لنتوقف عند حدود العنوان الذي اقترحناه لقراءة هذا النص الروائي . إن المفتاح هو السر الذي يجمع شخوص الرواية، مثلما يشتتها إلى مناح أخرى. وهو بهذا المعنى مفتاح ندخل به العالم الروائي لمحمد غرناط . كيف ذلك ؟ إن الرواية تبدأ من آخرها ، لأن الصفحة الأخيرة هي عتبة الرواية، ترسيمتها الرئيسة، وهي بهذا المعنى تكتسي أبعادا متعددة ليس من قبيل الأمكنة والأزمنة التي نرغب فتحها، بل في جعل القادم والمستقبل عبورا نحو فتحه . إن مفتاح الرواية يتحدد من هنا ، من صفحاته الأخيرة . لكن بين الصفحات الأخيرة والغلاف / عنوان الكتاب مسافة تأويلية تدع قارئ الرواية متوترا، ومتحفزا نحو الربط الدلالي بين هذين البعدين، بعد أن يلتقيا ويختلفا. وإن كان عنوان الرواية يحيل على وصف زمن الرواية، كزمن بارد ومثلج، فإن البرودة هنا ترمز إلى الزمن المغربي الحديث، الذي لم تعد فيه الحياة كما كانت في السابق ملتهبة وساخنة بالحب والمودة وما إلى ذلك. إنه زمن تتشظى فيه البرودة بين تلافيف اليومي والأمكنة، وشخوص الرواية. زمن يشكل فيه اللامعنى حدوده القصوى في المعنى. إن شخوص الرواية الملتفون حول المرأة تتحدد ، وتتجسد في قلب العلاقة بين الذكورة والأنوثة ، بين الرجل والمرأة، كأن سخونة حياة الرواية تبتدئ من الذكورة، وكأن هذه الأخيرة هي الضامنة لقياس البرودة والحرارة، ولأن الأمر كذلك فإن العلاقة بين البرودة والحرارة تنقلب لتكون المرأة ، بما هي امرأة خائنة، وماكرة ومخادعة،وشيطانة فإنها تزرع هذه البرودة في سرديتها . و من هذه الوجهة نستطيع مقارنة العلاقة بين الرجل والمرأة في الرواية بمنطق آخر، يضيء المعتم في الواقع المغربي الحديث، صحيح أن الدراسات ما بعد الحداثية تظهر أن المرأة هي منبع السلطة داخل المجتمع، بما أنها متحكمة ومتملكة للنظام الرمزي في ثقافة ما . بينما الرجل يحتفظ بسلطته القانونية البرانية . بين البراني والجواني مسافة تتسع لأكثر من تأويل ممكن. قد نحيل هنا على قصص ألف ليلة وليلة ، أي امتلاك رمزي لسلطة الحكي لشهرزاد. كأن صوتها هو تحريرها من الموت، ها هنا تنفضح العلاقة وتتكون بطريقة جديدة تكون فيها الخدعة والمكر رافعتين للرواية ككل. هل استطعنا تقريب العنوان من حواسنا ؟ أم أننا تركناه يسبح في اعتباطيته، مادام العنوان في آخر الأمر هو لعبة ما قبل وما بعد، أي ما قبل الكتابة وما بعدها، كما المولود تماما. لنترك هذا العنوان جانبا ونخطو مع ساردها المتحدد في تضاريس الرواية، إن هذه التضاريس تفترض منا إعادة رسمها بطريقة تجعل الخطو سبيلا نحو الوصول إلى ما نريد قوله، بمعنى كيف نعيد كتابة الرواية من جديد ؟ أو كيف نحفر بين الأيام والبرودة عما لم يقله محمد غرناط ؟ أو بالأحرى البحث عن مفتاح آخر بعيد عن المفاتيح التي وزعها الكاتب على شخوص روايته. إن البحث في هذا البين - بين هو ما يهمنا في هذه القراءة. فأهمية هذا تكمن في التنفيس على الذي لم يقله الكاتب. إننا نستعير هنا وجها آخر من الوجوه التي يمتلكها الكاتب لنرسم ما قبل وما بعد الرواية، إن الكاتب يهدي لقرائه هذه الإمكانية، وهي إمكانية ملفوفة بالمقالب والمخاطر، كأن هذه الأخيرة يشترك فيها القارئ والكاتب معا. بل تهم هذا الأخير