في واحتها الصيفية تعود «المساء» إلى أرشيف الأغنية المغربية لتنبش في ذكرياتها، وتكشف بعضا من المستور في لحظة إنتاج هذه الأغاني، من خلال شهادات شعراء وملحنين ومطربين ومهتمين كانوا شاهدين على مرحلة الولادة، شهادات تحمل لحظات النشوى والإمتاع في الزمن الجميل للأغنية، وأخرى تحرك جراح البعض الذين يصرون على البوح للقارئ رغم جرأة البوح وألمه في بعض الأحيان. «كين ندير نقاوم هادي، كين ندير نصارع هاديك الغربة والعشق الكادي، ويا كلبي تحاماو عليك حيرتي نرجع لبلادي، ريحها دوا يداوي غريب أنا واش داني، نعشق ونضيف لحالي حال لميمة طلي تلكاني، شبر يفارقني علهبال» هي نبض للمغتربين والمنكسرين والمبعدين الذين حملتهم الأقدار بعيدا عن ألفة ذويهم وحضن أحبابهم وعاشقيهم، هي آهات للأمهات والأبناء الحالمين بنظرة غالية ممن تاهوا بين وحشة الفرقة، وهي تعبير عن حضن لكل المغاربة اسمه المغرب. الغربة والعشق الكادي ويا قلبي تحاماو عليك... هي كلمات للزجال المبدع الراحل علي الحداني ونفحات من الملحن الرقيق محمد بلخياط وإبداع جميل من المطرب محمد الغاوي. عنها يقول محمد الغاوي في دردشة مع «المساء»: «قبل أن أتحدث عن هذه الأغنية، لابد من التذكير بعدة أحداث سابقة عن أغنية «الغربة»، لكنها مهدت لولادتها، تبتدئ القصة في سنة 1972 حينما كنت أقطع المسافة بين الرباط وسلا مشيا على الأقدام لحضور برنامج «مواهب» الذي كان يشرف عليه الموسيقار عبد النبي الجيراري، الذي اطّلع على حالتي العائلية الضعيفة، التي جعلتني أقطع كل هذه المسافات، لاسيما بعدما شاهد العرق يتصبّب من جبهتي، فقرر أن يتخذني محافظا للبرنامج لمدة عشر سنوات. خلال هذه المدة وثقت مشاركة أهم الفنانين الشباب الذين مروا بالبرنامج كعبد الهادي بلخياط والبشير عبده وليلى غفران وفؤاد الزبادي وعزيزة جلال ورجاء بلمليح...، هذه المحطة استفدت منها كثيرا، قبل أن تعلن الإذاعة في سنة 1979 عن تنظيم مسابقة «أضواء المدينة» التي كان يشرف عليها حميد العلوي، فترشحت وخضت التجربة رفقة 14 موهبة وأديت أغنية «مضناك جفاه مرقده» لعبد الوهاب التي نصحني الملحن الراحل حميد بنبراهيم بأدائها، وأتذكر أن ضيف الشرف في السهرة كان عبد الهادي بلخياط، وبعد منافسة قوية فزت بجائزة أحسن صوت رجالي، في حين فازت رجاء بلمليح بجائزة أحسن صوت نسائي في سنة 1980 بعدما بثت السهرة في الإذاعة والتلفزة المغربية، وأعتقد أن ذلك كان بالأبيض والأسود». ويواصل محمد الغاوي رحلة النبش في إرهاصات ميلاد أغنية «الغربة»، بالقول: «بعد هذا الحدث وعدتنا الإذاعة بتسجيل الأغنية، وظل الحال على ما هو عليه ما بين سنتي 1980 و1983، وفي يوم من أيام هذه السنة الأخيرة، التقيت بالسي حميد العلوي الذي عرفني على الزجال المبدع علي الحداني في مقهى «باليما» الموجودة أمام مقر البرلمان، وكان منطويا على نفسه ويميل إلى الصمت، فقال له بنبراهيم: «بغيناك أسّي الحداني تدير لينا شي أغنية لهاد الشاب»، فتردد علي الحداني الذي ألف الاشتغال مع الأسماء الكبيرة أمثال