– كيف ولجتم شعبة الفلسفة؟ – جئت إلى الرباط من الهامش (الجنوب المغربي) لاستكمال دراستي الجامعيَّة في شعبة الفلسفة بكلية الآداب – جامعة محمد الخامس، وقد سنحت الظروف التي نشأت فيها في المرحلة الثانويَّة من اهتمامي بالفلسفة بفضل نشاطي الجمعوي المبكر وارتباطي باليسار. – هل نستطيع الحديث عن فلسفة جديدة في المغرب بعد جيل الأساتذة؟ – أعتقد أن هذا السؤال يرتبط أساساً بفهم حجم التغيُّرات الجارية في المغرب والتي، لا شك، ستمكِّنُنا من الحديث عن وجود اختلافات بين فلسفة، وكتابات، ومشاريع الأجيال التي تعاقبت على درس الفلسفة في المغرب. كما أنه يتضمن سلفاً إقراراً بوجود جيل جديد بعد جيل الأساتذة، وفي الحقيقة، يصعب الإقرار بوجود فلسفة جديدة كل الجدة بالنظر إلى الواقع المأزوم الذي يسم منظومتنا التعليمَّية والنَّكسة التي تعرفها ساحتنا الثقافيَّة لعدة عوامل يعرفها الجميع وصارت في حكم تحصيل حاصل. اذا افترضنا أن هناك أجيالاً تعاقبت على الممارسة الفلسفيَّة وعلى درس الفلسفة في الجامعة وفي التعليم الثانوي فهذا لا يلغي إمكانيَّة وجود استمراريَّة – أو إن شئنا الدِّقة تراكماً – وبطبيعة الحال ستكون هناك اختلافات ملحوظة بين مختلف الأجيال على مستوى: الكتابة، والمشاريع الفكريَّة، وبنية التفكير أيضاً وأشكاله المختلفة، وما يحضرني الآن هو وجود اختلاف بين مشاريع كل الأساتذة: محمد عزيز الحبابي، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، طه عبد الرحمان، محمد سبيلا، موليم العروسي، عبد الكبير الخطيبي، فاطمة المرنيسي، عبد الله حمودي… بحيث يمكننا تلخيص أهم توجهات هذا الاختلاف في: التباين الأيديولوجي، والمنهجي، وطريقة الكتابة. وهي عموماً تصنف إما داخل التوجه الحداثي، أو التوجه المُحافظ، أو التوجه اللِّيبرالي. وهو نفسه الاختلاف الذي يحكم القرَّاء الذِّين ينتصرون لهذا التوجه أو ذاك، ورغم أنه لم يتبلور بعد في صيغة تقاطب إلا أنه يظل ملموساً على مستوى التعبيرات الشائعة لدى الجيل الجديد. أما الحديث عن فلسفة جديدة ومشاريع جديدة فأظن أنه سابق لأوانه بحيث يتعين علينا أولاً أن نحدد مقابلها الفلسفة القديمة أو المشاريع القديمة. لقد انشغل جيل الأساتذة بمشكلات التراث والدين والحداثة والنهضة والعلاقة من الآخر / الغرب، والذكوريَّة، والعقلانيَّة… في حين أن الجيل الجديد بحكم توجهه «ما بعد الحداثي» اتجه نحو الاهتمام بالجماليات وعلم الاجتماع السيَّاسي ومختلف موضوعات الهامش: الجنس، الجسد، السِّجن، الجنون، الفن، الوشم، الحريم… دون أن يعني ذلك أن هناك قطيعة بين كلا الاهتمامين. وإذا كان من المفروض أن يحصل التراكم في تعاقب الأجيال فسيكون على مستويات ثلاثة: مستوى الموضوعات: بحيث إن فلسفة لا تقرأ الواقع الذي أنتجها ومستجدات العصر وهموم الكون، فلا تصلح أن تسمى كذلك، لأن حجم صعوبات الحياة في العالم المعاصر تتفاقم في ظل تنامي وسيَّادة وتحكم النَّزعة التقنويَّة في تسيِّير وتدبير الشؤون العامة والخاصة للمواطنين، وكأنها