وأقنعته المتعددة. كأنه يجر قارئه لتخيل حياة غنام ومديحة فيما قبل، كما يحيل هذا الما قبل على ما بعد الأسطر الأخيرة من الرواية ، أي كيف يرتمي القارئ في عوالم متخيلة بينهما لشخوص الرواية، هذه المسألة يشير إليها السراد في أكثر من مرة، خصوصا فيما يتعلق بالكتابة ، كتابة الحكايا والسيناريو من طرف مديحة، وما تنتظره فردوس من أخبار لإنهاء الحكاية، وما تبتغيه لوبانة من إحراق الحكاية الأولى وبداية حكاية جديدة في عوالم الأندلس، وبحث حسام عن المفتاح، مفتاح البيت القديم لبداية حكاية جديدة ... هكذا تتناسل الحكايا في رواية واحدة، وهكذا تجتمع في مفتاح كل واحدة على حدة. كأن المفتاح هو الحكاية . إذن يلزم القارئ شحذ خياله كي يستنبت ماهو قادم، أي في متابعة حياة مديحة وابنتها في حي حسان بالرباط، وبأحلامهما الكبيرة نحو المال وتبعاته. إننا ندخل الكاتب في ما لا يهمه ، لقد أنهى محمد غرناط روايته وقدمها لنا، وأضحى في التقليد النقدي الحداثي ميتا ليعود من موته لحياة أخرى يكون فيها الكاتب قارئا لرواية كتبها فيما سبق، لكن رغم موت المؤلف ثمة قنديل/ قناديل تضيء النص في بعده الجمالي، إلا أن هذا القفز بين المؤلف ككاتب والمؤلف كقارئ مساحة تربط الكتابة بالقراءة مثلما تشعل حدود المعنى إلى تخوم اللامعنى، وهذا ما يعطي للكتابة شساعة الحلم والتخييل . التخييل بعد رئيس في الرواية ليس من حيث كونه حجر رئيس في الكتابة الأدبية وإنما فيما يشكله الخيال عند الشخصية المركزية في الرواية، هذا الخارج من السجن بعد أن قضى أربع سنوات ظلما في قضية قتل امرأة، إلا أن تحرره سيأتي بعد اكتشاف المجرم الحقيقي والقبض عليه، أربع سنوات كافية لقول العذاب والقهر والتنكيل الذي عاشه في السجن، لكن خروجه سيكون صادما لزوجته مديحة، وابنته عفاف مثلما سيكون صادما للآخرين وله في نفس الوقت. سؤال البراءة هو المقود الذي سيقود به السارد الأول حياته ما بعد السجن الذي سيكون السم موضوعة رئيسة على طول وعرض الرواية، إنها تتكرر في أكثر من صفحة وكأن ما يعيشه السارد هو المضاعفات التي تركها السم في تجاويف حسده " ... أن دمه من دون شك اختلط بالسم،ولذلك صار على يقين بأن ذلك سيكون سببا في موته ولن ينفعه أي دواء " ص 86 . إن دلالة السم لا تتحدد في أكله وشربه، أي ليست هي دالة على حالة طبيعية، بقدر ما هي ميكروب أضحى قاتلا في زمننا المغربي الحديث ، إنه يحمل دلالات متعددة في السجن وخارجه، في علاقته بزوجته التي يرى فيها عين السم مثلما يشكل عزام / الضابط المستقوي والمستبد والجشع والحامل لصفة من صفات المخزن المغربي عين السم . لذا يحيل غنام على موت سقراط ( ص 86 ). ألا يشكل سقراط الوجه الآخر لغنام والأستاذ الشهباوي الذي اقتسم معه زنزانته في السجن مادام هذا الأخير هو القنديل الذي أضاء ليالي السجن الباردة ؟ لكن اللافت للانتباه هو الوجهة الأخرى التي يوجه بها الكاتب شخوصه، أعني بذلك الأفق المضيء الذي بدأ يتبدى لغنام، بعد أن قضى كل شيء يربطه بماضيه، زوجته والتعويض المادي لسنوات السجن التي قضاها ظلما أو خطأ قانونيا، والمفتاح الذي ظل يحتفظ به وإعطائه لابنه حسام . وإن هذا التغيير تقدمه لنا صفحة 177 فيما يتعلق بهذا السم الذي يسكنه ويوجع جسده ليتحول فيما بعد إلى مقاومته، ليس فقط عن طريق الدواء، ولكن عن ذكرى أمه التي تقول له باستمرار : "إن الحليب يحمي جسم الإنسان من السموم "و " فإنه الآن يتناوله باستمرار ليساعد نفسه على مواجهة السم الذي انتشر في جسده" . يمكننا النظر إلى الرواية بكونها رواية السموم المختلفة. سموم في العلاقة بين غنام ومديحة ، بين فردوس والقبلي ، بين لوبانة وزوجها ، بين الأستاذ الشهباوي والمخزن ... ماذا يعني هذا القول ، إنه يعني : - أولا : خيانة مزدوجة لمديحة : خيانة زوجها وحيها درب السانية. وهذا ما تعبر عنه في أكثر من مرة رؤيتها والنظرة الباردة لزوجها، وكذلك تحاشي جيرانها وابتعادهم عنها، ( ما قاله القصري لها حين أرادت ركوب سيارة ابنتها ). إن هذه العلاقة التي يلفها السم تكون من جانب واحد، ثمة ما يكون سببا لتسميم الآخر، وثمة شخص يلحق به هذا السم ، ليس تخريبا لذاته، وتحطيما لروحه، وإنما هو حالة المنفى التي يعيشها المتجرع لسم آخر . - ثانيا : يقدم لنا السم وجها آخر من وجوه السلطة والسيطرة، وهذا ما تفيده خيالات مديحة ورغبتها امتلاك العالم . إلا أن هذه العلاقة بين الذات وآخرها تتجلى في ارتباط لوبانة بزوجها، إن هذه المرأة الثرية والمنحدرة من أسرة عريقة تتزوج ثريا عجوزا ليلبي لها رغباتها المتعددة، وإن كانت تخونه فإنها تقوم بذلك لتجريد كل الرغبات المكبوتة . إلا أن علاقتها بزوج خادمتها مديحة هو شيء آخر . شيء يندفع نحو رغبة لوبانة تحرير غنام / الخادم من ماضيه والسموم التي تنهش جسده، ولن يتم ذلك إلا بإعادة إيقاظ الفنان الذي يسكنه، إن غنام ? إذن ? فنان بامتياز، يتقن حرفة صناعة الخزف، ولأنه كذلك ، فإنه عاشق للملحون، وهذا الأخير هو الرئة التي تحيا بها السيدة لوبانة . إن دلالة هذا النوع الموسيقي يجرنا إلى الفضاءات القديمة لمدينة سلا، مثلما تحيل على الوجه الآخر للحرفيين يوم عطلتهم الأسبوعية حين يشتغلون . إنها موسيقى ترتق الحواس وتشتت المسامات إلى شظايا، ثم تعيد رتقها من جديد. هكذا تكون الموسيقى جسرا لغنام ولوبانة تمكنهما من تحرير نفسيهما من سجن يعيشانه سويا باختلاف وضعياتهما الاجتماعية والمادية والنفسية. إن الفن هو المعبر الوحيد للهروب من سم قاتل، كأن ما تبقى يحرر الفن بطريقته، بمعنى أن الأمكنة التي تحاصر وتؤثث المواقف وشخوص الرواية لا تشكل ? في نظرنا ? مرتعا للسم، أي لا يكون علاج العليل هو تخييره من مكان إلى آخر، من السجن إلى الفضاءات العامة، من سلا إلى حسان، من المغرب إلى إسبانيا وإنما الخيال والفن هما الوحيدان القادران على قلب وتغيير رؤية الإنسان إلى العالم، رؤية غنام إلى عالمه الجديد من رجل يتقدم نحو الموت بسعال قوي ومتتال إلى شخصية متشبتة بالحياة، لأنه يشرب الحليب كنوع من إيقاظ الفنان الذي يسكنه . إنه يعود إلى طفولته وإلى أمه الحاضنة للحياة والمستقبل، ألا تشكل رمزية الحليب نقاءا يروم بياضه نحو الحياة... قد تكون إسبانيا حليبا يرمم هذا الجسد المعذب لغنام، مثلما تكون لوبانة مفتاحه الجديد لرؤية القادم والمستقبل. هذه المرأة تحضن خادمها دون أن تقولها. ترغب أن تكون رحلتهما على السيارة، كي تكون الطبيعة مشاركة في انسجامهما الكلي مع