أعترف بأن الخرجة الإعلامية الأخيرة للسيد عبد الإله بنكيران حول صور السيدة أمينة ماء العينين بدون حجاب في باريس، قد استفزتني ودفعتني إلى التفاعل معها، بعد أن كان رئيس الحكومة السابق، قد خرج من دائرة اهتمامي ولم يعد يعنيني في شيء؛ خاصة وأنني كتبت عنه الشيء الكثير، حين كان على رأس الجهاز التنفيذي. ونتذكر أنه غادر رئاسة الحكومة، إثر إعفائه من قبل الملك، على خلفية فشله في تكوين الأغلبية الحكومية الجديدة، عقب انتخابات أكتوبر 2016، مع تسببه في تعطيل مؤسسات الدولة والمؤسسات الدستورية، خلال ما سمي ب»البلوكاج»، دام مدة فاقت نصف سنة. وإذ أستسمح السيد بنكيران في أن أستعير منه كلمة «هبيل» لأتحدث عنه وعن خرجته الإعلامية الأخيرة، نظرا لتلاؤمها مع السياق ومع «شطحاته» الخطابية و»انزلاقاته» الفكرية، أُذكِّر بعبارة»هبيل فاس» التي أطلقها بنكيران على الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، السيد حميد شباط. وأذكر، أيضا، بأن هذا الأخير اتهم، من داخل البرلمان، رئيس الحكومة السابق ب»الداعشية». بالطبع، ما كان لبنكيران أن يطلق على شباط «هبيل فاس»، لو لم يكن هذا الأخير خصما له. وما كان لشباط أن يتهم بنكيران بالداعشية، لو لم يكن يبادله نفس الخصومة. لكن حين انتفت أسباب الخصومة، وحصل الاتفاق على التحالف (الذي، من حسن الحظ، لم يتحقق)، لم يبق، عند مخاطبة بعضهما البعض، من هبيل فاس سوى «السي حميد»، ومن الداعشي سوى «عبد الإله». تجدر الإشارة إلى أن الرجلين يشتركان في الكثير من الصفات ويتقاسمان الكثير من القناعات، ويُوحِّد بينهما، بشكل أو بآخر، الخطاب الشعبوي الذي يغيب فيه التحليل السياسي الرصين المخاطِب للعقل، وتحضر فيه الديماغوجية التي تقوم على المزايدة ودغدغة العواطف والتصعيد الكلامي، الخ. (…) لكن، ليس هذا ما يهمني اليوم. فما يهمني، هو موقفه الأخير من صور مدللته أمينة ماء العينين، بدون حجاب في ساحات باريس؛ الموقف الذي يؤكد حربائية الرجل ونفاقه «المبدئي»، إن صح هذا التعبير. فالرجل لا يجد غضاضة في أن يتنكر لمواقفه السابقة وينقلب عليها ب 180 درجة، إذا تطلبت المصلحة الحزبية أو الشخصية ذلك. لن أعود لبعض مواقفه السابقة، ولن أسرد بعض الأمثلة على الازدواج الخطابي والنفاق السياسي المُميِّز لمواقف أقطاب حزب العدالة والتنمية، وفي طليعتهم شيخهم الذي أفتى، مؤخرا، لقنديلات الحزب بجواز خلع الحجاب وممارسة حرياتهم الشخصية، أسوة ب»الرائدة» ماء العينين. وهذا ما سوف أكتفي به في هذا المقال. ولنبدأ بمطلبه القاضي بمعاقبة ملتقط صور أمينة ماء العينين (التي يصفها البعض بأمينة تخراج العينين) في باريس، وهي «متبرجة» أو «سافرة» أو لنقل بلباس عصري. وهذا المطلب، سوف يتحول إلى سؤال حين قال: «على من استغلوا صور النائبة البرلمانية الإسلامية، إذا افترضنا أن تلك الصور صحيحة (كذا)، فعلينا أن نسأل من صورها؟ لماذا فعل ذلك؟ لأنه لم يفعل ذلك من أجل البيع». سوف أكتفي بصورة واحدة؛ إنها الصورة التي أخذت لها في ساحة Vendôme الشهيرة. يكفي المرء أن يحدق في الإطار العام للصورة، وينظر إلى المكان الذي جلست فيه (إن صح الحديث عن الجلوس) السيدة أمينة، ثم يحقق في طريقة جلوسها وفي الاتجاه الذي كانت تنظر إليه، وكذا في قسمات وجهها وابتسامتها العريضة وشعرها المسدل على رقبتها وتفاصيل أخرى لا داعي للخوض فيها، ليدرك أن الصورة أخذت برضاها؛ بل وبرغبة منها. وهذا ما حفزني على التفاعل مع تلك الصورة (الجميلة) بمقال تحت عنوان «جاتْ مْعاكْ التنُّورة، خْتي أمينة!!!»