قدر الإنسان المعاصر. ناهيك عن الاستسلام الكلي لسيطرة التكنولوجيا التي تحضر في كل شيء لما لها من انعكاسات سلبيَّة على تشييء العلاقات الاجتماعيَّة فيما أسماه أكسل هونيث ب: «مجتمع الاحتقار»، أو ما أسماه بيتر سلوتردايك ب: «ما بعد الإنسانيَّة»، حيث أفول النزعة الإنسانيَّة كما وضع أسسها فلاسفة كبار وبارزون وأحيتها بعدهم فلسفة الأنوار. مجمل الأوضاع المعاصرة المحيطة بالوضع الإنساني تفرض الاتجاه نحو موضوعات معاصرة تفرض نفسها على التأمل الفلسفي دون أن يعني ذلك الانسلاخ عن إرث الفلسفة، فهو يحضر دوماً في الجامعات والمدارس، غير أن هذا الإرث من المفترض أن يدفع إلى تفلسف الأجيال الجديدة في وضعهم وواقعه. مستوى المنهج: فإذا كانت الفلسفة قد فكرت طويلاً في المشكلات الإبستمولوجيَّة ومنها أزمة العلوم والمناهج بين الذاتيَّة والموضوعيَّة، فإن الفلاسفة يتميزون باتباعهم أو نحتهم لمنهج خاص ونقصد بالمنهج هنا الطريقة (منهج ديكارت العقلاني، التوليد السقراطي، تفكيكيَّة دريدا، ماديَّة ماركس، جدليَّة هيجل…): أي طريقة التفكير والتحليل والمساجلة. ولكي نبدع طريقة جديدة في التفكير ينبغي الإلمام بكيف فكر أساتذتنا في موضوعات الفلسفة؟ وكيف تفاعلوا مع قضايا مجتمعنا؟ وهل تمكنوا فعلاً من خلال انخراطهم والتزامهم الثقافي والسيَّاسي من قراءة الواقع وتغييره؟ مستوى الرهان: وأقصد، المأمول من الفلسفة: كيف نحيا بها ومن خلالها؟ هل ينفصل التفلسف عن فن العيش؟ أظن على الأقل أن هناك تبجيلاً مغالياً للعقل يخترق فلسفة الفلاسفة، مقابل تبخيس للجسد والانفعالات وقيمة الحياة عموماً، وهذا ما نجده حاضراً في دروس الفلسفة في التعليم الثانوي والجامعي المغرب معاً (مع بعض الاستثناءات). فلماذا لا يتيح هذا الدرس للمتعلمين إمكانيَّة مساءلة المعيش ونقد البداهات والتحرر من اليقينيَّات؟ لماذا تجد في صفوف مدرسي الفلسفة وطلابها مؤدلجين دوغمائيين ومنغلقين لا يمكن تصنيفهم إلا في خانة أعداء الفلسفة بتعبير دريدا، هل يشهد هذا على فشل درس الفلسفة، أم إن المجتمع أقوى من الجامعة وصارت تابعة له ومستسلمة لسلطته المُحافظة. من خلال هذه المستويات وغيرها يمكن للجيل الجديد أن يبدع بشكل حر، من جهة، معالجة موضوعات الفلسفة بطريقة فلسفيَّة جديدة، لن يعثروا عليها في كتب الفلاسفة، بل عليهم أن يكتشفوها بأنفسهم عبر تجربتهم في التدريس والكتابة والسجال، وعلى نهج خاص في التفكير النقدي، وطريقة بعيدة عن الانغلاق المذهبي والنزعة المشائيَّة – المدرسيَّة السائدة حالياً والتي تطغى على درس الفلسفة وذلك لرسم رهانات جديدة للتفلسف تلتصق بفن العيش وتقدير قيمة الحياة والتفكير النقدي الحر. إنها رهانات المثقف والفيلسوف وكل من يشتغل بالتأمل والتخيل. – هل مازالت للفلسفة جاذبيتها المروعة، أم أن نظام العولمة جرف كل شيء جميل ومقلق في الراهن الإعلامية؟ أو بمعنى آخر تم محو الأستاذ والفيلسوف والمثقف والخيال.. وعوضت بالخبير والتقني الجديد؟ – من البديهي جداً أن يتحلى الفلاسفة بنزعة إنسانيّة كوسموبوليتيّة حيث ينشدون الحق والعدل، ويطمحون إلى تحقيق السِّلم الدائم بين الشعوب، ولا أجد أحداً منهم دافع عن الإرهاب وعن قتل الناس والفتك بهم. وفي المُقآبل بحث الفلاسفة عن مصوغات نظريَّة وعمليَّة للخروج من التيه الذي يعيشه العالم في عصر العبث والعدميَّة. ولقد فكر جاك دريدا J, Derrida ويورغن هابرماس J, Habermas معاً في أحداث 11 شتنبر 2001 وقدما مناظرة فلسفيّة في غاية الأهميّة. غير أن العديد من فلاسفة العصر قد اتخذوا الحذر كل الحذر من السقوط في لعبة التوازنات الدوليّة حيث موازين القوى غير متكافئة بين امبرياليَّات تحكم العالم بقبضة من حديد وتجعل ما عداها مجرد دول في خدمة سيَّادة الرأسمال العالمي، وبين شعوب لا قدرة لها على الخروج من تخلُّفِها بسبب ازدواجيّة التسلُّط: الامبريالي الخارجي والاستبداد الرجعي الداخلي. وسيراً على منوال التقليد النقدي نتساءل فيما يشبه خطاباً تحذيرياً: هل صحيح أن الارهاب معمّم؟ من يتحمل مسؤوليَّة تنامي الإرهاب؟ لا شك في أنكم جميعاً تُحسُّون وتدركون أن اختلالات العالم تعود إلى التحكم الكلياني للشركات المتعددة الجنسيات في 90 % من خيرات الكوكب الأزرق، وإلى قبول الساسة عالمياً هذا التحكم وتسويغه والدفاع عنه وكأن مصالحهم مشدودة إلى ضغط هذه الشركات كقدر لا محيد عنه. تتزايد ويلات الحروب وتتسع أحزمة التفقير، ومعها يتزايد الفكر الأحادي الفتَّاك، ليس في هذه الرقعة المسماة عربيَّة إسلاميَّة لوحدها، بل في مجمل أحزمة التهميش والاقصاء عبر مختلف بقاع العالم. لقد تم تشجيع الجماعات المُتطرِّفة وتمويلها وحفزها لإعادة اقتسام ثروات العالم، وحالة سوريا اليوم فاقعة، وهذا ناتج عن مسلسل العولمة المُتوحشة والتي رسمت خطط استراتيجيَّة ما بعد الاستعمار، وصارت تتحكم في الخريطة الجيو-سيَّاسيَّة الجديدة. لم تبتز الفلسفة يوماً أكثر مما ابتزت اليوم، بحيث أُوكِلت لها مهمة مواجهة التطرف لدعم الديمقراطيَّة: ولكن عن أية ديمقراطيَّة يتحدثون؟ عن ديموقراطيّة الأقلية ضد الأغلبيّة؟ عن ديمقراطيّة رأس المال ضد ملايّير المهمشين والمقصيِّين من دائرة الإنتاج؟ إن تعيين الفلسفة لمواجهة التطرف هو ابتزاز للفكر الحر والبحث الحر، هو دعوة للتنازل عن وظيفتها النقديّة وخندقتها في وظيفة سيَّاسيَّة، فهل يمكن للفلسفة أن تقوم مقام السيَّاسي والسيَّاسة والسيَّاسات؟ لا يُوجد أي تطابق كلي بين الفلسفة والسيَّاسة ولا أي انفصال بينهما، ففي الوقت الذي تتجه فيه السيَّاسة – بتعبير سلافوي جيجيك S, Zizik – نحو الاهتمام بقضايا الشأن العام، نحو إيجاد أجوبة عمليّة وملموسة لمشكلات البشر، تتجه الفلسفة نحو إثارة المشكلات التي تعترض البشر في وجوده الملموس. وبهذا المعنى لا يمكن للفلسفة أن تلعب أدواراً سيّاسيّة كتلك التي تلعبها الأحزاب والجماعات الضاغطة وتنظيمات المجتمع المدني، كما لا يمكن للسيَّاسة أن تقوم مقام الفلسفة. صحيح أن الفلاسفة لعبوا أدواراً سيَّاسيَّة في الدفاع والتنظير