يبدو أنه كلما تحدثنا عن «النهاية» عادت «البداية» لتفرض ذاتها بقوة، وكأننا إزاء حركة مد أو جزر لا تني تتوقف. وهي حركة تبرز أنه، كما في الطبيعة، فإن التدافع بين البشر حول الأفكار والمصالح كان ولايزال قائما، إلى حد يمكن القول معه بأن هذا هو «منطق التاريخ» أو جدليته في النهاية (و»لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض»/البقرة). لكن السؤال هنا هو: ما الذي يجعل الأفكار تتحول إلى إيديولوجيات أو طوباويات وسياسات للخلاص؟ لماذا يبدو أننا في حاجة دائمة إلى أفكار نتحمس لها، وشعارات تلهب مشاعرنا، وأحلام نضحي من أجلها؟ سنة 1946 كتب ألبير كامي مقالة ينتقد فيها الاشتراكيين قائلا «سيكتشفون أن عصرنا يتميز بنهاية الإيديولوجيات، أي الطوباويات المطلقة التي تقوم في الحقيقة بتدبير ذاتها». وهو ما عبر عنه بعده عدد من المفكرين مثل ه.ستيوارت هيوز وريمون آرون وأنطون بيل وغيرهم، فيما بدا وقتها أنه تحرر من حقبة الشمولية (النازية والستالينية والفاشية). بيد أنه لم يمض وقت طويل على هذا الحديث، حتى عاد الصراع الإيديولوجي إلى الواجهة خلال بداية ستينيات القرن الماضي مع الحرب الباردة والثورة الكوبية وأحداث فيتنام وأمريكا اللاتينية وحركات السود بالولايات المتحدةالأمريكية وانتفاضات الطلاب (ماي 68)، وما شابه. وهو ما استمر إلى حدود انهيار المعسكر الاشتراكي (1989–1981) حيث برز الحديث مرة أخرى عن النهايات (نهاية الطوبى والإيديولوجيا والسياسة والتاريخ..) مع قادة للرأي مثل فرانسيس فوكوياما. وهذا قبل أن تنقلب الأمور مرة أخرى، وتظهر على السطح مقولات مثل «صراع الحضارات» أو الثقافات (ص.هنغتنتون) أو العولمة والنيوليبرالية والإرهاب الإسلاموي، تكذب ما سبق وتشي بعودة الشعلة أو اللهيب الإيديولوجي من جديد. (1) هكذا يبدو أنه كلما تحدثنا عن «النهاية» عادت «البداية» لتفرض ذاتها بقوة، وكأننا إزاء حركة مد أو جزر لا تني تتوقف. وهي حركة تبرز أنه، كما في الطبيعة، فإن التدافع بين البشر حول الأفكار والمصالح كان ولايزال قائما، إلى حد يمكن القول معه بأن هذا هو «منطق التاريخ» أو جدليته في النهاية (و»لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض»/البقرة). لكن السؤال هنا هو: ما الذي يجعل الأفكار تتحول إلى إيديولوجيات أو طوباويات وسياسات للخلاص؟ لماذا يبدو أننا في حاجة دائمة إلى أفكار نتحمس لها، وشعارات تلهب مشاعرنا، وأحلام نضحي من أجلها؟ لماذا لا يقنع الإنسان بواقعه كما هو ويسعى دائما إلى تغييره أو تجاوزه؟ هل هي عملية ترتبط بطبيعة الإنسان ذاته (مسألة بيولوجية) لها علاقة بدماغه أو ذهنيته، أم أنها نتيجة للتطور التاريخي الذي يحدد معناها في كل مرحلة تاريخية، بما يفيد أنها مسألة ثقافية في الجوهر؟ لقد ألصق نيتشه هذا «الفيروس» الإيديولوجي بأفلاطون وسقراط، إلى جانب اليهودية والمسيحية وأصنام الحداثة. لكن هل المشكلة بهذه البساطة؟ في الواقع، «ينشئ كل مجتمع بشري عالمه الرمزي، ألا وهو عالم الأرواح والمعارف والمعتقدات والأساطير والخرافات والأفكار، حيث تحيا كائنات أوجدتها الأرواح والجن والآلهة وأفكار راسخة، من خلال الإيمان والمعتقدات.. ويسهم العالم الروحاني بمعرفته وأساطيره ومعتقداته وأفكاره على نحو مكرر في حلقة التنظيم الذاتي للمجتمع والفرد. وهو ليس بانبعاث لدخان، بل غليان قوي» (2) . وهنا لسنا في حاجة للتوقف عند أركيولوجية هذا الغليان وأسبابه، كما عرفته البشرية خلال تاريخها الطويل ولا تزال. بيد أن أحد الأسباب المهمة، على ما يبدو، هي أن كل طوبى أو إيديولوجيا أو سياسة للخلاص إنما تقدم نفسها كبديل لما هو قائم، ساعية لتغيير ما هو موجود لفائدة ما هو مفقود أو موعود. ومنطلقها أن هناك دائما مشكلة أو مشاكل ما، وهمية أو حقيقية، تتمثل في خطأ أو انحراف أو قمع وظلم وتهديد وخوف، أي وضع مختل يجب معالجته. وأن ذلك غير ممكن دون الإيمان بمعتقد ما (طوبى، إيديولوجيا، سياسة للخلاص)، كان دينيا أم دهريا، والتسلح بما ينبغي من «إرادة القوة»، حسب تعبير نيتشه، لتنزيله أو تطبيقه على أرض الواقع. إن خصوصية الطوبى أو المعتقد تكمن بهذا المعنى في أنها تعكس فكرا جاهزا أو تبسيطيا، غالبا ما يطرح حلا شموليا واحدا لكل مشكلة. ومثاله: إذا كان المشكل هو الحكم المطلق فالحل هو الليبرالية، وإذا كان هو الليبرالية فالحل هو الشيوعية أو الاشتراكية، وإذا كان هو الحداثة فالحل هو المحافظة، وإذا كان هو المحافظة فالحل هو التقدم أو التقدمية، وإذا كان هو العولمة فالحل هو بدائل العولمة. وإذا كان هو الدهرانية فالحل هو الديانية (الدين أو التدين) كما يقول شيخنا طه عبد الرحمان. وهكذا، غالبا ما يتم اختزال الأمر في ثنائية بسيطة مفادها: الفساد مقابل الإصلاح، هم ونحن، الشر والخير، الظلامية والتنوير. ويكفي أن نأخذ بهذا الحل أو ذاك، هذه الإيديولوجية أو تلك، هذا الدين/المذهب أو ذاك، حتى نحصل على الخلاص.(3) والحال أن الواقع ، كما هو معروف، كان ولايزال وسيظل دائما أكثر تركيبا أو تعقيدا (رب خير فيه شر لكم، ورب شر فيه خير لكم). ذلك، أنه إذا كان لامناص من الإصلاح أو التغيير، بحكم أننا «لا نسبح في النهير مرتين»، حسب هيرقليط، وأن البشرية في حاجة دائما إلى جرعة من الأوكسجين أو الحلم (لنسميها إيديولوجيا أو طوبى أو سياسة للخلاص أو ما شئنا) تقيها شر الثبات والجمود وتؤمن لها سبل الارتقاء بشكل دائم؛ فإن المشكلة تبدأ حالما يتم السعي لتحديد نسبة هذه الجرعة: هل تكمن في الثورة أو في الإصلاح؟ هل يجب أن تكون قوية بحيث تقضي على المريض نهائيا، أم خفيفة بحيث تكتفي بمعالجته؟ إذ كما يمكن أن يؤدي التغيير إلى تطور أو ارتقاء،مادي أو فكري، يمكن للثورة أن تقتل الثورة، ويتحول تغيير المنكر إلى منكر أكبر منه. فأبواب الجنة مليئة بالنوايا الحسنة ! إن النتيجة، بهذا المعنى، ليست مضمونة مسبقا، إذ على حد قول نزار قباني «لو أني أعرف خاتمتي، ما كنت بدأت». لقد أطلق النبي محمد شرارة الإسلام دون أن يعرف أنه يدشن قيام امبراطورية أو حضارة إسلامية، واغتال أحدهم امبراطور النمسا-هنغاريا سنة 1914 دون أن يعي أنه أطلق بذلك شرارة الحرب العالمية الأولى، وقام لينين بعملية انقلابية في أكتوبر 1917 دون أن يعرف مآل الشيوعية على يد ستالين، ولا أحد توقع الثورة الإيرانية لسنة 1979 ولا انهيار جدار برلين سنة 1989، تماما كما لم يتوقع البوعزيزي بانتحاره سقوط النظام التونسي وانطلاقة «الربيع العربي» معه. إننا هنا إزاء عامل الفراشة أو «الحدث» (ألان باديو) أو «إيكولوجيا للفعل» (إدغار موران)، التي لا يمكن تحديد نتائجها أو مآلاتها متى انطلقت. هذا ما يطرح السؤال حول: ما هي محركات التاريخ أو عوامل التغيير الاجتماعي، هل هي الأفكار أو النظام الرمزي (وحي الأنبياء وأفكار المصلحين والسياسيين والمثقفين) أم هي الأحداث، أي وقائع التاريخ أو النظام المادي (التطورات التقنية ووسائل النقل والاتصال والصدف التاريخية)؟ هذا ما اختلف حوله السياسيون والمفكرون والعلماء، بيد أن هناك عموما ثلاثة مواقف تم التعبير عنها في هذا الصدد: موقف يرى أن الأولوية في التغيير كانت وما تزال للفكر، على أساس أنه «يكفي أن» نغير فكرنا أو شبكات فهمنا وتحليلنا حتى يتغير كل شيء، على حد قول علي حرب؛ وموقف يرى أن الأحداث الفيزيقية أو المادية هي التي تغيير الواقع على أساس أن الوجود هو الذي يحدد الوعي ، على نحو ما ذهب إليه ريجيس دوبريه؛ وموقف يرى أن التغيير هو نتيجة التفاعل الدائم بين المثال والواقع أو الوجود والوعي، أي «البراكسيس» ، كما ذهب إليه ماركس. لا مجال للاختيار في رأينا بين هذه المواقف، إذ كما قد يكون للوعي الدور الحاسم في ظرف ما، قد يكون ذلك للوجود، أو لجدليتهما، في ظرف آخر. لكن ما هو مؤكد أن الطوباويات والإيديولوجيات أو سياسات الخلاص هي وليدة التاريخ. ذلك، أنه إذا كان العصر القديم (عصر الصيد والجني) قد احتاج لعدد من الطوباويات الأسطورية والسحرية لإصباغ المعنى على وجوده، فقد احتاج العصر الوسيط إلى عدد من الطوباويات الدينية (مع واحات للعقلانية هنا وهناك) لتأسيس شبكات معارفه ومعالمه الحضارية، فيما أفرز العصر الحديث عددا من «الطوباويات العقلانية» التي احتاج إليها لبناء حضارته، دون أن يؤدي هذا بالضرورة إلى القضاء على الطوباويات السابقة، التي ظلت قائمة بهذا الشكل أو ذاك، على اختلاف درجاتها بين مجتمع وآخر (ومثاله حضور الطوباويات الدينية أكثر في المجتمعات العربية الإسلامية). لكن إذا حصرنا المسألة في «الطوباويات العقلانية»، فيمكن القول أن هذه الأخيرة بدأت مسيرتها خلال نهاية القرن 18 مع ما شهدته عدد من الدول الغربية من تحولات أو ثورات، وعلى رأسها الثورة الفرنسية سنة 1789. انطلقت المسألة مع الليبرالية والرأسمالية والديموقراطية، كي تتفرع نتيجة ما أفرزته الثورة البورجوازية من نتائج سلبية، في بعض منها، إلى محافظة وشيوعية واشتراكية ديموقراطية وقومية ووطنية، وشمولية (النازية، الفاشية) فيما بعد، أي بعد الحرب العالمية الثانية. وإذ لا مجال هنا للتوقف بتفصيل عند ما أفرزته هذه الإيديولوجيات من حصيلة بعد قرنين من تجاربها وتطبيقاتها المتعددة، فما تم تسجيله عموما أنه إذا كانت بعض هذه الإيديولوجيات قد انتهت إلى الفشل (الشيوعية، الفاشية، النازية..) بسبب الكوارث التي تسببت فيها، فإن بعضها الآخر، أفضى إلى نتائج مركبة، إيجابية في جزء منها (الديموقراطية، دولة الرفاه، حقوق الإنسان، التطور الاقتصادي والاجتماعي..) وسلبية في وجهها الآخر (الاستعمار وآثار العولمة والنيوليبرالية..). الجديد هنا هو أنه خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، يبدو أن هذه الإيديولوجيات «الصلبة» أخذت تضعف تدريجيا، وبدأت تظهر علامات تآكلها التدريجي وعجزها عن مواجهات جوانبها السلبية التي ما فتئت حدتها تتصاعد. وهذا نتيجة عوامل عدة مثل: انتشار فكر ما بعد الحداثة (الاختلاف، النسبية، التعددية، اللايقين)، وبروز مجتمع المعرفة والاستهلاك، وانهيار