في مساء يوم الأحد 25 شتنبر من سنة 2005، بلبنان وبالضبط في منطقة جونية (الشمال اللبناني)، غادرت الإعلامية المثيرة للجدل بمواقفها السياسية الجريئة حينها، مي شدياق، بيت صديقة لها، كانت قد زارتها بعد انتهائها من العمل، حيث كانت تشتغل بالمؤسسة اللبنانية للإرسال L.B.C، وتشرف على تقديم برنامج سياسي يومي، بعنوان « نهاركم سعيد» تستضيف فيه شخصيات سياسية، وتطرح فيه القضايا السياسية بجرأة، جعلتها من أشهر الإعلاميات بمنطقة الشرق الأوسط، وقد كان هذا اليوم، هو تاريخ آخر حلقة لهذا الموعد السياسي التلفزيوني. إذ أنه بعد خروج فراشة التلفزيون، وهو اللقب الذي كان يطلق عليها حينها، من بيت صديقتها، توجهت إلى سيارتها وهي تراجع في ذهنها ترتيب المهام التي تنتظرها، كفاعلة إعلامية وسياسية، خلال تلك المرحلة الحرجة التي كان يعرفها بلدها لبنان، دون أن تكون على علم، بأن هناك من خطّط من الظلام وفي الظلام لتصفيتها الجسدية، حتى لا تتمكن أبدا من إنجاز هذه المهام التي تحاول جاهدة ترتيبها في ذهنها، لتنخرط في تفعيلها وأجرأتها فيما بعد.. فتحت الفراشة باب سيارتها، وأدارت مفتاح المحرّك، ليتلاشى العالم من حولها، وتتطاير الأجزاء الأمامية للسيارة التي كانت ملغمة، بفعل الانفجار القوي، إذ أن أيادي آثمة، ترفض سماع أصوات تخالف معتقداتها وتوجهاتها وآرائها، عمدت إلى زرع «عبوة ناسفة « تحت مقعد السائق في سيارتها، طامحة إلى اغتيالها، كما اغتيلت قبل ذلك أسماء لبنانية معروفة كرئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، و القيادي الشيوعي جورج حاوي والكاتب والصحافي سمير قصير. بعد هذا الانفجار، تحلقت المارة حول السيارة التي تأكل النيران جزأها الأمامي، كما تأكل أجزاء متفرقة من جسد الإعلامية مي، وتمكنوا من إخراجها، ومن التغلب على كل ألسنة النيران، ليتم نقلها إلى المستشفى.. لتكون هذه اللحظة، لحظة مفصلية في مسار إعلامية، عرف عنها جرأتها في الدفاع عن الحرية، وخطوة أولى من مسلسل علاج، بين كل من لبنان وفرنسا وأمريكا، تخللته أربعون عملية جراحية، استطاعت بعده مي، من أن تعود إلى مواصلة الدرب الذي اختارته، ولكن بعد بتر يدها اليسرى وساقها اليسرى بسبب قوة الانفجار. مباشرة بعد انتشار خبر محاولة اغتيال مي شدياق، – والتي ستكون ضيفة على المغرب ، تلبية لدعوة محمد بنعبد القادر وزير إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية، لحضور أشغال المؤتمر الدولي يومه الأربعاء 13 مارس بالعاصمة الرباط، وهي الدعوة التي تعتبر تكريما لكل النساء المناضلات في العالم عموما، وللمناضلات المغربيات على وجه الخصوص- لم ينتظر اللبنانيون كثيرا، حتى يتجمعوا في ساحات المدن اللبنانية، من أجل التنديد بمحاولة الاغتيال هذه، وبنهج التصفية الجسدية لكل من أعلن اختلافه في مواقف تهم القضايا السياسية اللبنانية، وخصوصا تلك المدافعة عن سيادة لبنان واستقلاليته، كما لم يتصدر الصفحات الأولى من الجرائد المهتمة بالشأن اللبناني، والصادرة بعد الحادث، غير خبر محاولة الاغتيال الفاشلة هذه، لتتسمى فراشة التلفزيون