بلخياط والدكالي ونعيمة سميح، فطلبت منه أن يشجعني وقلت له: «إذا ساعدتني ستكون لي الشهرة في المجال الفني المغربي»، وبعد أسبوع من ذلك أرسل العلوي يطلبني للقاء الحداني مرة أخرى، في هذا اللقاء سألني الأخير عن الاسم الذي أقترحه للاشتغال معه، فقلت له أريد أن أشتغل مع محمد بلخياط، وفوجئ لماذا لم أختر الراشدي أو القدميري، ورد على طلبي: «شوف إيلا عجبتني أنت وبلخياط، خودو الأغنية والله يسهل عليكم»، واشترط أن نقدم له الأغنية في مدة أقصاها العاشرة مساء، مع الإشارة إلى أننا بدأنا في الساعة السادسة والنصف، وأتذكر أن بيت الحداني كان يوجد به محمد البوكيلي، حميد العلوي، رشيد الصباحي وفاطمة مقدادي وزوجها السابق حميد العلوي». ويضيف الغاوي: «كانت لحظة حاسمة حينما بدأ الحداني، يقرأ الأغنية قائلا: «الغربة والعشق الكادي يا قلبي تحاماو عليك»، لحظتها أحسست بالقشعريرة، فنزلت دمعات من عيني محمد بلخياط، وانزويت رفقته في مكان قريب من المجموعة وبدأنا العمل، وكنا نكرر اللحن عشر مرات إلى أن اقتنعنا باللحن النهائي في حدود الساعة التاسعة مساء، وما أن انطلق بلخياط في الغناء، حتى أجهش الحداني في البكاء تأثرا باللحن. في تلك اللحظة، سجل المقطع وطلب مني أن أحفظ الأغنية لينطلق مسار التسجيل الذي حمل ذكريات أخرى». وعن ذكريات التسجيل، يقول الغاوي: «أتذكر أنني اتصلت بالموسيقارالراحل أحمد البيضاوي الذي قدمني إليه جمال الدين بنشقرون من أجل أن أسجلها مع الجوق الوطني، فتردد البيضاوي وقال: «ماغاديش نضمنك»، على اعتبار أن الجوق الوطني يشتغل مع الكبار، واتصلت بمدير الإذاعة بنداودوش بصعوبة والكل يعلم من كان دادوش، وقلت له: «أنا مزاوك فيك»، فرد قائلا: «غادي نشوف»، وبعد أيام اتصل قسم الموسيقى بوالدتي الحاجة طيمة التي أدين لها بالفضل الكبير فيما وصلت إليه، وحينما التحقت بالبيت أخبرتني بالخبر الذي كان مفتاحا للبداية والشهرة، لاسيما أن هذا يعني الاشتغال مع الكبار، وأتذكر أنه حينما سمع الراشدي الأغنية نزع وزرته وقال: الله يعطيك الصحة، ولن نخرج حتى نسجل ربع الأغنية، وحينما خرجت الأغنية وجدت منافسة كبيرة من طرف أغان لبلخياط والدكالي ونعيمة سميح والحياني... وأعتقد أنه منذ هذه اللحظة بدأت المنافسة. ومن ذكريات هذه الأغنية أنه حينما سمعها الملك الراحل الحسن الثاني قال: «سير ما غادي يكون غير الخير»، وأعتقد أن هذه الكلمات كان لها الأثر الكبير في حياتي التي تغيرت بشكل كلي، إذ إنني انطلقت من الصفر، واستطعت بفضل الله وبرضا الوالدين أن أصل إلى ما وصلت إليه من حب الجمهور المغربي الذي يحتفظ لي بذكريات خاصة عن أغنية «الغربة»». وختم الغاوي حديثه ل»المساء» بالقول:»نتمنى من الملك أن يتدخل لرفع الحيف عن الفنانين المغاربة الذين يعانون من التهميش والإقصاء». «كي ندير نقاوم هادي، كي* ندير نصارع هاديك الغربة والعشق الكادي، ويا كلبي تحاماو عليك حيرتي نرجع لبلادي، ريحها دوا يداوي غريب أنا واش داني، نعشق ونضيف لحالي حال لميمة طلي تلكاني، شبر يفارقني علهبال»