للبدايات سحرها الخاص ،تبقى دائما عالقة في الذاكرة والوجدان، مثل ظلنا القرين،لصيق بنا في الحل والترحال، مهما كانت الإخفاقات أو النجاحات فلن يستطيع الزمن طيها. البدايات كانت دائما صرخة اكتشف معها المرء لغز الحياة، وككل بداية أو أول خطوة تحضر الدهشة بكل ثقلها، نعيش تفاصيلها بإحساس مغاير تماما ،وهو الإحساس الذي يكتب له الخلود ،نسترجعه بكل تفاصيله وجزيئاته، كلما ضاقت بنا السبل أو ابتسم لنا الحظ وأهدانا لحظة فرح عابرة. البدايات في كل شيء، دائما هناك سحر غامض يشكل برزخا بين الواقع وماتتمناه النفس الأمارة بالحياة والمستقبل الأفضل. في هذه الزاوية نسترجع بدايات فنانين مغاربة عاشوا الدهشة في أول عمل فني لهم، واستطاعوا تخطي كل الصعوبات كل حسب ظروفه المحيطة به، ليبدع لنا عملا فنيا ويهدينا أغنية تشكل اليوم له مرجعا أساسيا في مسيرته الفنية ،وتشكل لنا لحظة بوح من خلال استرجاع عقارب الزمن إلى نقطة البدء، وتسليط الضوء على ماجرى.
في سن السابعة من عمري كنت أغني داخل الفصل الدراسي بمدرسة ابن بطوطة بمدينة سلا ،يتذكر هذه الفترة جيدا الفنان محمد الغاوي ، يقول وهو يسترجع ذكرياته ،لن أنسى أستاذتي سعاد حركات التي كانت تدرسني بالقسم التحضيري، إذ كانت تدعوني للغناء بين الفينة والأخرى، وأؤدي أغاني أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، التي كنت أستمع إليها بإحدى المقاهي المجاورة لمنزلنا بالمدينة العتيقة سلا،كما كانت ترافقني خالتي إلى السينما وأنا طفل ،آنذاك كانت تعرض أفلام عبدالحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب، ومن ثمة بدأ ارتباطي بعالم الغناء. كما تعلمون يقول الفنان محمد الغاوي، فمدينة سلا مدينة تراثية، معروفة بالملحون والأندلسي وعيساوة، وبما أنني عشت في وسط شعبي ،اطلعت على مجموعة من الأصناف الإبداعية، وكنت حريصا على حضور اللقاءات الفنية التي تبرمج في المنازل كل يوم خميس ،في إحدى المرات لما كنت أدرس في المرحلة الثانوية شاركت في مسابقة التي تقام نهاية العام بثانوية النهضة ،لأفوز بالجائزة الأولى عن أدائي لأغنية «أمل حياتي «لكوكب الشرق أم كلثوم ،حينذاك تأكدت من موهبتي. لكن قبل ذلك يقول الفنان الغاوي، كنت أتردد على برنامج إدريس العلام الذي كنا نلقبه ب «باحمدون «ولم نكن نتررد في الذهاب مشيا على الأقدام من مدينة سلا إلى مدينة الرباط للمشاركة في هذا البرنامج الذي كان يعنى بالغناء والتمثيل . الإخوة الذين جايلوني في الإذاعة الوطنية يشهدون بأنني كنت مولعا بالغناء منذ طفولتي، لكن الولع الحقيقي بدأ مع برنامج «مواهب «للموسيقار عبدالنبي الجيراري الذي كان بمثابة الأب، أقولها باعتزاز ،وهو من تبناني فنيا وكان يتعامل معي كأنني أحد أبنائه، إلى درجة أنني كنت ألج إلى منزله كأنني أحد أفراد أسرته، وكنت محافظا للبرنامج لمدة 13سنة. ظلت علاقتي بالأستاذ عبدالنبي الجيراري قائمة طيلة مشواري الفني إلى أن وافته المنية رحمه الله، ولن أنسى فضله علي ماحييت. سنة 1979يقول الغاوي نظمت الإذاعة الوطنية مسابقة أضواء المدينة ،وهو البرنامج الذي كان يشرف عليه المرحوم حميد العلوي والمرحوم إدريس التادلي والمرحوم محمد أبو الصواب والمرحوم محمد بنعبدالسلام المسؤول في قسم البرامج،حيث كانت هناك جولة عبر ربوع المملكة ،وقد احتضن مسرح محمد الخامس بالرباط النهائيات ،التي شارك فيها 14متشرحا ومترشحة، لأفوز بأحسن صوت رجالي عن أدائي لأغنية محمد عبد الوهاب «مضناك جفاه مرقده» في حين فازت الفنانة رجاء بلمليح رحمها الله بأحسن صوت نسائي عن أدائها لأغنية أم كلثوم «وحقك أنت المنى والطرب «وكانت الإذاعة قد التزمت بتسجيل أغاني للفائزين ،هكذا سخر لي