اللبناني، بعد هذا الحادث، باسم « الشهيدة الحية». قبل هذا الحادث الأليم كانت مي شدياق، تجيب كل من يسألها تجنب الخوض في مسائل حساسة خلال المرحلة التي سبقته، بأنها إعلامية ولا قيمة لحياتها إذا لم تكن في خطر، كما أكدت بعده وخلال العديد من المقابلات الصحفية التي أجرتها، أنها لا تزال العنصر النسائي المطلوب على لائحة الاغتيالات، وأن هذه الطريقة لم ولن تسكتها، وأنها مازالت تتذكر الحادث بكل تفاصيله، بل أنها عندما تحاول أن تنسى أو تتناسى، تجد الواقع لا يزال كما هو، وأن من حاول اغتيالها يحاول أن يغتال غيرها، تقول مي دائما، كما أنه لم يعد يخفى على أحد اليوم، أن الأيادي الآثمة التي فجرّت سيارة مي هي نفسها، تلك الأيادي التي امتدت إلى العبث باستقرار بلادنا، عبر تدريب عصابات البوليساريو على أعمال التخريب والترهيب. إن محاولة الاغتيال تلك، لم تزد الشهيدة الحية، إلا عزيمة من أجل مواصلة مسيرتها، بالرغم مما يمكن أن تشكله لها تلك الأعضاء الأشباح التي أضيفت إلى جسدها ( يد ورجل اصطناعيتين) من عوائق، لتستمر في دفاعها عن لبنان الذي تريد، وعن الحرية التي آمنت بها، وهي الاستمرارية، التي ترجمتها بإنهاء أطروحة الدكتوراه، وبالعودة إلى الواجهة التي تبدع فيها، من خلال برنامج سياسي حواري جديد، اختارت له كعنوان « بكل جرأة «، وكانت هذه العودة، بمثابة إعلان واضح وصريح، بتحديها لمن أراد تغييب صوتها ورأيها عن المشهد السياسي اللبناني، ثم بإصدار كتابين، كان الأول سنة بعد الحادث بعنوان «Le ciel m›attendra» « السماء تنتظرني» والذي اعتبر بمثابة سيرتها الذاتية، ثم كتاب La télévision mise à nu « التلفزيون إذا حكى» ، سنة 2014 ، والذي حكت فيه عن الكواليس والخفايا التي تحجبها شاشة التلفزيون، لتتوج مسيرتها النضالية، نهاية شهر يناير الماضي بتعيينها وزيرة للتنمية الإدارية في الحكومة اللبنانية. ما دفعني لاستحضار هذه التجربة المليئة من الألم والدم والفرح والأمل، التي عاشتها هذه الإعلامية اللبنانية، هما دافعان: الأول ،احتفاؤنا باليوم العالمي للمرأة، إذ أثارني بشكل كبير مسار هذه المناضلة، وارتأيت أن أتقاسم تجربتها، مع كل مهتم بمسارات التغيير في العالم. والدافع الثاني وهو الأهم، زيارة البطلة مي شدياق للمغرب، في إطار فعاليات المؤتمر الدولي الذي تنظمه وزارة محمد بنعبد القادر، حول موضوع « الحكومة المنفتحة والحق في الوصول إلى المعلومة»، المنعقد هذا اليوم بالرباط والذي ستشارك فيه مي شدياق كإعلامية وكوزيرة للتنمية الإدارية في الحكومة اللبنانية، بحضور مجموعة من دول إفريقيا ودول من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA). وفي الأخير، لا بد من رفع شارة النصر، لهذه المرأة الحديدية، التي لم تتخاذل يوما، في الدفاع عما تؤمن به، بالرغم من أن صمتها وجبنها، تمت مقايضته بحياتها، لكنها اختارت أن تحيا نعم، ولكن على الطريقة التي تريدها هي، وبمنسوب الجرأة والالتزام، اللذين تختارهما هي، ولا بد أيضا من تجديد التنديد بمثل هذا السلوك الجبان الذي يستهدف إسكات كل الأصوات المخالفة.