جدار برلين، وتطور تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، والعولمة المالية، وما شابه. وبما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فقد ظهرت مجموعة من «الإيديولوجيات السائلة»،حسب تعبير زيجموند باومان، تحاول تعويض سابقاتها وطرح أشكال أخرى من الأفكار والممارسات. ومثاله: بروز عدد من الحركات الاجتماعية (النسوبةوالجنسية والحقوقية والأقليات..) والمنظمات البيئية وبدائل العولمة والفعاليات التضامنية أو التشاركية (le commun) و»المبدعون الثقافيون» والمدافعون عن أخلاق العناية وتكنولوجيات الاتصال والإعلام (الاقتصاد الرقمي) والكرامة (les indignés) ومحتلوا وول ستريت، وماشابه. بيد أن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل من شأن هذه «الإيديولوجيات السائلة»، تحقيق ما عجزت عن تحقيه «الإيديولوجيات الصلبة»، وإلى أي حد؟ من الصعب الحكم على ذلك، لكوننا إزاء أفكار وممارسات قيد الاشتغال، وليس لدينا ما يكفي من بعد زمني لتقييم نتائجها. لكن إذا كان ماركس قد قال في القرن 19 «أن البشرية لا تخلق من المشاكل إلا ما هي قادرة على حلها»، فإن ما تشهده اليوم هذه البشرية من مشاكل، في بداية الألفية الثالثة، يجعلنا نشك في قدرتها على هذا الحل فعلا. إذ، كما يقول إدغار موران، «تطفو على البشرية فوضى قد تؤدي إلى تحطيمها، وتعني كلمة فوضى هنا الوحدة غير الواضحة بين الخلق والتدمير. لا نعرف ما الذي سيحصل، لكننا نعرف أن هناك هدرا ضخما جدا، وستكون على أي حال في المستقبل طاقات ونوايا حسنة وحياة، بيد أن التطورات الحالية لا تخضع للفكر وحكمته، إذ يهيمن على أذهاننا تعقيد العالم الذي لا يطاق».(5) فهل انتهينا إذن من عصر الإيديولوجيات، صلبة كانت أم سائلة، ودخلنا إلى «عصر الفراغ» واللايقين والتعقيد، إن لم نقل الانفجار؟ وهل يجب اعتبار هذا الدخول حالة إيجابية، من شأنها تحريرنا من سلطة الأصنام القائمة وتفجير طاقاتنا الإبداعية الخلاقة؛ أم حالة سلبية تنم عن شواش فكري وضلال حضاري لا قدرة لنا على تحمل عواقبه، و»لن ينقذنا سوى الله»، على حد تعبير مارتن هيدغر؟(6). هذا ما حاولت مناقشته، في كتابي «سياسات الخلاص: نقد العقل الإيديولوجي الحديث»، وما أتمنى هو أن يناقشه القراء بدورهم، علنا نهتدي جميعا إلى فهم ما جرى في الماضي، وما يجري أمامنا اليوم، وما نحن مقبلون على مواجهته في المستقبل. صحافي وكاتب هوامش: 1-Jean François Dortier, Pourquoi les idéologies ne meurent jamais, sciences humaines, hors série n° 21, 2016 2 – راسل جاكوبي، نهاية اليوتوبيا: ، ترجمة فاروق عبد القادر، عالم المعرفة، رقم 269، الكويت،2001. ص13-14. 3 – إدغار موران، النهج، إنسانية البشرية-الهوية البشرية، ترجمة د هناء صبحي، كلمة، أبوظبي، 2009، ص 57 4-J. F. Dortier, op cit, p7. 5 – إدغار موران، مرجع سابق. ص 286 6 – وردت هذه المقولة في حوار أجرته مجلة «دير شبيغل» مع مارتن هيدغر سنة 1966 وتم نشره بعد وفاته سنة 1976. وهي لا تفيد الإيمان بأي إله أو دين عنده، بقدر ما تعبر عن حالة اليأس التي وصل إليها الكاتب في نهاية حياته من سقوط أوهامه الخاصة حول المجتمع الفاضل، وعجز العالم عن مقاومة سيطرة المركب الرأسمالي-التقني على كل جوانب الحياة دون أمل في الخروج من هذه السيطرة.