o هناك «التباس» يعيشه الفكر العربي على مستويات متعددة، ولا سيما في أجرأة المفاهيم، ونقلها من حقلها العلمي الأول إلى اللغة العربية، من قبيل مفهوم القطيعة سواء عند محمد عابد الجابري أو عند محمد أركون أو عند عبد الله العروي.. السؤال الذي يطرح نفسه هنا لا يتعلق بهجرة المفهوم ولا حتى بكيفية ملاءمته للمجالات المعرفية التي تم استثماره فيها، وإنما بالكيفية التي تم استعماله بها، في هذا المجال أو ذاك. كيف تنظرون إلى هذا الالتباس وماهي حدود المفهوم وإبدالاته المتعددة؟ n نبدأ أولا بتحديد المفهوم ما هو؟ كي نتساءل عن أجرأته بد ذلك. إن المفهوم هو حركة الفكر. إنه الأداة اللازمة لنشاطه، وله أبعاد مختلفة يمكن إجمالها في أربعة: البعد اللغوي، لأنه ينتمي إلى اللغة، يلتبس بالكلمات والألفاظ ، ليس هو اللفظ ، وإنما استعمال له وتحويل كي يتكلم إنسانيا وكونيا. يصعد من الطابع المحلي للغة ليحولها إلى لغة كونية . البعد المعنوي، نظرا للإرتباط الضروري القائم بين الأفكار والكلمات. فنحن لا نتكلم ثم نفكر، وإنما نتكلم الأفكار ونفكر الكلمات. والمسألة هنا أن المعنى أن بقي في مستوى اللفظ فإنه يظل مسجونا في دائرة الاستعمالات العابرة في حين أن المعنى في المفهوم يتعالى عن العرضي كي يعبر عن واقع أكثر تجريدا وعمومية. أما البعد الثالث فهو البعد العقلي المنطقي ، لأن المفاهيم تخلص وجودها اللفظي من شحنة الانفعالات والعواطف والأهواء كي تتكلم علميا وموضوعيا، وأخيرا هناك ما يسمى الإبانة الدلالية للمفهوم، فكل مفهوم يقدم لنفسه شرعية وجوده وقيامه كعنصر أساسي في تحليل وتفسير الواقع وتأويله. غير أن هذه الأبعاد ترتبط بزمن ولادة كل مفهوم معين، إذ أن المفهوم يجر معه تاريخ صناعته والسياق الذي ظهر فيه والحقل المعرفي الذي أنشأه . فالكوجيطو مثلا لم يكن يونانيا، وإنما نبت في تربة العصر الحديث. والقطيعة الإبستمولوجية نبتث في حقل الإبستمولوجيا برفقة مفاهيم أخرى مثل الأزمة والعائق الإبستمولوجي،الخ. ويمكن القول: إن القطيعة الإبستمولوجية تفهم بمعنيين. الأول بمعنى الترك والتخلي واللاعودة، وهذا يتم عندما يقطع العلم لأول مرة مع ماضيه الذي سيشكل محيطه الإيديولوجي، فيقوم العلم كمعرفة تحدد موضوعها بدقة ومنهجها بدقة ولغتها بدقة وتسد الباب أمام تدخل المعارف غير العلمية إليها. أما المعنى الثاني فهو إعادة البناء وإعادة السبك، وهذا المعنى الأخير يحصل داخل العلم نفسه، بحيث إن كل نظرية جديدة ترسم حدود صلاحية النظرية السابقةعليها، وتكون أكثر تفتحا وعقلانية وعلمية من السابقة.ويبدو لي أن الجابري قد تمكن من نقل هذا المفهوم كمنهج في قراءة التراث العربي، حيث أحدث قطيعة بين مدرستين مشرقية فيضية وإيديولوجية، ومغربية برهانية ومعرفية. الأولى يمثلها ابن سينا والثانية يمثلها ابن رشد. هل تفوق في ذلك؟ هذا أمر متروك للدارسين. إن «المجتمع» لا يصنع مفاهيم وإن كان يصنع تصورات عن نفسه كما يتضح لنا ذلك في الأنثربولوجيا. كما أن العلم اليوم يشهد انتقال واشتقاق مفاهيمه من علم آخر مثل انتقال مفاهيم الطاقة والكتلة، الخ إلى الاستعمال السياسي. وهنا يمكن الحديث عن «تيماتيكا اعابرة للمواد العلمية، كما يقول برتلوت، لأن العلم اليوم لم يعد يقوم به العلماء في انعزال عن بعضهم البعض كما حصل ذلك في الماضي، ولأن العلم اليوم صار مفرطا وباهظ الثمن وخاضعا للمقاولة، لم