إن محاولة قراءتي لكتاب «المغرب الذي عشته، سيرة حياة»، جعلتني أستشعر منذ البدء حجم المسؤولية التي وضعتني أمام سيرتين، سيرة وطن تستغرق تقريبا ستين سنة، بنجاحاتها وانكساراتها، وسيرة حياة مناضل سياسي، إنه الأستاذ عبد الواحد الراضي، أحد قادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يتقاطع في تجربته الحياتية الوطني بالكوني، والسياسي بالدبلوماسي. تساءلت حينها مع نفسي، كيف سأتمكن من اختزال القول بخصوص كتاب «المغرب الذي عشته، سيرة حياة» في دقائق معدودات، حيث قادني السؤال إلى الاقتصار في تقديم هذه السيرة الغنية، بروافدها التاريخية والشخصية المتدفقة عبر صفحات الكتاب (808 صفحة) بسلاسة ونعومة سردية، على محورين: الأحداث والشخصيات كما عايشها وتفاعل معها المؤلف، مخصصا لها فصولا مستقلة في كتابه. الأرشيف الفوتوغرافي المتضمن لما يزيد على 70 صورة. إن كتاب» المغرب الذي عشته، سيرة حياة «، الصادر مؤخرا للأستاذ عبد الواحد الراضي، عن المركز الثقافي للكتاب، يضم اثنين وعشرين فصلا، فضلا عن التمهيد، ويمكن توزيع مضامين هذا الكتاب على محورين: المحور الأول يتعلق بما هو وطني: الحركة الوطنية المغربية بين الوحدة والتصدع، مغرب السبعينات وسنوات الجمر، الاتحاد العربي الإفريقي، الكتلة الديمقراطية والإصلاحات الدستورية وتحضير التناوب، التناوب التاريخي المتفائل الذي لم يحدث. المحور الثاني ويشمل: مرحلة الطفولة والانتقال من البادية إلى المدينة، مرحلة الدراسة الجامعية بباريس، العمل الجمعوي والحزبي منذ اللقاء الأول بالمهدي بنبركة، وصولا إلى الكتابة الأولى للاتحاد الاشتراكي، المهام السامية من وزارة التعاون إلى وزير العدل، التجربة التمثيلية ما بين الألم والفوز: رئاسة جماعة القصيبة إلى رئاسة مجلس النواب، الاتحاد والبرلمان الدولي والتحول من الوطني العربي إلى الكوني. إن كتاب «المغرب الذي عشته»، يندرج ضمن كتابة السير الذاتية l'auto biographie وموضوع الكتابة عن الذات في المغرب، أصبح يتسع مداه بين السياسيين، خاصة، في الفترة الأخيرة مقارنة مع واقع السيرة الذاتية في المشرق العربي، حيث، نلاحظ في مصر تحديدا منذ بداية القرن الماضي، إقبال المثقفين والسياسيين على كتابة السيرة الذاتية. ولقد تعددت أسباب غياب قلة وندرة المنتوج السير- ذاتي عند السياسيين المغاربة. وجل كتابها يعدون اليوم من القادة الذين عايشوا مراحل متعددة من تاريخ المغرب، خاصة فترة ما بعد الحركة الوطنية وفترة ما بعد الاستقلال بمدها وجزرها، بإخفاقاتها وتوتراتها، حتى مرحلة انطلاق المسلسل الديمقراطي الذي بدأت بوادره مع تدشين مسلسل المصالحات، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وعودة المغتربين الذين عكس بعضهم في سيرهم معاناتهم مع الاعتقال والتعذيب الرهيب في مرحلة ما يعرف بسنوات الرصاص. وعرف صدور بعض المذكرات إقبالا لدى المتلقي ودور النشر، وكذا لدى كل المهتمين بالحراك السياسي، كما أن التباعد الزمني الذي يفصلنا عن العديد من الوقائع والأحداث، حفز البعض إلى تقديم وجهة نظرهم انطلاقا من موقعهم في المشهد السياسي المغربي، لكي تتآلف مقاربتهم وتترابط مع سرود المؤرخين وشهادات بقية الفاعلين من زعماء الحركة الوطنية والديمقراطية الذين ساهموا في صناعة أحداث المغرب المعاصر. عندما نقوم بتفكيك عنوان الكتاب « المغرب الذي عشته، سيرة حياة «، باعتباره حسب مفهوم رولان بارت بمثابة مشهد يفتح أفق القراءة لدى المتلقي، تستوقفنا كلمة «المغرب» في معناه الجغرافي-التاريخي، أو الزمكاني الممتد على مدى ستين سنة خلت، عبر سرد «المذكرات» للأحداث ولسير بعض