« لولا القاضي عياض لما ذكر المغرب « .. قولة أثيرة كان يتناقلها القدماء عند حديثهم عن الحياة العلمية والثقافية والدينية التي كان يعيشها المغرب خلال عقود العصر الوسيط. ويعود السبب في تداول هذه القولة على نطاق واسع بين صفوف المؤرخين والعلماء وكتاب المرحلة، إلى ما عرف عن القاضي عياض من ريادة معرفية غير متنازع حولها ومن إنجازات علمية شكلت محورا مركزيا للبحث لدى مؤلفي كتب الطبقات ومصنفات الصوفية. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لعموم بلاد المغرب، فلابد أن نضيف أنه لولا القاضي عياض لما عرفت إسهامات مدينة سبتة العلمية وتراثها الحضاري الغزير الذي اشتهرت به خلال العصر الوسيط وقبل سقوطها في يد الاحتلال البرتغالي منذ سنة 1415 م في الظروف التاريخية المرتبطة بانفجار موجة الغزو الإيبيري لعوالم ما وراء البحار وتبعات ذلك السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. باختصار، يمكن القول إن سيرة القاضي عياض تشكل محورا مركزيا في كل محاولات تجميع مكونات السيرة الذهنية لمدينة سبتة ولتراثها الثقافي الإسلامي الأصيل. لقد امتاز القاضي عياض باكتسابه صفات خاصة في كتابة السيرة النبوية الشريفة، ذلك أن هدفه الأساسي من وراء وضع كتابه « الشفا «، إنما كان يهدف تكريم سيرة النبي الكريم، استنادا إلى نصوص الكتاب والسنة وإلى أساليب الجدال والمناظرة. وبفضل اجتهاداته الرائدة، استطاع القاضي عياض اعتلاء ريادة المذهب المالكي بالغرب الإسلامي، حيث كان عارفا بأعلامه بالمغرب وبالأندلس، متعمقا في مظانه وفي أحكامه حسب ما عكسه كتابه « ترتيب المدارك وتقريب المسالك في معرفة أعلام مذهب الإمام مالك «. ولعل هذه الميزة هي التي جعلته يتخذ موقفه المعروف من دعوة الحركة الموحدية، ومواجهة الخليفة عبد المومن بن علي والتصدي له بالتأليف وبالتعبئة وبالدعوة كما هو متداول في كتب التاريخ. وقد خلف القاضي عياض تراثا فكريا هاما في شكل فتاوى وأحكام تعد مرجعا أساسيا في مجالات البحث الفقهي والاجتماعي والتاريخي. وإذا كان القاضي عياض قد اشتهر بتخصصه في السيرة النبوية والحديث النبوي الشريف، والفقه، والتراجم، وطبقات المالكية، فإنه ? في المقابل ? قد خلف تراثا أدبيا غزيرا يعكس موهبته في فن القول ونظم الشعر. ورغم أن الكثير من عناصر هذا التراث قد ضاعت بسبب تشتتها بين متون متعددة، فإن النصوص التي لازالت متداولة تحمل في طياتها عناصر التميز في مجال الكتابة الأدبية داخل تراكم حقل الإبداع الشعري لمرحلة نهاية حكم الدولة المرابطية وبداية عهد الدولة الموحدية. وللإسهام في تجميع ما تشتت من تراث شعري للقاضي عياض، وبهدف تسهيل تداول مضامينه بين الباحثين والمهتمين، ولتدارك النتائج المترتبة عن عزوف القاضي عياض عن تجميع كتاباته الشعرية في ديوان مستقل، بادر الباحث محمد عيناق بإنجاز أطروحة جامعية حول الموضوع، عرفت نتائجها الكبرى طريقها إلى النشر في شكل عمل تجميعي صدر تحت عنوان « ديوان القاضي عياض « بتحقيق للباحث المذكور وبمراجعة لعلي الصقلي وتقديم لحسن جلاب، وذلك سنة 2001 في ما مجموعه 107 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. وعموما، يمكن القول إن العمل الذي أنجزه محمد عيناق يشكل أول مبادرة من نوعها، استهدفت تجميع التراث الشعري للقاضي عياض وتحقيقه وتصنيفه وتعميم تداوله بين الباحثين والمهتمين. إنه عمل شاق، لا شك وأنه تطلب من صاحبه الكثير من الجهد ومن الصبر ومن التنقيب المضني، مما أكسبه الكثير من عناصر التقدير، حسب ما جاء في الكلمة التقديمية التي وضعها الدكتور حسن جلاب الذي يقول : « كنت وأنا أحلله ( أي شعر القاضي عياض ) في أطروحتي عن الحركة الصوفية بمراكش أتساءل لماذا لم يبادر أحد الباحثين إلى جمعه كاملا، وإن كان الأستاذ عبد السلام شقور قد جمع بعضه في ملحق كتابه عن القاضي عياض الأديب. لذا راقني عمل الأستاذ محمد عيناق عندما بادر إلى القيام بذلك، وفكر في جمع هذا الشعر المشتت بين المصادر والمراجع ... خاصة وأنه بذل مجهودا مضاعفا إذ قدم لهذا الديوان بدراسة مفصلة عن عصر عياض وشخصيته وجوانب تخصصه في مستوى موفق فعلا، إذ لم يطل فيه إطالة تشغله عن المقصود الذي هو شعر الرجل، ولم يركز فيه تركيزا مخلا يغمط الشخصية حقها في التعريف، وإنما سلك منهجا وسطا بين هذا وذاك. ولعل من عناصر القوة والتوفيق في هذا الكتاب ذلك الاستقصاء الواسع في البحث عن مظان شعر عياض إذ لم يترك مخطوطة ولا مطبوعة إلا راجعها في مكتبات وطنية عامة وفي مكتبات خاصة عديدة، مما جعل هذا العمل فعلا إضافة جديدة في مجال البحث العلمي الخاص بالقاضي عياض ... « ( ص. 9). إنه سجل توثيقي لرصيد المنجز الشعري للقاضي عياض، ووجه آخر للعطاء المتعدد الأبعاد الذي ميز هذه الشخصية الفذة. وقبل كل ذلك، إنه وجه مدينة سبتة الحضاري خلال العصر الوسيط، واختزال لعمق هويتها الثقافية الإسلامية باعتبارها حلقة وصل ممتدة بين الضفة الأندلسية والضفة المغربية لبلاد الغرب الإسلامي. وللاقتراب من عمق الرؤى التي عكستها الكتابات الشعرية للقاضي عياض، نقترح إنهاء هذا التقديم المقتضب بإعادة نشر أبيات منتقاة من الديوان موضوع هذا التقديم. يقول القاضي عياض في الصفحة رقم 98 : « أتراني ؟ وما عسى أن تراني آخذا مرة أمان الزمان سلبتني صروفه كل علق من شباب وصاحب وأمان كلما حزت بغيتي بفلان علقت كفه بذاك الفلان عمرك الله هل سمعت بحي لم ترعهم روائع الحدثان كل يوم طليعة لفراق ومن العجب أن ترى للتداني فاسأل الشعريين عنها وحسبي شاهدا ما تقوله الشعريان ودع الفرقدين إن جهلاها فستدهي بأمرها الفرقدان».