أمسية رائقة، تلك التي احتضنها الاستوديو "الخالد" رقم 1 بمقر الإذاعة الوطنية بالرباط زوال الخميس 31 مارس 2016. ورونق السهرة، صنعه فنان متمكن من طينة أصيلة، في ليلة الاحتفاء به ضمن سهرة "وفاء لهم"، التي تبثها الإذاعة بوتيرة شهرية. "أحداث أنفو" وجريدة "الأحداث المغربية" ينقلان إليكم أجواء تسجيل سهرة "وفاء لهم"، التي أعدتها وقدمتها الإذاعية الشابة جيهان ماينة، والتي تبث السبت 2 أبريل 2016. اجتمع عشاق ورفاق ومحبو محمد الغاوي داخل الاستوديو رقم 1 يحضنهم المكان برحابة بالرغم من ضيقه مساحته تصديقا للمأثور المغربي :"التيساع فالقلب". الكل كان في موعد الاحتفاء : أسماء معروفة وذات بصمة في المشهد الغنائي كانت حاضرة وحتى تلك التي استحال حضورها ماديا لرحيلها عن هذه الدنيا فقد كانت حاضرة هي الأخرى معنويا. عبد العاطي أمنا، مولاي احمد العلوي، أحمد السكوري، أحمد كورتي، عز الدين منتصر، عبد القادر وهبي، محمد اخريفي، أمال عبد القادر، محمد عفيفي، محمود ميكري، عزيزة ملاك، سليل آل ميكري، ناصر ميكري، الذي أدى "ليلي طويل"، والحسين العمراني الذي فجأ الجميع بحضوره وتقديم شهادته، الشاعرة الصحراوية أميمة السباعي.. والراحلون الكبار من مثل مكتشف المواهب عبد النبي الجيراري، والزجال المبدع علي الحداني. حب الغاوي أو احترامه أنسى الحضور الكثيف ضيق المكان وجعلهم يسبحون عاليا في أجواء الفرح والصوت الجميل واللحن الرائع مثلما تجسدا في الأغنية المغربية العصرية في عهدها الذهبي. وهو الفرح، الذي استمر منذ انطلاق السمر الفني بوصلة تراثية من الفن الشعبي مع خالد أولاد البوعزاوي ومرورا بأداء الغاوي للأغنية الملحمية "صوت الحسن ينادي" ونظيرتها "أنا مغربي من الصحراء" التي أداها الغاوي ضمن ملحمة "العهد" وهي من تأليف محمد حسن الجندي وألحان محمد بلخياط، إلى لحظة انتهائه بالرائعة الأزلية "الغربة والعشق الكادي"، التي أداها المطرب الشاب أيوب جبران. ساعاتان من السمر والألق الفنيين، صعب خلالهما مقاومة الفرح والبهجة وعدم الانصياع لكرم أخلاق محمد الغاوي. فالأمر صعب وشبه مستحيل. وتماما هذا ما أكدته الشهادات المختلفة حول شخص الحاج محمد الغاوي. إذ أجمعت حول شهامته، وخلقه الكريم، ونبيل مواقفه، وإنسانيته . "نوارة الأغنية المغربية"، "خادم القوم"، "الأب الصارم والحنون"، "المطرب الذكي"، "الفنان المجتهد"، "الفنان الموهوب والعقلاني"، "الفنان المجذوب"، "مرضي الوالدين"، "متواضع"، "قنوع"، "عاطفي" .. كثيرة هي الأوصاف، التي صبغها المتحدثون تباعا عن الحاج محمد الغاوي، الذي جعل أسرته الصغيرة، يتقدمهم أبناؤه ال3 عادل وسكينة وإيمان، تعشق أغانيه حد الوله مثلما غرس في قلوب المغاربة حب "غربته وعشقه الكادي".
صرامة أب "أب مثالي. معطاء وحنون . كنا نهابه لصرامته ونحن أطفال لكنها الصرامة، التي جعلت منا ما نحن عليه الآن.. أشخاص ناجحون في حيواتنا.. صرامة نعترف أنها كانت مفيدة في تربيتنا ونعيد إنتاجها بلا عُقد مع أولادنا لأنها أساس التربية السليمة" تقول الإبنة سكينة، نيابة عن أخيها وأختها. تلتمع العين وهي ترى حب الناس لوالدها، مجسدا من خلال الكلمات المعبرة، التي ترددت خلف الميكرفون ، أو من خلال الحضور الوازن لأناس يجمعهم بوالدها عشق الأغنية المغربية كما الحنين إلى سنواتها الذهبية الخوالي. تحس نفسها مجرد قطرة في يم حب فياض. "الغربة والعشق الكادي" .. مفتاح الخير والشهرة الغاوي والملحن محمد بلخياط ، شكلا ثنائيا متفردا. اشتغلا إلى جانب بعضهما البعض منذ بداية مشوار الغاوي الغنائي، هو الذي نافس في نهائيات مسابقة "أضواء المدينة" لسنة 1983، الراحلة الرائعة رجاء بلمليح، بأداء قصيدة "مضناك جفاه مرقده" أمام لجنة تحيكم أذهلتها براعة أداء كل من الشاب السلاوي ونظيرته البيضاوية، التي مالت الكفة لصالحها. والمشوار بدأ ب"حجة الغايب" من كلمات الطاهر سباطة، و"نهار سعيد"، ثم القطعة الدينية "سيدنا علي"، التي لحنها أحمد كورتي، وما تزال تُذاع إلى الآن مع كل موسم حج. قطع جميلة لكنها لم تنجحا في أن تمنح الانطلاقة القوية لصوت شاب يبحث عن موطئ قدم بين أساطين الأغنية المغربية حينها من مثل عبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي. بداية محتشمة، لكنها