من لا يحلم لا يستحق أن ينتسب إلى سفينة الابداع، تذكروا معي مع فارق القياس، تيودور هرتزل عراب العقيدة الصهيونية، وهو يجمع سدنة اليهود في بهو فندق سويسري، وسط استخفاف أثرياء اليهود لمشروعه القومي: «سيصبح مشروعكم حقيقة إن أنتم آمنتم به»، اليوم الكل يقف مشدوها أمام هذا المشروع، أمام ذئب إسرائيلي ينهش شاة فلسطينية، أَوَ لم يكن هذا المشروع سوى حلم تحول مع الوقت إلى فكرة. الشعر هو من يرسم الأفق، لحظة التشظي والأفول، يُرمرم الوجدان إن انكسر، تذكروا معي أشعار الشاعر الفرنسي شاتوبريان عشية انكسار الوجدان الفرنسي بعد تحقيق وحدة الألمان الأولى، كيف أمكن لهذا الشاعر الحصيف أن يعيد بناء شخصية فرنسية بهِمة إبداعية، جعلتها تستنهض ذاتها من أجل أن تعود إلى حضن التاريخ وتنساب في تجاويفه. من دون شك يصطبغ الشعر حينما تستعر الأزمة ببلد ما بوشاح السياسة، فيصير مُعبرا عن مضمراتها، رامزا لدناستها، كاشفا عن حديقتها السرية، حينما يرتدي الشعر وشاح السياسة يصير زفرة للمظلومين وخلاصا للمعذبين من ظلم لا يرتفع، وغيم لا ينقشع. ينصرف الحدث في التاريخ إلى غير رجعة، ما مضى لا يعود، تلك حكمة التاريخ، قد يستعاد إما كمأساة أو كملهاة، حسب حاجيات اللحظة ووعي الناس بمسرى التاريخ، وحدها الذاكرة هي من تتدخل في ترتيب الأشياء وتوضيبها، مثلما يتدخل التاريخ في ترتيب الأحداث، تتدخل الذاكرة في ترتيب وقائع النسيان، لماذا نغالب الذاكرة حتى تجتهد في نسيان الانكسارات؟ ونتشفع بها في مدح الانتصارات؟ يورد الفيلسوف هايدغر في محاضرة عصماء بعنوان « هولدرين وجوهر الشعر» تساؤلا مريبا يزلزل قلاع اليقين، لماذا نبحث عن جوهر الشعر عند هولدرين وليس عند أي شاعر آخر في ألمانيا أو غير ألمانيا؟ لماذا لا نبحث عنه عند غوتيه أو شكسبير، عند فيرجيل أو حتى هوميروس، يجيب بعد أن أضناه السؤال، إنه الصدق المطلق مع الذات، إنه الجنون الذي يخلع هالة السحر والجاذبية والأسرار العميقة واللانهائية، الصدق الذي يمكن أن نلمح معه من ثقب الباب، العالم الآخر الذي يستعصي علينا وعلى العقل والمنطق، الصدق الذي يخرجنا من رتابة الحياة، الصدق الذي يكشف ما استغلق من مجاهيل وعتمات. ما لا يفهمه الناس، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، الشعر انتساب للإنسانية، بما هي وعي بالوجود والخلود، بما هي أيضا انتقال بالإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة، الشعر رؤيا للحياة، وإكسير للخلود، الشعر مفارق للمادة، قد تنهار الحضارات وتخلد الأشعار، لا نتذكر الحضارات القديمة بقدر ما نتذكر مخزونها الإبداعي. قد لا نُماري في توصيف الواقع، حيث الابتذال والإسفاف يرخي بهياجه على البشرية،إسفاف في الحلم، تصحر في الوجدان، أزمة عسر هضم، هل ما زلنا في حاجة إلى الحلم خارج العلبة، خارج التاريخ، خارج الأفق المرسوم؟ مشكلتنا أننا نمتلك حُلما خُلب استقر على الأوهام، الحلم يجب أن يكون غاية، الحلم بلا همة وعمل كالبحر بلا مرفأ. ثمة انشغال يرهن حاضر العلوم الإنسانية، سؤال الانعطاف، الذي يجعل من صيغة ما هو الانسان؟ تنصرف نحو صيغة من هو الانسان؟ من يقدر على الإجابة، وحدها الفلسفة خبرت المعركة كثيرا وانصرفت، أجمع الكل على الانزياح، على التركيب والتضاد، على تشابك الروح والمادة، الفكرة والنقيض، المقدس والمدنس، كل اهتمام بالإنسان تعبير عن مطابقته ومحايثته للمعنى، معنى الوجود، معنى الوضوح، معنى الاختلاف. الشعر فعل للمقاومة في بلد صمتت طيوره عن الشدو والغناء، صارت أزهاره ترفض أن تنفتح في الصباح، بلد أتى عليه حين من الدهر صارت فيه رايته منشفة يجفف بها المغنون التافهون عرقهم في السهرات، والعاهرات يحاضرن فيه عن الشرف و الفضيلة، واللصوص يقومون فيه بالدعاية لمحاربة الأصفياء، والماضي يشرف فيه على التحديث، من يوقف هذا الانحدار؟ ومن ينتبه إلى أننا ماضون نحو الارتطام بالحائط؟ أو لربما وقع هذا الارتطام.