الأشخاص، الممزوجة بتحليل ذاتي، يتقاطع مع المقاربة الموضوعية عند تأويل الوقائع التاريخية، وذلك بدافع الشهادة والتوثيق، متحدثا عبر قراءة تناصية تقرأ تاريخ الحركة الوطنية بحثا عن تعالق الماضي بالحاضر، وترابط المسار السياسي عند الانتقال من مرحلة الاستقلالية إلى المرحلة الاتحادية. وإذا كان الأسلوب هو الرجل، وأن النصوص ترتبط وتتعلق غالبا بقائلها، كما أن الكاتب جان كوكتو يقول في هذا الصدد، «إن الأسلوب في نظر الكثيرين طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة، بينما، يراها الآخرون بسيطة جدا لقول أشياء معقدة». فعند حديث مؤلف الكتاب عن تشكيل الحركة الوطنية المغربية وعن مسارها السياسي الحافل بمرحلتيه: الاستقلالية والاتحادية، يظهر موضوع التشظي والانفصال الذي أصاب الحركة الوطنية مند بداية التأسيس سنة 1937، عندما ظهر للوجود (الحزب الوطني) بقيادة علال الفاسي، وحزب (الحركة القومية) بزعامة بلحسن الوزاني، فمنذ البدء كان الاختلاف والقطيعة في المشهد الحزبي الوطني، يقول المؤلف؛ «والواقع أن الخلاف الذي بدأ للوهلة الأولى مجرد تنافس شخصي على زعامة الحركة الوطنية، وهي في أول خطواتها التنظيمية، كما كانوا يشرحون لنا في الخلايا التلاميذية، كان أعمق من ذلك، فالرجلان معا كان يصدران عن مرجعيتين فكريتين وثقافيتين متباينتين، إحداهما ذات ملمح ديني يجد محدداته النظرية في التيار الإصلاحي السلفي الذي كانت له جذوره في السلفية الإصلاحية في المشرق العربي (مع محمد عبده – جمال الدين الأفغاني – قاسم أمين وغيرهم)، مثلما له امتدادات في المغرب مع الشيخ مجد بلعربي العلوي وابن شعيب الدكالي وعلال الفاسي نفسه. ومرجعية أخرى سياسة تستند جوهريا إلى ثقافة سياسية وفكرية غربية لها قيمتها النظرية على الأقل «، (ص: 103). واللافت للنظر، أن الأستاذ عبد الواحد الراضي الذي سيلتحق عند الانفصال عن حزب الاستقلال بالحركة الاتحادية، التي كانت تمثل يسار الحركة السلفية المحافظة، في كتابه هذا، يخصص بروفايلا وصورة عن رأيه في شخص الزعيم علال الفاسي بمنتهى الإعجاب والتقدير، يقول المؤلف: " بزغ نبوغه الفكري والديني والأدبي مبكرا جدا، ولمع كشاب دينامي قادر على الإقناع، وإلقاء الدروس، والخطب، مثلما، كانت له ملكات التنظيم والتعبئة ومتابعة الأحداث والقضايا العامة، بمعنى، اكتسب صفات القيادة بين أقرانه، فجرى الالتفاف حوله»، (ص: 378). يضيف المؤلف:"إنه من كبار السلفيين المغاربة الذين نادوا بتحرير الفكر والإعلاء من الحرية كقيمة إنسانية، وإيلاء الاعتبار للمرأة وحريتها وكرامتها ومشاركتها في الفضاء العمومي»، ( ص: 378). في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن صاحب « المغرب الذي عشته « كان منفتحا على التعدد في الرؤية ويفسح مجال الإنصات، عن طريق استحضار مجموعة من السير لبعض رموز الحركة الوطنية، باعتبارها محكيات فرعية تعزز مسار المحكي الأصلي الذي هو سيرة حياة لصاحبه الأستاذ عبد الواحد الراضي. من بين الشخصيات التي تحضر في ذاكرة المؤلف، نذ كر الزعيم المهدي بنبركة، الذي يتحدث عنه عبر مقارنته ومقايسته مع صديقه في معركة النضال الوطني، وهو الزعيم السي عبد الرحيم بوعبيد، يقول المؤلف صاحب « سيرة حياة «: « المهدي كان شجاعا ومقداما حد الجسارة والمجازفة، وكان يمضي بعيدا في خطواته الوثابة، حتى دون الحد الأدنى الضروري من الحذر والاحتياطات، في حين كان عبد الرحيم شجاعا، مع غير قليل من الحذر والانتباه، كنت أقارن وأتأمل الرجلين، هكذا في صمت ويقين، دائما أستعيدهما هكذا على هذا النحو» ص…..