سرت ليلا في شارع تحت مطر جاء في غير وقته، ملفوفا في الصمت كنت، أحمل حقيبة صغيرة، وأتأبط جريدة، وأتجه نحو المجهول. الشارع الذي سرت فيه يؤدي إلى السجن والبحر، وفي الاتجاه المعاكس يؤدي إلى محطة القطار، توقفت في منتصفه تحت شجرة مترامية الأغصان، وتساءلت: أي اتجاه أسلكه تحت خيوط هذا المطر الغريب؟ كانت السيارات تمرق في الاتجاهين، وتكسر بأضوائها خيوط المطر، والراجلون بعضهم يواصل السير على الأرصفة، وبعضهم يحتمي بواجهات المقاهي خوفا من البلل. كان الليل يبسط سيطرته، والمطر يواصل هطوله، والشارع حافلا بالصور التي تحرك بحيرة الذاكرة، فيه كتبت خطواتي كثيرا من صفحات التيه، وفيه امتطيت صهوات الصمت والكلام، وفيه انتشيت بحلاوة الأيام، وتجرعت مرارة السنين. عدت إلى الشارع من جديد، لا أنوي الإقامة فيه مرة أخرى، أفضل أن أكون عابرا خفيفا، أتنسم رائحته ثم أغادر. تبللت أطرافي، والجريدة تحت إبطي، والحقيبة الصغيرة. أحسست ببرودة تتسلل إلى عظامي، نظرت يمنية ويسرة، ثم قررت الاتجاه نحو محطة القطار هربا من هذا الشارع الملفوف بالأضداد، وتفضيلا لركوب سفر جديد. انطلقت على الرصيف، وسرت بين السائرين، وأنا أتساءل عن سر هذا المطر الذي فاجأ الجميع، حل في عز الصيف، فأربك الكثيرين، وخلخل صورا شتى. تجاورت المقاهي والمطاعم التي تزدحم بالزبائن، ومحلات لبيع الملابس والأحذية والعطور..، وحديقة طرد المطر كل مرتاديها، وولجت المحطة وأنا أمسح حبات المطر، التي بللت رأسي. توجهت على عجل إلى شباك التذاكر، أديت ثمن سفر طويل، ودسست التذكرة في جيبي، ثم دخلت مقهى المحطة لتناول كأس شاي قبل مجيء القطار، وضعت الحقيبة على كرسي فارغ. رفعت عيني إلى التلفاز، وأخذت أقرأ الأخبار التي تمر على شكل شريط أسفل الصورة. وضع النادل الشاي، ارتشفت بعضه، ونهضت لأن صوتا أنثويا أعلن بالعربية ثم بالفرنسية أن القطار على وشك الوصول، أخذت الحقيبة، وتركت الجريدة التي بللها المطر وشوه سطورها. وأنا ألج الباب المؤدي إلى سكة القطار، وجدتها أمامي، وقفت، وأشرقت بابتسامة طال غروبها، تبادلنا السلام، ونحن نصارع أمواج الدهشة. بسرعة عرفنا أن لنا نفس القطار، وسننزل في نفس المحطة. هبت ريح عاتية، وقصفت رعود، واشتعلت بروق، وتلاعبت بنا عاصفة الحيرة..، صعدنا، و جلسنا متقابلين في نفس المقصورة. انطلق القطار، أخذنا نسترجع أنفاسنا، سكننا صمت غريب، تبادلنا بعض النظرات، في وجهها سطور، بل كتب ولوحات، قبل ثلاثين سنة كانت حديقة تطفح بالحياة، يتخللها الماء العذب، وتثمر أحلى الثمار، وتفوح بأزكى العطور، كانت تلبس الأزهار، ولونها صبح في الليل والنهار. خرجنا من منطقة الصمت بصعوبة، ومضينا في السؤال عن الأحوال. وصل القطار إلى المحطة الأولى، نزل مسافرون، وصعد آخرون، كف المطر عن الهطول، بقينا في المقصورة وحيدين، نتأرجح بين الصمت والكلام، علمت عني أخبارا، وعلمت عنها أخبارا، مياه كثيرة جرت طيلة ثلاثين سنة، رياح مختلفة هبت من كل الجهات، تحطمت جدران، وشيدت أخرى، ومات من مات، وعاش من عاش. توقف القطار في المحطة الثانية، وصعد مسافرون جدد، اثنان منهم جلسا رفقتنا في نفس المقصورة، رفعت عينيها وسألت: - لماذا عدت إلى الشارع المعلوم؟ - ولماذا عدت أنت؟ - كنت في زيارة قصيرة لبعض الأهل.. - وأنا عدت لأبحث عن بعض البصمات، ثم ألوذ بالفرار..! - كان شارعا جميلا.. - ما زال كذلك لكن جماله مخيف - أعرف أنك تخاف من الجمال - أخاف منه وعليه - لهذا ضيعت كثيرا من اللحظات الجميلة - أخوك يجيد تضييع الفرص قطع مراقب التذاكر حبل حديثنا حين فتح باب المقصورة، وطلب منا التذاكر، وأخذ يتأكد منها، قبل ان ينسحب معتذرا. ظل القطار يقلب صفحات الليل، ويطوي المسافات، يعبر الأنهار، ويخترق السهول والهضبات، والمسافرون على متنه بعضهم استسلم للنوم، وبعضهم انخرط في الكلام، وآخرون ولجوا غرف الصمت، وأخذوا يحملقون عبر النوافذ، لعل ظلمة الليل تسمح لهم برؤية شيء ما. وصل القطار إلى محطة أخرى، ركوب ونزول، انضم إلى مقصورتنا مسافران جديدان، خيم صمت، وانطلق القطار يواصل طي المسافات. التقت عينانا المتعبتان، ارتميت أسبح في عباب وجهها، قرأت سحبا كثيفة، وشاهدت جراحا حفرتها السنين، جفت مياه كانت تجري عذبة، فساد الذبول، بعدما أسقطت الرياح الجافة جل الفواكه. هي أيضا ظلت تقلب صفحاتي، وتوقفت عند النظارات الطبية، وعند الشيب، وتاهت طويلا في دروب كئيبة شقها الزمن في وجهي، تلاعبت بنا رياح الدهشة، وجرفتنا سيول السؤال: - قالت : لقد هرمنا يا أحمد.. - قلت: العمر فصول يا فدوى، ولكل فصل ألوانه تأوهت، وسكتت، ثم فتحت محفظتها اليدوية، وأخرجت صورة، وقالت: هؤلاء أبنائي. أمسكت الصورة شاهدتها، وقلت: إنهم يشبهونك، والبنت كأنها أنت تماما حين كنت تسكنين الشارع المعلوم. ابتسمت ابتسامة أعرفها، وقالت: هل ما زلت تذكر؟ ولج القطار محطة جديدة، تكررت عملية النزول والصعود، أغمضت عينيها، ثم فتحتهما، وسألت: - أحقا تغير اسم الشارع ؟! - ولونه أيضا..! - كيف ؟ - جفت كؤوسه، شاخت أشجاره، وهاجرت لقالقه ولم تعد.. - ومع ذلك فهو شارعك.. - شارعي الآن صامت لا يتكلم، حزين لا يفرح، جائع لا يشبع، قاس لا يرحم، أسكن بجانبه، ولا أمر من إلا نادرا. - أتخشى رؤية الباقيات ؟! - وماذا بقي من ذلك الليل الساحر؟ ما ذا بقي من ذلك السهر الطويل، ومن ذلك الحب؟ ومن تلك الكلمات؟ ماذا بقي من تلك الوجوه؟ كأن كل اللوحات كانت حلما ! طلبت منها الصورة مرة أخرى، ركزت نظراتي، وطرت في سماء الذكرى، البنت كأنها هي حين كان الشارع شارعا، وكان العمر شبابا، كأنها هي حين كانت تسير في الشارع كأناشيد الربيع. توجهت إليها وقلت: - البنت كأنها أنت أيام الزهور - نمضي، لكننا نعود عبر آخرين يأتون بعدنا ! - ربما ! ظل القطار يتجاوز المحطات، والمسافرون في صعود ونزول، وأصحاب الأسفار الطويلة استسلموا للنوم، وبقينا، نحن الإثنين، نقلب الصفحات، ونغرق في أمواج السؤال والتعجب. حلقنا في متاهات الأيام، وقلنا بلسان الصمت كلاما، أبحر بنا في عباب الذكرى، وأخذنا نتعجب من قطار آخر يمر أسرع من الذي نركبه ، قطار يحرق مراحل العمر، ويمضي بنا نحو النهايات. دعيني يا فدوى، أقرأ صفحات الخريف، فتحت سطورها ينام الربيع، دعي نظراتي تهطل غزيرة على هذه التجاعيد، فإنها تذكرني بخضرة الحقول، دعينا نسافر آخر الأسفار، ونتنقل بين ضفة الصمت، وضفة الكلام، ونشرب كأس اللقاء الآخير بدأ الليل يزحف نحو نهايته، والقطار اقترب من محطته الأخيرة، أخذ التعب ينال منا. وساد الفتور حديثنا، وبدأ كلامنا يتقطع، ظللت أتصفح وجهها، فبدت لي ألوان الخريف ساطعة، غاب ربيع الوجنتين، وانطفأت شمس العينين، وجفت الوديان، واستوطن الذبول، بدورها ظلت تركز نظراتها المتعبة على علامات الوهن في وجهي، وتقرأ أحزانا عصية، وأحلامنا محروقة. اسمعي يا فدوى ! واسكبي ما تبقى من كلام قبل أن يتوقف القطار، هذه رحلتنا الأخيرة.. ليتنا لم نأت ليتنا لم نلتق ليتنا لم تبحث في شارعنا عن أعشاش اللقالق.. لا رياح العشق هبت، ولا زقزقات الطيور هطلت فتعالي نقل آخر الكلام، ثم نحتم بالغربة والصمت وصل القطار إلى محطته الأخيرة، فقمنا نجمع أغراضنا، ونزلنا، سرنا على الرصيف صامتين، لم نتبادل أرقام الهواتف، ولا العناوين، ولم نضرب موعدا جديدا للقاء، توادعنا بصوت خافت، ثم افترقنا بسرعة لأن الوقت كان متأخرا جدا.