يعد في خدمة الحقائق المجردة وإنما في خدمة الحقائق النافعة نفعا ماديا ومباشرا. إنه يرفض البدانة الدلالية والحماس النضالي. فهو في عمقه ديكتاتوري بخلاف مفاهيم الفلسفة التي تبنى على الحق في الاختلاف والحوار في الفضاء العام. o في ظل الصراعات السياسية الاقتصادية التي تنهك الواقع العربي اليوم يطلب من الفلسفة والجامعة أن تقدم الأجوبة عن وضع كهذا. هل تعتقدون أن انتشار الدراسات حول فلسفة الدين والسياسة هو جزء من هذه الظرفية الصعبة؟ n أجل إن فلسفة الدين ليست هي الفلسفة الدينية. فالأولى تدرس الدين، أي دين كظاهرة إنسانية عرفتها جميع المجتمعات البشرية تنظر إليه من هذه الوجهة من النظر، في حين أن الثانية تختص بدين معين، وتسعى إلى إظهار قيمته وربما تفوقه عندما يقارن بدين آخر، غير أنها تتميز بعنصر أساسي،هو أنها لا تجعله مغلقا ضمن تيار إيديولوجي أو دعوي معين. إنها لا تسجنه ضمن المثلث الأنثربولوجيى والسياجات الدوغمائية كما يرى محمد أركون. فالاهتمام بفلسفة الدين والسياسة يمكنه أن يلقي الضوء على هذه الصراعات المذهبية والطائفية التي تعمل على التمزيق وعلى تعطيل الحركة التاريخية، وإنه ينبغي الإنصات إلى نتائج هذه الفلسفة التي يمكن أن نعثر فيها على حلول لأوضاعنا الراهنة، على الأقل من جهة تعايش الأفكار. ومن أجل إبعاد كل تصور يرى نفسه هو الوحيد القادر على أن يتكلم باسم الدين. فالدين مشترك. والحوار بين الديانات ممكن على أساس إنساني. من الأكيد أن الظرفية الصعبة التي ذكرتها هي الدافع إلى هذا التفكير الفلسفي في الدين والسياسة، إذ أن المشاكل التي تهتم بها الفلسفة ليست مجردة، وإنما تقوم في المعيش الإنساني، وتسعى إلى حلها على الصعيد النظري. وهذا الصعيد ينبغي أن يكون موجها للسياسيين, غير أنه لما كان هؤلاء لا يتقون إلا في ما هو أمامهم ولا يفكرون فيما هو خلفهم ينظرون إلى الفلسفة والأدب والفن كأنشطة لا تجذي نفعا.كما أنهم بهذا الاعتبار أكثر إيمانا بالمادة من الفلاسفة الذين يدخلون البعد الروحي المتمثل في نظام القيم في حسابهم، وربما أن غياب هذا البعد القيمي والروحي هو الذي كان خلف الصراعات المذهبية. وإني أقول إن قيمة القيم اليوم هو المواطنة. لماذا؟ لأن المواطنة تجعل الإنسان محبا لأرضه فلا يدمره ولا يلوثه، الخ. ومحبا للإنسان الذي هو آخَره، فلا يمارس عليه أي عنف اللهم إذا استثنيا ما يطلق عليه اسم العنف المشروع للدولة، وأنت تعلم أن سببه، هو أن بعض الناس لا يراعون حقوق الآخرين ولا يقومون بواجباتهم، بل أن البعض منهم يسمح لنفسه بأن يقوم بعمل الدولة، مثلا ما يطلق عليه عندنا اسم قضاء الشارع، وكذلك أولئك الذين يصدرون فتاوى خارج مؤسسة الدولة. ربما أنك كنت تقصد بفلسفة الدين شعبة الدراسات الإسلامية. فإن كان الأمر هكذا فإني أقول لك إن الأمر ليس كذلك، فإن هذه الدراسات لا تنظر إلى الفلسفة للأسف إلا نظرة من يخاصمها وتعتقد أنها قد أخذت منها موقعها الذي كان لها تاريخيا وتسعى إلى استرداده. تنسى هذه النظرة أمرا هاما هو مراعاة أحوال الزمان والواقع والمكان، باختصار مراعاة الإنسان في هذا العصر، فإن المسلم قبل أن يكون مسلما هو إنسان، وإذن من الممكن أن تتعايش هذه الدراسات مع الفلسفة شريطة أن تقف هذه الدراسات إلى تنظر إلى هذا الإنسان كمسلم فقط، وإنما أن تنظر إليه كإنسان أيضا بكل ما يحمله من أبعاد. 