(542) لكن بالرغم من قصر المدة التي جمعت بين المهدي بنبركة وصاحب كتاب « المغرب الذي عشته»، التي لا تتعدى عشر سنوات، فإن حضوره في ملف اختطاف الشهيد المهدي بنبركة كان بارزا، يقول عن هده الواقعة: « كنت أول من بلغه الخبر في المغرب، خارج الرسميين، ذلك اليوم الرهيب». ثم يتابع «اضطر التهامي الأزموري أن يختفي تماما مخافة اعتقاله، وطبعا أخطر زوجته بالأمر وطلب منها أن تتصل بعبد الواحد الراضي، وجرى بينهما تفكير سريع في كيفية إخبار الراضي دون إثارة انتباه بعض الأجهزة الأمنية التي تكون قد وضعت هاتف الراضي تحت آليات التنصت، فانبعثت لديهم فكرة الاتصال بزوجة الدكتور التازي، وفعلا، جاءت السيدة التازي على الفور إلى بيتي وحكت ما جرى للمهدي في باريس بالصيغة الأولى التي توصلت بها»،(ص 256). يمكن التذكير في هذا الصدد، بأهمية هذه المعلومة المتعلقة باختطاف المهدي بنبركة سواء بالنسبة للمناضلين الاتحاديين أو بالنسبة للرأي العام، خاصة، أنها في إبانها ووقتها، كان الإخبار والمعلومات المرتبطة باختطاف المهدي شحيحة وعامة، والتي ما تزال مجهولة إلى حد الآن، حيث، مازالت عائلة الشهيد المهدي بنبركة الصغيرة والجمعيات الحقوقية والحربية تطالب بالكشف الكامل عن حقيقة اختطاف واعتقال المهدي. ومن مكر التاريخ، أن الشاهد الوحيد على اختطاف المهدي بنبركة الذي صاحبه إلى مقابلة المخرج السينمائي المزعوم جورج فرانجي، كان هو الطالب في مادة التاريخ، التهامي الأزموري، الذي يعتبر من بين أصدقاء الراضي، وسيتعرض التهامي الأزموري باعتباره الشاهد الوحيد للمطاردة والمتابعة من طرف مافيا الإجرام السياسي، سيختار بعدها التخفي عن الأنظار، لكن شهرين بعد شهادته التي قدمها للمحكمة سيتعرض لعملية اغتيال بسبب حادثة سيارة، ونظرا للدور الذي لعبه التهامي الأزموري في الكشف عن حقيقة الاختطاف، تعتبر صوره المدرجة ضمن الكتاب بالغة الأهمية: (صورة التهامي الأزموري بمعية الراضي والمهدي العلوي) و(صورة في إحدى جلسات المؤتمر العالمي للطلاب بالبيرو سنة 1959). ويمضي المؤلف متحدثا عن رموز الحركة الوطنية والحركة الاتحادية، معتبرا أن الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، أحد منظري الحزب ومن أطره الفكرية المؤهلة واللامعة (ص 636)، بزغ نجمه مع " دينامية التصحيح التي انبثقت داخل حزب الاستقلال التي جعلت بعض الوجوه تتقدم إلى المشهد فنراها بوضوح أكبر، ومن ثم غدا اليوسفي وجها بارزا في حركة المطالبة بالإصلاح الحزبي والوطني والتجديد الفكري، (ص 335). إن استحضار رموز سياسية؛ مثل المهدي بنبركة وعبد الرحمان اليوسفي والسي عبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي وآخرين، يؤشر من جهة على دور هؤلاء المؤثر في مجريات تاريخ المغرب، ومن جهة ثانية تقوم سيرهم المقدمة من طرف المؤلف على بلورة وتنامي مشروع السرد السيري في كتاب « المغرب الذي عشته – سيرة حياة « . فسيرة الراضي التي تستحضر سير بعض القادة السياسيين، تجمع بينها علاقة التكامل والتنضيد والتأطير. يتكون كتاب « المغرب الذي عشته – سيرة حياة « من نصين متوازيين، هناك النص المكتوب والنص الصوري، الذي يجب عدم النظر إليه كزينة لتجميل الكتاب، أو مجرد تكملة توضيحية لنصوصه وشهاداته، بل، يجب النظر إلى الملحق الفوتوغرافي ومجموعة الصور المتضمنة فيه، باعتبارها نصوصا مستقلة، تم انتقاؤها بعناية ودقة، وقد تقول ما لم يفصح عنه النص المكتوب، فالصور بالرغم من توازيها مع حياة المؤلف، فإن اختيارها لم يكن اعتباطيا، بل اختيرت عن قصد من قبل المؤلف، حيث نلاحظ أن بعض الصور تتسم بالندرة والغرابة والقيمة التوثيقية التاريخية. ومن أهم الصور