جلست بمقصورة قطار، في سفر قصير.. ويوم صهيد بسماء توشحت باللون الرمادي وغابت عنها الطيور.. هدوء جعلني أعابث قلمي، أجنح بفكري إلى أبعد مدىفي أعماقي.. أرتب تفاصيلي وبعض فوضويتي، التي طالما أرهقتني.. أحاول فهم وجوه، قاسمتني فضاء رحلة، أطبق عليها الصمت إلا من صافرة القطار.. صوت عربة المشروبات، بكاء طفل قادم من مقصورة أخرى..والمثير أن الكل منهمك في البحث بهاتفه الذكي.. إدمان جعل من العالم الأزرق الأكثر تداولا، محورا لحياتهم.. متناسين حيواتهم الخاصة في الواقع.. كأنني وسط حفل تنكري، حيث لا ترى فيه من الأشخاص إلا حروفا، أو أيقونات، أو ما نرغب أن يراه منا الآخرون.. حروف تلتقي لتكسر حاجز المسافة والصمت بكبسة زر وتختفي بأخرى.. وأنا مطرقة بين ثنايا هذا المحيط الصغير، المحصور في مقصورة سفر، انتبهت إلى سيدة خمسينية، بعيدة لا تنتمي بالمرة إلى حفلنا التنكري ذاك.. كانت تحمل كتابا، تتصفحه بكل تمعن، مبحرة في عوالمه وحروفه.. ذكرتني ب»فعل القراءة وسحرها»، بكتاب انزوى بعيدا بعدما كان لغة التواصل بين الشعوب والناطق الرسمي للحضارات.. ظل سؤالي معلقا، هل من الممكن أن تترسخ المعلومة في غياب ملكة البحث والجهد العقلي.. رغم تفاصيل الحداثة.. حين أعدت تفكيري الى واقعنا الثقافي، رأيت الكتاب كتلك المرأة، ينزوي وحيدا في مقصورة.. بعيدا عن تلك العلاقة الوجدانية الحميمة.. إحساس دفين نتبادله، ليظل الكتاب طاقة مغناطيسية تمر عبر ملامسة الجسد للورق. إحساس لا يضاهيه أي فعل آخر.. إلا أن نختار أن نكون «عبيدا» للمعلومة السهلة.. العيش في حالة اللاوعي التي يعيشها كثيرون، في انشغال وإبحار، لا يتوقف، في عالم أزرق. معركة غير متكافئة مع الكتاب، والذي سيظل على عرش المعرفة..لكن، ماذا لو خضنا معركة جديدة، أن نجعل هذا الفضاء الأزرق وسيطا لتحبيب فعل القراءة نفسها.. سعيا لملء الفراغ الفكري والثقافي، وتغيير سلوكيات سلبية تفقد القراءة قيمتها؟ وصل القطار لمحطته الأخيرة، وضعت المرأة الخمسينية كتابها بحافظة يدها، بعناية فائقة، كأنها تودع «حبيبا» على أمل لقاء قريب.. بينما نزل الجميع، وهو يحمل نفس الهواتف، في مسيرة الركض والجري، دون أدنى اهتمام.. تخيلت الأمر كأنه كابوس مرعب، الجميع يتجه باللاجدوى بدون اتجاه تماما، بينما نفس المرأة، تتخطى الجميع بخطوها اتجاه نقطة محددة.. لعلها فصل جديد من حيوات متخيلة..