17 – هل يسمح هذا النوع من المطالب للفلسقة بأن ترسم هويتها في الجامعة من حيث هي فلسفة أم ربما هو يحولها الى نوع من اجتماعيات المعرفة أو اديولوجيا جديدة؟ ربما أنه بإمكان الفلسفة في الجامعة أن تنأى عن الخطابات العابرة والصراعات التي لا تلبث أن تنمحي بفعل صراعات أخرى جديدة. فدورها يكمن في اعتقادي، ولاسيما في الجامعة، أن تجعل الطالب مواطنا كونيا، عالميا يعرف كيف يفكر ويحاور ويكتب ويؤلف ويبتعد عن جميع أشكال العنف والتطرف، وأن يتمكن من طرق الإقناع وتقنيات الكتابة وتحليل الخطاب من أي نوع كان ونقده وتفكيكه، وأن يقوم بإرجاء الصراعات السياسية الحزبية ويؤخرها عن طلب العلم والمعرفة بحيث عليه أولا أن يعرف هذه الصراعات وأسباب ظهورها،إلخ وهي معرفة تمكنه فيما بعد من الاختيار الجيد، لأنه في النهاية تعتبر السياسة ضرورية، ليست تلك التي نرثها من الأحزاب وإنما تلك التي تقوم في الفكر السياسي والفلسفة السياسية من أجل إصلاح سياسة الأحزاب نفسها وتقويمها وجعلها أكثر مواطنية واحتراما لمواطنيها ولمجمل العالم. o كيف ترون المستقبل الذي ينتظر الفلسفة في جامعة يهيمن عليها التقنوقراط من جهة ودعاة التراث من جهة أخرى؟ n الحديث عن التقنوقراط حديث فيه السلبي والإيجابي. فالإيجابي هو إبعاد الزبونية والجهوية والفئوية والقبلية والانتماء الديني من دائرة الحكم. أما السلبي فهو عدم الاكتراث بالسياسة، وكأن التقنوقراط والسياسة يوجدان على طرفي نقيض. والحال أن الحكم دون سياسة يكون ضعيفا، والسياسة المحملة بالزبونية تكون أضعف كثيرا. لذلك فإنه عندما تقوم السياسة الحقيقية بمهامها فإنه حينها لا نحتاج إلى التقنوقراط، وهؤلاء لا يتم اللجوء إليهم إلا عندما تضعف السياسة بفعل الأحزاب السياسية. أما دعاة التراث فإن هذا يتطلب فحص من هم هؤلاء لأنهم ليسوا على نفس الفهم للتراث, وأنت تعلم أن من التراثيين من هم أكثر قوة من بعض الحداثيين والعكس. إن من ينادي بالعودة إلى التراث لا يعود إلى الماضي، وإنما يريد للماضي أن يستمر في الحاضر وكأنه المدة الوحيدة في الزمان. والحقيقة كما يقول هيغل لا توجد في الماضي، وإنما في نظرنا توجد دائما في المستقبل. وعليه إنما الدعوة إلى التراث هي دعوة إلى ذلك الماضي عند البعض، ودعوة إلى الحاضر عند البعض الآخر. وهي في كلتا الحالتين تعتبر ذريعة من أجل الحاضر. o رجوعا الى مسألة التراث، هل يتاح لنا اليوم قراءة التراث من منطق هذا التراث نفسه أم أن الانعطاف جهة الكوني مسألة ملحة لقراته؟ n بالإمكان أن أقدم إجابة بهذا الشكل وهي إجابة لا تستوفي كل شروطها وهي: ضرورة التمييز بين الإرث والتراث كما قامت اليابان بذلك. فلقد اعتبرت الإرث بمثابة مختلف العوائق التي تحول دون التقدم والتحديث، واعتبرت التراث أساسيا في المحافظة على الخصوصية اليابانية كما تظهر في لباسهم وعاداتهم وتقاليدهم وطرق عيشهم ومعمارهم وعباداتهم، الخ فلم يمنعهم من التطور. لذلك فإن السؤال هل يمكن قراءة التراث بأدواته هو أم أنه يلزم انفتاحه على الكونية؟ فيتطلب بدوره أكثر من إجابة، والباحثون في ذلك لا يتفقون بل وينقسمون فيما بينهم، إذ منهم من يقول إن قراءة التراث بالتراث تكفي ليكون هذا التراث نفسه كونيا بل إنه كوني أصلا في زعمهم. أنهم يفهمون أن للتراث مناهج أقامها لنفسه بدوى عدم انفصال المنهج عن موضوعه. ومن يفصل بين التراث وقراءته التي تتوسل بالمناهج الحديثة في الإبستمولوجيا والأنثربولوجيا الثقافية وعلم الاجتماع والفلسفة. وأنا لن افضل هذا على ذاك، لأنني ما أزال ماشيا في الطريق. o انتقلتم من شعبة علم الاجتماع إلى الفلسفة. لا نريد معرفة إواليات هذا الانتقال وانما نرغب وضع سؤال حول ما الذي قدمته الفلسفة لكم؟ n في الحقيقة أنني في السلك الأول من التعليم الجامعي كنت أقرأ دروس الفلسفة ولم تثر عندي أية صعوبة ، لأنني في الأصل أعشقها وأحبها مثل حب الطفل للحلوى، مقارنة بدروس علم الاجتماع وعلم النفس. تذكر معي أنني تعلمت الفلسفة في الجبال، وكانت النظرة من فوق الجبال تغنيني عن النظر إلى تفاصيل الحياة وعن المشاهدات الجزئية، وتجعلني أميل إلى المجردات، بل لما كنت يتيما لم أكن أنظر إلى نفسي إذ أنها لن تكون إلا نظرة ألم وتعاسة، تماما مثلما كان الفيلسوف اليوناني في الاعتبار الأفلاطوني لا يهتم بما هو أمامه، وهو ما يثير ضحك العبيد عليه. فقلت في نفسي. ينبغي أن أعرف ما هو غير محبوب عندي، يعني هذا العلم الذي يهتم بالتفاصيل وبالبحوث الميدانية والمناهج الاستقصائية والاستقرائية،الخ. وكان هذا حقا وراء اهتمامي بعلم الاجتماع، غير أنني صادفت أمامي عددا من العقبات أهمها أن البحوث الميدانية تتطلب التوفر على الوسائل التي تمكن من هذا البحث، وهي غير متوفرة عند أغلب من يهتمون بعلم الاجتماع إلى اليوم. عندما صرت أستاذا للثانوي بمدينة الدارالبيضاء كنت دائما أسجل في شعبة علم الاجتماعي، مثل علم الاجتماع القروي،تارة والنظريات الاجتماعية تارة أخرى. غير أن شروطا معينة حالت دون حصولي على شهادة معينة، غير أنني استفدت منه كثيرا إذ استمرت قراءتي لكتب هذا العلم أكثر من خمسة عشر عاما على أمل اجتياز امتحان ما لأتقدم بعد ذلك إلى الدكتوراة في هذا العلم. إلا أن شروطا حالت دون ذلك، وأنا أقولها دون خجل. منها أنني غالبا ما أسافر من البيضاء إلى الرباط فلا يحضر الأستاذ، ولقد حصل هذا مرات عديدة، وحتى إذا ما حضر بعضهم يحكي لنا قصته، طبعا باستثناء البعض منهم،فأتخلف عن المسير، حتى أن فتح الله علينا نحن الحاصلين على الإجازة في علم الإجتماع بأن نتقدم لإجراء مباراة في الفلسفة. ولقد نجحت وحصلت على الدكتوراة في الفلسفة بعد ذلك. فها أنت ترى معي بأن الاختيارات محكومة بإرادات أخرى ليست هي إرادة الذي يختار.والسبب في ذلك هو أن الإنسان هو مجموع علاقاته الاجتماعية. أما السؤال عن ما الذي قدمته الفلسفة لي؟ يتطلب سؤالا آخر هو ما الذي تقدمه الفلسفة لنا جميعا؟ والجواب هو أنها هي التي تحافظ على الوجود الإنساني وتنقذه من السقوط في البهيمية وحب الهيمنة على الآخرين. إنها هي التي تعلمنا كيف نعامل غيرنا بناء على الإنسانية المشتركة، تنصحنا بأن يكون فعل كل واحد منا بمثابة قاعدة يقبلها الجميع منا، تبين لنا كيف يكون العيش المشترك ممكنا، إلخ. هذا على الصعيد الإيثيقي. وعلى الصعيد النظري تجعلنا نجمع بين الشجاعة في طرح الأسئلة والتواضع في الإجابات عنها دون عنف ولا تعصب ولا إدعاء، تبين لنا طرق فهم الخطابات المختلفة وأبعادها ووظائفها والمسلمات التي تخفيها والأهداف التي تريد أن تصل إليها، تعلمنا كذلك أن المنتوجات البشرية من فن وأدب وسياسة وأخلاق، الخ ليست خالدة وإنما تخضع للتغيرات التاريخية المستمرة، إذ الذي يبقى من الفكر إنما هو الطريق إلى الفكر، وكما يقول هايدغر: نحن نفكر لأننا لم نفكر بعد.