التوثيقية ذات الدلالات الكبرى التاريخية والثقافية، ما نشره الأستاذ الراضي من صور لصيقة بحادثة اختطاف المهدي بنبركة، وهي الوثيقة النادرة المكتوبة باللغة الفرنسية بخط يد المهدي بنبركة موجهة إلى المخرج السينمائي الفرنسي جورج فرانجي حول الفيلم المزعوم، (ص 3.7)، وكذلك الوثيقة الثانية المكتوبة باللغة العربية، كتبها المهدي بنبركة حول قضية الديمقراطية المحلية التي كانت تشغل مركز اهتمامه (ص 305). ومن الصور الطريفة التي استوقفتني، صورة للمؤلف في البرلمان وإلى جانبه يجلس برلماني يرتدي الجلباب المغربي ورأسه مغطى بالطربوش الأحمر، وهذا الشخص هو السيد الذي لم يذكر المؤلف اسمه، إنه المناضل محمد الشتوكي الذي استطاع أن يفوز بمقعد في البرلمان ممثلا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمدينة القصر الكبير، وقد خصص 0عالم السياسة الباحث الأمريكي جون واتربوري في كتابه « أمير المؤمنين « صفحة كاملة عن هذا الشخص باعتباره ظاهرة سوسيوسياسية، تؤرخ للتجربة البرلمانية لكونه رغم بساطته وتعاطيه للتجارة ومحدودية مستواه التعليمي، فقد استطاع أن يفوز في انتخابات سنة 1963 بمقعد برلماني أمام منافسيه من الأحزاب الأخرى رغم تكوينهم التعليمي الجامعي. إن كتاب « المغرب الذي عشته – سيرة حياة0 «، جاء في شموليته ليعزز ويغني باب الاجتهاد الفكري والسياسي، ومن أهم الأطروحات النظرية، رأي المؤلف في ما يتعلق بموضوع تسمية حكومة الأستاذ والمجاهد عبد الرحمن اليوسفي، حكومة التناوب، الذي أسال مداد الفاعلين السياسيين، وأساتذة القانون الدستوري، الذين تنازعوا واختلفوا حول تسمية حكومة اليوسفي، حكومة التناوب أم حكومة التناوب التوافقي، بينما استطاع الأستاذ عبد الواحد الراضي أن يقدم وجهة نظر مختلفة، تبتعد عن التعاطف الحزبي الحماسي، إذ يرى فيها مجرد مشاركة لحزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة، يقول: «انطلاقا من هذه اللحظة (يقصد لحظة 14 مارس 1998) سيتم اعتبار حكومة اليوسفي حكومة تناوب، بينما كانت، في نظري مجرد مشاركة للاتحاديين الذين كانوا ممنوعين عمليا من الحكم منذ ماي 1960 «، (ص 651). ويضيف المؤلف قائلا: « أظن أن سوء التسمية يبعث على الغموض ولا يساعد الناس على الفهم، أو كما يقول ألبير كامو إن تسمية الأشياء بشكل سيء، يزيد العالم شقاء «. ويفهم من مضمر قول الأستاذ الراضي إن الاتحاد الاشتراكي من خلال التجربة التي قادها الأستاذ اليوسفي، لم يحكم بل شارك فقط في تجربة حكومية بعد انقطاع استمر أربعين سنة. ولا شك أن رأي صاحب « سيرة حياة «، بخصوص هذا الموضوع، سيعيد تجربة التناوب إلى بقعة الضوء، وقد يفتح مجددا أفق القراءة السوسيو – سياسية لتجربة حكومة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي من قبل السياسيين والفقهاء الدستوريين. وفي الأخير تجدر الإشارة أن الأستاذ عبد الواحد الراضي صاحب كتاب «المغرب الذي عشته – سيرة حياة «، يعد شخصية سامقة وشامخة في عالم السياسة ببلادنا، رسم لتجربته الحياتية مسارا تصاعديا، متألقا حافلا ومتنوعا، سياسي دبلوماسي، وطني وكوني، ولعل تركيبة شخصيته المتميزة بالهدوء والمعرفة، وحسن الإنصات، جعلت منه قياديا ناجحا بامتياز، يصمت حين يكون الصمت أبلغ من الكلام، و لا يتكلم إلا عندما يكون الكلام ضرورة، فيأتي خطابه مؤطرا بالفكرة، معززا بالحجة، ومقرونا بالإقناع، إنه من بين الرموز الاتحادية التي شرفت بالاشتغال معها على المستوى الحزبي والبرلماني، وطنيا ودوليا. *عرض/شهادة، قدمت بمناسبة الاحتفاء بكتاب «المغرب الذي عشته،سيرة حياة»، الذي نظم برئاسة جامعة محمد الخامس.