا المشروع إلى بر الأمان محققة تجاوبا واسعا مع طموحات الشباب المهووس بالتغيير والتجديد وتجاوز واقع الركود واجترار أساليب عتيقة ومتجاوزة في مجمل التعبيرات الشعبية. ولقد تمكنت ظاهرة إزنزارن من إسقاط الحواجز والأقنعة التقليدية إثر نجاح الأغنية الغيوانية في ملامسة وجدان وقضايا الشباب المغربي الطموح إلى العدالة وإلى المساواة وإلى التغيير.. وهكذا انتعشت مجموعة إزنزارن فنيا من حجم وصدى الزلزال الذي أحدثه تمرد الزاوية الغيوانية على المنتعشين والمروجين وواضعي القوالب والأنماط الفنية البورجوازية كلمة ولحنا ، كما انتعشت من سقوط برج النخبة والأوصياء على الفن، والذي تمارس فيه وصايتها، باعتماد الأساليب والمعايير التقليدية المحافظة والمتعامل بها في فضاءات الإبداع والتعبيرات الشعبية بكل أنواعها وفي كل مجالاتها. لقد ساهم الفقيد عبد العزيز الشامخ في هذا المشروع الفني الوطني، وشارك في وضع معالم هذا المذهب الفني الحديث ، الذي يمثل مؤشرا صريحا وجريئا على انعتاق الأغنية وجرأتها وراهنيتها، وهي تتلمس مسارا تقدميا وإنسانيا ووطنيا، وانسجاما مع الرسالة الإنسانية والوطنية النبيلة للفنان. لقد أكملت رسالتك الفنية، وأديت مهمتك الوطنية، فنم قرير العين مرتاح الضمير، وإن أهلك وأصدقائك وعائلتك الصغيرة وشباب الأغنية الأمازيغية الذي تربى ونشأ في أحضان تزنزات، فالكل يشهد بشموخك ووفائك وانفتاح قلبك الكبير على الحياة والإنسان والوطن، أما الذين تخلفوا عن عيادتك في غرفتك الأخيرة، فإنهم أخطأوا مرة أخرى حين تخلفوا عن القيام بواجب يحتمه الوازع الأخلاقي والوطني والديني والإنساني.. قبل أن الواجب الانتخابي. فليس عيبا أن تنهج جمعيتي تهتم بالسؤال الأمازيغي ثقافة وفنا ولغة خيارات معينة في أنشطتها الإشعاعية والتحفيزية ومبادراتها في الاعتراف بالفعاليات الأمازيغية المبدعة والمتألقة في مجالات مختلفة كأن تختار تكريم شخصيات وفعاليات أمثال: أحرضان وأحيزون وأوزين.. غيرها، ولكن العيب يكمن في إهمال وتجاهل فعاليات ومبدعين يستحقون، على الأقل، دعما معنويا والتفاتة اجتماعية إنسانية، وخاصة بعض الحالات الاجتماعية التي تعاني الفقر والحاجة والمرض ( من قبيل الحاج أحمد أمنتاك، وفقدان البصر من قبيل امحمد أبو جكل.. والذين يعيشون في عزلة رهيبة وصمت غريب. كما أن من حق كل جمعية أن تختار بوعي واقتناع ميثاقها الثقافي والجمعوي، وأن تضع معايير واعتبارات عند تكريم وإقرار الاعتراف بفعاليات أمازيغية في مجالات السياسية والفكر والفن واللغة، والتي ترى أنها تستحق أن تعتز بها وتحفزها على الاستمرار في الاجتهاد والبحث والإبداع، ولكننا كنا نود أن تمتد أيادي الدعم المعنوي إلى فعاليات أمازيغية معروفة ببساطتها وتلقائيتها وانتمائها وانتمائها إلى الأوساط الشعبية، وتواجدها الإبداعي والوجداني في كل الملتقيات الإبداعية. ففي مدينة تيزنيت والتي اعتادت أن تحتفل بعيد رأس السنة الأمازيغية، على وقع التكريمات والاعترافات وإحياء النماذج التراثية المحلية، كنا نفضل أن يتم رد الاعتبار لمجموعة الرايسة »مباركة« بتكريم من لازالت على قيد الحياة من نساء المجموعة وإحياء أهازيج وكلمات ومواويل المجموعة، كما كنا نرى أن الباحث محمد واخزان المختص في ظاهرة الروايس أحق بالتحفيز على مواصلة أبحاثه وتنقيباته في هذا المجال. ألا هل بلغت... اللهم اشهد.