تحررهما من سم قاتل. سم يتجرعه كل واحد بطريقته. ثالثا : تشكل علاقة حسام بأبويه ( غنام ومديحة ) شكلا آخر من هذا السم الذي تجرعه حين اعتقال أبيه، وإعلانه الرضا على اعتقاله مدى الحياة، ليتحرر منه بعد إظهار الحقيقة ، لكن ثمة سم ينخر جسده حين تبدت له أمه كعاهرة وخائنة إلى حدود تهديدها. هو الآخر سيحمله مفتاح البيت الكبير القديم ليحرره من السموم العالقة بجسده. رابعا : ليس غنام هو الحامل الوحيد لهذا السم، وإنما كل شخوص الرواية تحمل سمها الخاص، لذا تبحث عما يبرئها ويشفيها من هذه العلة. سيكون المفتاح علامة دالة على ذلك حسب كل شخصية على حدة، والدور الذي تلعبه في نسيج العلائق الاجتماعية... ثمة موضوعات أخرى تتسلل إلينا من أوراقها وحروفها كموضوعة الداخل والخارج، وهي موضوعة تؤثت الرواية من أولها إلى آخرها، سواء داخل أو خارج السجن ، سلا/ الرباط ، المغرب / اسبانيا، وهي كلها تتجسد بشكل دقيق في شخصية زميل غنام في السجن، الحامل لقيم أصيلة، إنه المثقف العضوي الذي جعل منه غنام نموذجا للداخل والخارج معا. إنه أضاء دواخل غنام وتمنى لو كان معه، أو على الأقل لو زاره في سجنه، فهو شخصية بروميثيوسية بما تحمله الدلالة الأسطورية لأسطورة سارق النار. فالداخل هنا ليس مكانا بعينه وإنما هوالزمن المغربي الحديث الذي التبس فيه الداخل والخارج معا. كأن الداخل إليه مفقود، والخارج منه مولود ، فكل شخصية ترغب اختراق داخلها والخروج منه نحو عالم أرحب. عالم تكون فيه القيم في صراعها المتعدد حربا نحو امتلاك السلطة والمكان، حربا بين الحق والظلم ، بين النور والظلام بين السم والحليب " ...إذا حاول أن يحصل على حق يكون كمن يحاول أن ينزع لقمة من فم أسد " ص 22 . موضوعة أخرى تظهر لنا بشكل غريب، وهي موضوعة المرأة التي تقدمها الرواية كامرأة خادعة وخائنة، بينما الرجل يكون مخدوعا ومغبونا باستثناء الضابط المتسلط الذي قتل زوجته. لكن لماذا يقدم لنا الكاتب صورة سيئة للمرأة ؟ ألا يعود هذا إلى أصل البدايات. أصل العلاقة بين حواء وآدم وما ترتب عن هذه الحكاية من مضاعفات علقت بالمرأة إلى حدود الآن ، ألا يعني هذا عودة المكبوت الثقافي إلى عوالمنا ؟ إنه يستثني الأم / أم عزام من هذه الصورة . كأن الأم حاملة للصفاء والحليب . ألا يحيل هذا على ما تعودنا قوله ? استنادا للمثل الفرنسي ? كون جميع النساء عاهرات ماعدا الأم . لا نريد هنا مقارنة هذه الموضوعة مقارنة تحليل ? نفسية ، بقدر ما نود فتحها كسؤال ممكن لقراءة أخرى . ونحن نريد إتمام كتابتنا عن هذه الرواية فإننا لا نستطيع قول كل شيء، مثلما لا نقوم إلا بإضاءة الذات القارئة لهذه الرواية . إن جماليتها لا تتحدد في لغتها وتخييلها، ولا في متابعة شخوصها، ولا في التبادل السردي بين هذه الشخوص، بقدرما تشدك الرواية نحو إتمامها. فهل نستطيع متابعة شخصية مديحة في كتابتها لحكاية غنام ؟ أو نتابع غنام في رحلته إلى إسبانيا ؟ أم نتابع الأيام الأخيرة لعزام ؟ ذاك ما نود تخييله ، ما نرغب في إعادة كتابته من جديد . إن هذه الرواية عمل يستحق منا أكثر من قراءة ، بل ويستحق الكثير من العناية والتأمل والقراءة . * - محمد غرناط ، الأيام الباردة ، دار الأمان الرباط ، 2013 .