محفزة على الحفر في الصخر. والغاوي بعزيمته القوية هو صاحب التحديات، ورغبته في الغناء أقوى من أن تستسلم للواقع . وعن هذه الفترة الأولى في مسار البحث عن الذات، قال مولاي احمد العلوي :"محمد الغاوي، استفاد كثيرا من احتكاكه بمدرسة عبد النبي الجيراري، الذي كانت تربطه به صداقة متينة وكان معلمه الروحي. كما أنه عرف كيف يستفيد من احتكاكه بالفنانين الذي أسسوا للأغنية المغربية". ويضيف مؤكدا :"بطبيعة الحال حماسته وديناميكيته وأيضا قدرته على التعلم، كلها ساعدته على الاحتكاك بعمالقة الأغنية المغربية ودخول غمار المنافسة في ظل منافسة شرسة بين أصوات غنائية رجالية مهمة للغاية. وبفضل موهبته وكذلك اجتهاده نجح في أن يلفت الانتباه إليه ". وهو ما أكده أيضا الفنان المغربي المغترب في جلباب العاشق الأزلي العندليب الأسمر، عبدو الشريف، الذي قال في اتصال هاتفي بالمناسبة:"الغاوي، فنان مكافح، رسم طريقه بهدوء وثبات وبالعناد والاجتهاد والكد في وقت جد صعب لم يكن من السهل فيه منافسة أصوات شرسة.. لكنه نجح في أن يشق طريقه ويصنع مساره ويفرض وجوده". وكانت أغنية "الغربة والعشق الكادي"، التي كتب كلماتها الرائع علي الحداني ولحنها محمد بلخياط، "فاتحة خير وشهرة". وهو ما يشكل محط إجماع لا يمكن التنازع حوله يشهد عليه استقرار الأغنية في قلوب المغاربة مثلما استقرارها ضمن لآلئ ريبرتوار الأغنية المغربية.. بفضل أمنا تخلص من عقدة القرار يتميز محمد الغاوي بغنائه على وتر مرتفع . وكان "القرار"، أي النوتة الخفيضة جدا، تشكل عقدته لأن صوته "يضعف حين آدائها". لذلك، ظل الغاوي، بالرغم من ولعه بأغاني المشارقة الكبار من كوكب الشرق ومحمد عبد الوهاب والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، لا يجرؤ خاصة على آداء أغاني العندليب خشية أن "يضعف صوته". وذات مرة، امتنع عن أداء "كامل الأوصاف"، التي طالبه الجمهور بأدائها، لهذا السبب تحديدا. وفي الكواليس شجعه عبد العاطي أمنا على المغامرة ومقاومة خوفه. ظل يشجعه وهو يؤكد له أن "لا سبب حقيقي لخوفه هذا". وهكذا، عاد الغاوي إلى المنصة، و"غامر بآداء الأغنية، التي قدمها بشكل جميل جدا، تجاوب معه الجمهور التجاوب الرائع وغير المتوقع. ليتخلص الغاوي من عقدة القرار هذه"، يقول عبد العاطي أمنا في شهادته. فنان موهوب "فنان موهوب، بل هو فلتة من فلتات عصرنا وله بصمة قوية. إنه فنان بكل معنى الكلمة. عرف كيف يصقل موهبته من خلال الاحتكاك مع جميع الفنانين الكبار منهم والصغار دون استثناء. وعلى مدى 40 سنة من الصداقة، التي جمعتنا، لم أسجل عليه قط عدواة لأحد" يقول عبد الواحد التطواني في حق صديقه . ثم يؤكد :"بين كل أغنية وأخري للغاوي، تمر فترة صمت. وهي لا تعكس تقاعسا أو كسلا من قبل الغاوي بقدر ما هي تكون فترة بحث عن الجديد المميز. هو صاحب حس فني عالي متمكن من أدواته الفنية ومن الإيقاعات والأنغام. يغني بعقله وليس فقط بصوته وهو ما يخلق ميزته ويجعله مطربا أصيلا وحقيقيا. هو متطلب في عمله مع نفسه قبل الآخرين. لديه فكرته الخاصة، التي يحاول قدر الإمكان تمريرها إلى المتعاملين معه من كتاب كلمات وملحنين بشكل سلس وتشاركي. لا يفرض بقدر ما يدفع بك إلى احتواء فكرته واستيعابها وتبنيها". ومعروف أن أغاني الغاوي تولد من رحك الحكاية. ومثلما كانت ل"الغربة والعشق الكادي" الراسخة، حكايتها المعروفة، فأيضا للقطعة، التي تلتها ضمن ريبرتوار الغاوي الغنائي، وهي أغنية "سامعني"، التي كتب كلماتها الحداني ولحنها عز الدين منتصر ، (أدتها في سهرة الاحتفاء آمال عبد القادر) حكايتها الصغيرة. إذ يقول محمد الغاوي وهو يقص الحكاية :"ذات مرة، أتاني علي الحداني بكلمات الأغنية، التي أعجبت بها. ورأسا، فكرت في عز الدين منتصر، الذي تجمعني به وبأفراد أسرته المولعة بالفن علاقة صداقة كبيرة. اتصلت به، وطلبت رؤيته ولما التقينا أخبرته أنه لدي قطعة أريده أن يلحنها لي. لكن، وقبل أن أطلعه على الكلمات، التمست منه أن أزور والده. فوافق". ويواصل الغاوي قائلا :" ولما التقيت والد عز الدين منتصر طلبت منه "يدير شوية البركة" على القطعة. فقرأ رحمه الله أية الكرسي عليها. حينها فقط أطلعت عز الدين على الكلمات، التي استغرق في تلحينها 15 يوما".