والتشريع لأنماط سيَّاسيَّة معينة ضد أخرى، غير أنهم لم يفعلوا ذلك باسم الفلسفة بقدر ما فعلوا ذلك كمواطنين فاعلين في مجالهم وشأنهم العام. كثيرة هي الخطابات التي روجها الفلاسفة حول إصلاح الفلسفة وحول مستقبل الفلسفة كما فعل لودفيغ فيورباخ L, Feuerbach، وحول نهاية الفلسفة وضرورة تحولها إلى حارس ايديولوجيا البروليتاريا كما فعل كارل ماركس K, Marx، أو مماهاتها مع النظام العقلي – الواقِعي لحال ألمانيا مع جوروج وليام فريديريك هيجل G, W, F, Hegel، وحول صياغتها للدّستور كما فعل أرسطو Aristote وإيمانويل كانط E , Kant وهابرماس. وفي المقآبل كثيرةٌ هي الخطابَات التي روَّجها الفلاسفة حول هدم القيَّم كما فعل فريديريك نيتشه F, Nietzsche، وحول نقد الدِّين ورفض رؤى للعالم بعينها، وحول حاجتها إلى الانخراط في عبثيَّة الوجود… إن ازدواجيَّة الخِطاب الفلسفي وانتقاله من القضيّة إلى نقيضها لهي سمة طبعت تاريخاً مديداً، وجعلت من الفكر الفلسفي فكراً مشروطاً بعصره فكراً زمنياً ومكانياً وسيَّاقيّاً. هكذا نظرت حنة آرنت H, Arendt لمناهضة التوتاليتاريا وتصحر العالم وواجه لينين F, Lénineالنزعة التجريبيّة، ووقف جيجيك ضد آلة الرأسماليّة الجهنميّة، وفضح ثيودور أدورنو T, Adorno وماكس هوركهايمر M, Horkheimer وهربرت ماركيوز M, Marcus نزعة الاستهلاك المتناميّة في المجتمعات الصناعيّة، ونظر فرانز فانون F, Fanon للمعدمِين، وأسَّس برتراند راسل P, Russel ومن معه لمحاكمة الصهيونية. لقد صرخ ماكس هوركهايمر يوماً: «في مملكة الشَّر التوتاليتاريّة، يدين الإنسان بقدرته على المحافظة ليس فقط على وجوده بل على هويته أيضا إلى الصُدفة وحدها… لذلك فإن كل فلسفة تفكر في إيجاد السِّلم في ذاته، في حقيقة ما، لا علاقة لها بالنظريّة النقديّة». أكيد أن للفلسفة جاذبتها المروعة كما قلتم، ورغم كل ما أدَّت إليه السّيطرة العولميَّة ستظل الفلسفة تُحافِظ على وهجها وبريقها وقيمتها بفضل تنامي حالة تيهٍ شبه مطلقة لدى السيَّاسي والحاكم ومدير شركة عابرة للأوطان، لأن ضرب قيمة الفكر عموماً وسعي ثقافة الصورة لمحو الثقافات الأصليَّة والأقليَّات الإثنيَّة وتسيِّيد النَّزعة التقنويَّة الجديدة وتعزيز دور الخبير مكانة المثقف والشاعر والفيلسوف من شأنه أن يزيد من بروز مقاومات جديدة غير متحكم فيها ويصعب التحكم فيها. وقد سبق لحركة مناهضة العولمة أن تنبأت بهذا المصير الذي سيُواجِه القوى العولميَّة الشَّبحيَّة التي تعتقد أنها ستتحكم في الكوكب بفضل سُلطة المال واستخدام السيَّاسي، رغم أن هذا خطاب هذه الحركة تم التبخيس منه والحد منه عبر حصره في مجال النُّخبة، كما أن ضرب قدرة المنظمات النقابيَّة والسيَّاسيَّة على تأطير المواطنين سيفتح الباب للحشود – بتعبير غوستاف لوبون – للسُّخط العارم ولفوضى يصعب التحكم فيها، ولنا في بؤر التوتر في العديد من المناطق أمثلة على ذلك، ناهيك عن تنامي الإرهاب المميت والذي يحفر يوماً عن يوم مقابر جماعيَّة لجحيم أرضي ممتد.