الله يقول محمد الغاوي أن أتعامل في بدايتي الفنية مع الأستاذ علي الحداني والملحن محمد بلخياط في أول عمل فني الذي اعتبره مفتاح شهرتي ويتعلق الأمر بأغنية «الغربة والعشق الكادي «. عن الكواليس المرتبطة بهذه الأغنية يقول محمد الغاوي، هذه الأغنية ولدت في ظرف وجيز جدا، ففي منزل الأستاذ حميد العلوي بشارع علال بن عبدالله بالرباط، اجتمعنا وكان معنا الأستاذ علي الحداني والفنانة فاطمة مقدادي ،وكان علي الحداني يريد أن يختبرنا، حيث منحنا كلمات الأغنية وانزوى في إحدى الصالات،بعد ساعتين تقريبا أو ما يزيد أكملنا العمل ودعونا الأستاذ الحداني للاستماع إلى الأغنية، ما أن استمع إليها حتى انهمرت دموعه وخاطبنا «لأول مرة جوج شبان يبكيوني «فحمل الورقة التي كان مكتوب فيها كلمات الأغنية وقبلها وأهداها لنا مجانا. سجلنا «الغربة والعشق الكادي «مع الجوق الوطني عوض جوق فاس ،بعدما استعطفنا سي أحمد البيضاوي وبتدخل من سي عبدالقادر الراشدي رحمهما الله يروي محمد الغاوي. وعن الصعوبات التي واجهته في البدايات يقول ، هذا المجال كله عراقيل وصعوبات، لكن ما أجمل أن يتوج عملك ومجهودك بتفاعل الجمهور الذي تعاطف معنا وشجعنا كثيرا، بعد أول أغنية شاركت في جل الملاحم الوطنية التي تمت آنذاك سواء التي كان من ورائها محمد حسن الجندي أو الطيب الصديقي وأديت أيضا مجموعة من الأغاني الوطنية والعاطفية، حيث كان اسمي إلى جانب أسماء فنية كبيرة مثل سميرة سعيد التي كانت في أوج عطائها وكذلك محمد الحياني عبدالهادي بلخياط نعيمة سميح محمود الإدريسي محمد علي عبد الوهاب الدكالي المعطي بنقاسم أحمد الغرباوي الحاج العربي الكواكبي عبدالواحد التطواني وغيرهم ،وأصبحت أشارك إلى هؤلاء العمالقة سواء في قافلة التنمية أو قطار التنمية وفي الملاحم . ويرى الغاوي أن محبة الجمهور كنز ثمين، وهناك تجاوب كبير بيننا سواء داخل المغرب أو خارجه، وبفضل هذا المجال شاركت في العديد من التظاهرات الفنية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، دول أوربا كلها ومجموعة من الدول العربية، قمثلت الأغنية المغربية أحسن تمثيل. وعن الوضع الفني حاليا مقارنة مع الماضي ،عن ذلك يقول هناك اختلاف كبير ،في الماضي كنا نشتغل في ظل وجود إذاعة واحدة وتلفزيون واحد ،الآن أصبح العالم قرية صغيرة ،يكفيك أن تسجل أغنية في هاتفك وتنشرها لتغزو العالم ،وحتى الأغنية المغربية تغيرت ،لكن يبقى الزمن الجميل له نكهته الخاصة ، ومازالت رغم كل شيء حاضرة في سهراتنا وفي الحفلات العائلية وحتى الشباب أصبحوا يعيدون أداء أغاني الرواد، فالأغاني القديمة هي الحجر الأساس والرواد سواء في المغرب أو في الشرق مثل محمد عبد الوهاب فريد الاطرش أم كلثوم اسمهان عبدالحليم حافظ وغيرهم سيبقون هم المدرسة الكبيرة التي يتتلمذ عليهم الجيل الحالي إن أرادوا شق طريق النجاح الحقيقي. وعن الأسماء التي مازال يتعامل معها والتي تعاملت معه في البدايات ،يؤكد الغاوي ،لازلت أتعامل مع الملحن محمد بلخياط كما تعاملت مع جل الملحنين المغاربة مثل عزالدين منتصر عبدالقادر الراشدي عبدالله عصامي علي الحداني أحمد الطيب لعلج طاهر سباطة فتح الله لمغاري الذي تعاملت معه في أغنية «ألف هنية وهنية «وقد أديتها في زفاف الأميرة الجليلة للا أسماء برفقة فاطمة مقدادي. أول عمل فني للغاوي «الغربة والعشق الكادي «لن أنساه يقول ،لقد كانت شيئا مختلفا على ماهو سائد من حيث الصوت الذي أحبه الجمهور كما أن الموضوع كتبه علي الحداني بدقة وهو يصف الغربة ،وهناك طلبة قدموا أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه واتخذوا أغنية «الغربة والعشق الكادي «كنموذج لبحثهم حول الأغنية المغربية.