من شروط الديمقراطية حرية التعبير واحترام الاختلاف في الاعتقاد والرؤية وممارسة الاحتجاج والتظاهر ضد الظلم والتعسف، والتعبير عن موقف اتجاه قضية وطنية أو إنسانية. غير أن للدمقراطية وجه آخر بدونه لا تتحقق ولا تكتمل؛ إنه صيانة المشترك الثقافي والتاريخي، والالتزام بروح الدستور ومنطوق القوانين، واحترام المؤسسات الدستورية والدفاع عن الوطن. مما لا ريب فيه أن كل الأوطان تواجه تحديات تختلف تبعا لمستوى النمو ونموذج التنمية المتبع، وللنسيج الاجتماعي والثقافي، وللموقع الجيو استراتيجي، ونظام الحكم، وغيرها من المحددات التاريخية والاجتماعية والسياسية. ومن الطبيعي أن تواجه دول العالم الثالث، التي عانت من تأخر تاريخي، ومن مخلفات الاستعمار، ومن تقسيم عالمي ظالم للعمل، تحديات أعوص مما تواجهه دول العالم المتقدم الذي أنجز ثوراته العلمية والثقافية والسياسية على امتداد قرون، أتاحت له الهيمنة الاقتصادية والتفوق العسكري والتحكم السياسي، ورغد العيش. وتزداد التحديات التي تواجه دول العالم الثالث، حينما يتعلق الأمر بدول تعاني من محدودية الموارد الطبيعية والاقتصادية، مقابل نمو ديمغرافي متسارع، ومن وضع جيو- استراتيجي يفرض عليها سباقا نحو التسلح لحماية سيادتها وتعزيز وحدتها الوطنية، ومن صراع داخلي تناحري حول السلطة.وهي العوائق الكبرى التي واجهها المغرب منذ الاستقلال وحالت دون التحاقه بنادي الدول الصاعدة التي تمكنت من حرق المراحل وتحقيق طفرة نوعية كان محركها الأساس تطوير التعليم والتكوين والبحث العلمي وتأهيل العنصر البشري. وتعد كوريا الجنوبية وسنغفورة والبرازيل والصين وإسرائيل وتركيا أبرز النماذج الناجحة، وإن اختلفت أنظمتها السياسية ونماذجها التنموية. بسبب العوامل البنوية الآنفة الذكر، لم يتقدم المغرب بنفس الوتيرة على سكة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكن يجب الإقرار أن وضعه السياسي والاقتصادي أفضل بكثير من أغلب الدول الأفرو أسيوية، وبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ودول الساحل، رغم الإمكان الاقتصادي والمالي الهائل لبعض الدول البترولية ( الجزائر، ليبيا، العراق) والإمكان الطبيعي أو البشري لبلدان أخرى مثل السودان ومصر. فالمغرب يعيش استقرارا سياسيا في إطار ديمقراطية ناشئة، وهو بصدد تعزيز دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان في إطار دستور متقدم وتوافق وطني واسع يقر بالتعددية السياسية والتنوع الثقافي واللغوي. ويعمل على تقوية بنياته التحتية، وتحديث قطاعاته الإنتاجية وتنويع نسيجه الاقتصادي، وإصلاح المنظومة التربوية والإدارية. يحاول ذلك رغم عوائق موضوعية متمثلة أساسا في الفساد الإداري الذي طال به الزمن إلى ان صار صورة سلوكية متجذرة في وعي الإنسان المغربي وربما في لا وعيه، وفي اقتصاد الريع القائم على استنزاف الثروة واحتكارها بدل إنتاج الثروة وتثمينها، وفي ضعف الموارد البشرية الناتج عن تدهور منظومة التربية والتكوين، وفي ممارسات سياسية سيئة لجزء مهم من الطبقة السياسية لا علاقة لبعض مكوناتها بالثقافة السياسية الهادفة لخدمة المجتمع والحاملة لمشروع. هذه المفارقات بين نقط ضوء تدعو للتفاؤل ولمزيد من العمل قصد تطوير التجربة المغربية وفق مقاربة إصلاحية شاملة، ومساحات قاتمة تدفع إلى اليأس والنظر إلى المستقبل بتشاؤم، خلقت وعيا جمعيا ملتبسا زادته الخطابات الشعبوية التباسا، ومناخا شعبيا متوترا ومشحونا، تسعى الاتجاهات الأصولية في نسختيها اليسراوية والإسلاموية إلى استثماره سياسيا، من خلال شعارات قوية ومزايدات سياسوية، دون تقديم أية مقترحات بديلة لتجاوز المشكلات الحقيقية التي كانت وراء الحركات الاحتجاجية العفوية بمناطق مختلفة من مغرب.الهامش. لقد تعمد أصحاب دعاة القومة وعاشقي الجملة الثورية معا إغفال القضايا الحقيقية للمواطنين في الريف وجرادة وتنغير، وهي بالمناسبة قضايا كل المغاربة الفقراء والمهمشين في البادية والحواضر، والتركيز على شعارات لا تهم سوى أصحابها الذين احتكروا صوت الشعب دون تفويض منه. بنفس المنطق وفي نفس السياق رأى زعيم الممانعة داخل الحزب الأغلبي أن مشكل المغرب يكمن في المؤسسة الملكية، متناسيا وصية شيخه وملهمه ومعلمه الأول بإعمال مبدأ التقية حتى يتحقق التمكن من مقومات إقامة دولة الخلافة. لا يعني الدفاع عن التجربة المغربية غض الطرف عما يواجه بلدنا من مشكلات وإشكاليات، ولا مصادرة حق المغاربة في الانتماء الحر، وفي العمل السياسي الديمقراطي من موقع المعارضة كما من موقع المشاركة، وفي الاحتجاج والتظاهر. فهناك من دواعي مواصلة النضال لتجاوز أعطاب الديمقراطية الناشئة، ومحاربة الفساد، وتحقيق التنمية المنصفة، ما لا يعد. ولا يمكن للعمل السياسي المؤسساتي والشعبي أن يحقق غاياته إن لم يمسك بالتحديات الحقيقية بمنأى عن الأوهام. وتكمن التحديات الرئيسة التي تواجه وطننا اليوم وفي المستقبل المنظور في: تعزيز وحدتنا الوطنية، وإعادة الاعتبار للعمل السياسي، وتطوير نسيجنا الاقتصادي كما وكيفا في أفق محاربة البطالة، وتأهيل العنصر البشري من خلال إصلاح منظومتي التكوين والصحة، وتحقيق الأمن الاجتماعي. من المؤسف أن هذه التحديات الكبرى، التي بدونها سيكون من المحال مقاربة مشكلات فرعية ليست في نهاية التحليل سوى تجليات للإشكالات الأساسية، لا نجد لها صدى لدى المتياسرين ودعاة القومة ودولة الخلافة، الذين يتمنون للمغرب مزيدا من الفقر والبطالة واليأس والفساد، عسى أن تتحقق شروط القومة والثورة.