، أبديت فيه إعجابي بها. وقد نشر المقال المذكور في عدة مواقع إليكترونية، أذكر منها موقع»أخبارنا المغربية» (يناير 2019) الذي أخذ عنه موقع «Algeria News» بنفس التاريخ. ولم يقف بنكيران عند مطلبه بمعاقبة ملتقط الصور وناشريها، مع محاولة التشكيك في صحتها باستحضار فرضية الفبركة، بل راح يدافع عن تبرج أمينة ماء العينين في باريس، «مؤكدا أنه يدافع عن الحريات الفردية ، وأنه ليس له مشكل مع الشذوذ الجنسي والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، ونزع حجاب المرأة، مشيرا إلى وجود خلافات في الإسلام حول هذا الموضوع» (جريدة «الأخبار»، يوم الثلاثاء 15 يناير 2019). وكعادته (وعادة كل موظفي الدين الإسلامي في السياسة أو لمصالحهم الشخصية)، حاول أن يستغل «الشرع» في هذه النازلة، قائلا: «لو كان الشرع في البلاد كون كانوا تعاقبوا [يقصد ملتقط صور ماء العينين بلباسها العصري، وناشريها] لأنهم تجسسوا عليها، وذلك يخالف شرع لله». ولا يحتاج المرء إلى ذكاء لكي يدرك أن استحضار «شرع لله» من قبل بنكيران، في هذه النازلة، هو تعامل نفعي مع الشرع. فهو لا يستحضره، إلا لكونه سيفيده في دفاعه عن ماء العينين؛ وهو دائما مستعد، كما هو معروف عنه، لليّ عُنق الحقائق، كما الأحكام الشرعية لإخضاعها لنزواته أو لتبرير سلوك وأفعال أصحابه، باسم الحريات الفردية التي يعلم الجميع بأن كل الحركات الإسلامية تعاديها. ولا أعتقد أن بنكيران سيجد أدنى حرج في أن يتهمنا بالزندقة والفجور والرذيلة وما إلى ذلك، في حال ما دافعنا، نحن الحداثيين أو التقدميين أو اليساريين أو العلمانيين أو ما شئتم من تسميات، عن هذه الحريات بالنسبة لكل أفراد المجتمع. وتمعنوا كيف يتحول من محافظ إلى حداثي، في واقعة «الزنا»، حين يقول : «المعصية في الإسلام تكون بالمجاهرة بفعلها وليس فقط بحد ذاتها»، ليعمل على تحويل الاحتراز الشرعي في إثبات واقعة الزنا، إلى حجة لصالح حماية الحريات الفردية في الإسلام. وهذا، في نهاية التحليل، صحيح. وكان بودنا أن نبارك هذا التحول الكبير في القناعات عند بنكيران، لولا أننا نعرفه، وندرك أسباب هذا التحول الظرفي والمناسباتي وكذا السياق الذي تحكَّم فيه. وبنفس الميول التضليلية وخلط الأوراق، يقحم صاحبنا شرب الخمر وممارسة الشذوذ الجنسي في باب الحريات الفردية، شأنه في ذلك شأن أي حداثي أو أي مدافع عن حقوق الإنسان. ولم يفته أن يميز، كما فعل مع الزنا، بين التحريم والمنع، فيما يخص شرب الخمر، مبرزا أن التحريم ديني والمنع اجتماعي. ونتمنى أن نسمع رأي الفقيه المقاصدي، الدكتور أحمد الريسوني (وغيره من فقهاء الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية) في هذا الموضوع؛ خاصة وأنه قد استنكر بشدة تصريحات الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، الأستاذ إدريس لشكر حين انتقد استعمال بعض وزراء الحكومة، في عهد حكومة بنكيران، لمبدأ الحلال والحرام في تسيير أمور الدولة، مبرزا خطر ذلك على هذه المؤسسات. وسوف ينسى بنكيران مرجعه الأساسي ومثاله الأسمى المتمثل في ابن تيمية الذي كان يستشهد به في مهرجاناته الحزبية، ليعلن عن «مرجعية» جديدة تُعلي من شأن الواقع والفرد معا، قائلا: «ولا تنسوا أننا نعيش اليوم في القرن الواحد والعشرين، حيث أصبح الفرد يتمسك بحريته ، ويرفض التدخل فيها». خلاصة القول، لقد أعطى بنكيران الدليل، من خلال تبرير ازدواجية ماء العينين (حجاب بالمغرب وتبرج بباريس) باسم الحرية الفردية – وهي ازدواجية، يمكن القول بأنها تطبع سلوك الإسلام السياسي بصفة عامة-أعطى الدليل على تعامله النفعي والانتهازي مع مفهوم الحرية الفردية. ولا أظن أن موقفه من هذه الحرية موقف ثابت.