تضعنا كتابة «عباس بيضون» في تماس مع كيفية قراءته؛ إنه يعرض على قارئه إمكانيات متعددة لمتابعة ألبومه. صحيح أن هذه الإمكانيات يتستر عليها كما لو كان نينو يحجبها بموائه. وصحيح كذلك أن الكاتب يعرض هنا ألبومه الخاص المرتق بالحميمي. لكن القارئ - من جهة- أخرى يتلصص على صوره. لنتوقف عند هذه الفرضية الأولى في الكتابة، ونقول - بدون سابق إنذار- إن الكاتب يتستر- أو بالأحرى - يستر بعضا منه كأنه يترك الفراغات لكتابة ممكنة، مثلما يعرضها لقراءة محتملة. ونحن في أبجدية الاحتمال نفترض أن الصور الموضوعة بترتيب وبجمالية الواحدة تلو الأخرى، وأن الكاتب ينط من صورة إلى أخرى. ربما أنه لم يهتم برواية صور ما. بمعنى انه اقتنى صورا معينة لتكون الناظم الرئيس في الرواية. كأن القارئ الذي يقف بينه وبين الصور يرى - بنوع من التلصص - ما يخططه الكاتب: حكاية ما. وهي طريقة مستفزة في رمي القارئ للتنقل بين الصور والكلمات أو بين الصور والذكريات. تلك هي العلامة الفارقة المغرية لمتابعة هذا العمل الجديد للشاعر والصحفي «عباس بيضون». كأن هذا العمل يتعرى أمامك في شفافية مرعبة. ولا يفرض عليك أن تبدأه من الصفحة الأولى إلى آخر صفحة، كما ألبوم الصور تماما. بإمكان قارئه أن يقرأ النص من الأخير أو من الوسط أو من أية صفحة يريد. كأن الكاتب يدخلك في هذا الشراك بعنونته لروايته بعناوين مختلفة، لكن لماذا أضاف إلى الألبوم الخسارة؟ لماذا لم يقل مثلا ألبوم عباس بيضون، أو ألبوم الهزيمة؟ نحن لن نفرض، وليس من حقنا فرض عنوان آخر، أو على الأقل اقتراحه. فالكاتب يحكي ألبومه الخاص وقد تجاوز عقده السادس. يحكيه بحسرة، بشعرية مدوخة. ربما الذكريات هي اللغم الذي يفجر فينا هذا العبور إلى المنافي الخاصة للذات. كأن تلك الذكريات هي مصدر الألم والأسى. صحيح أننا نقوم بنسيانها أو بتناسيها، لكنها تطفو سلطة في الصور. الألبوم إذن جامع لتلك الذكريات الألبوم حامل للألم. يرسم السارد لنا في هذه الرواية أفقا جماليا يحمل توترات شخوصه، لكن من أي موقع نقرأ الرواية، أو من أي زاوية نظر نتلصص على الصور والسارد معا: هل من زمنها أم من مكانها؟ وإن كان الزمن محددا في سن شخصيتين رئيستين هما: السارد ونينو. عمران يعيش كل واحد منهما آلامه ورغباته ومتعه على حدة إلا أن المكان هو العلامة التي تكثف مفعولات الزمن. المكان بروائحه وعطر نسائه ودمه وروائح الرصاص والكتب والجرائد والرسائل البعيدة والجنس وما إلى ذلك. من هذه الروائح يمكننا متابعة الرواية، لا للتلصص على رائحة أو بالبحث عما يفيده التطابق بين الروائح والأمكنة من تلف ممكن؛ وإنما في إيجاد خطوط منفلتة لتلك الروائح. عباس بيضون، إذن، يمشي على هذه الخطوط ليكشف لنا أنه هو بطل الرواية وساردها. يكشف لنا ذلك في أكثر من مرة بوضوح صفحة 72 حين يحدد اسمه الخاص في الرواية مثلما يشير إليه سواء في تجربة الاعتقال السياسي أو في تجربة المقاومة أو في حادثة السير التي كادت تودي بحياته. تلك «الحادثة التي يربطها جينيالوجيا» باسمه العائلي كأن طريقة الموت الذي لحقت بأخيه وأبيه هي نفسها التي كادت أن تودي به «أحيانا أظن أنها السيارة نفسها التي لحقتني ودهستني، قبل ثلاثة أشهر» ص 167. وفي المقابل ما الذي يربط الكتابة بالموت أو الكتابة بالجنون. ثمة علاقة بين الكتابة والموت والجنون ليس من حيث أن للأولى مرجعا أبويا وليس لأن الأخيرة نجد جذورها عند الأم، وبين الأب والأم مسافة الوعي واللاوعي. مسافة المكان في هندسته التقليدية التي تكون فيها الأم مخبوءة في مكان ما من البيت كما الجنين والجني والمجنون تماما. بينما الكتابة من حيث كونها سلطة يكون فيها الأب حاملها. الكتابة انفلات من الموت أو هي المحاربة والمقاومة للموت، هكذا يضعنا عباس بيضون أمام الكتابة كرائحة خاصة تظلل المكان، وتحرسه من العادي والبسيط، بل للتفكير في قلب العادي والبسيط إلى جنون، جنون مبدع لا يكتب ذاته إلا ليحجب الظاهر فيها، ولا يقدم شخوصه إلا لينحجب فيها لتكون اللغة بوصلة للكشف والمكاشفة. سؤال الكتابة إذن هو العطر المهيمن على العطور والروائح الأخرى، ليس من قبيل التنظير إليه بل في البحث عن منفلت منها مثل علاقة أبيه بالكتابة تماما. كان التوقف عنها يفيد الموت. والكاتب لا يريد الموت بل يريد تجريب أشكال الكتابة كي يحيى، كي يعطي لأرشيف الصور المؤطر في ألبومه الخاص معنى. كي يزعج المعنى ذاته حين يؤثثه بالجنون. أليس بهذا المنطق القول إن الجنون كتابة والعكس صحيح تماما. «في لحظة ما يعاودني الشعور بأن والدي هو الكتاب، وأكاد أسمعه بصوته ص 53. الكتابة أرشيف مغلق ومفتوح. تنزع الكتابة إلى بعدين رئيسين وهما الأنا والآخر. ليس الآخر هو القارئ بالضرورة بل هو الوجه الآخر للكاتب ذاته. صحيح أن الكاتب يكتب ذاته ليحيا مثلما يحاول رتق حياته بحيوات أخرى من أجل النسيان أو على الأقل رغبة في محو ممكن للذكريات والصور. هذا التمفصل بين الوجه والمرآة هو ما يعلنه فلسفة الحياة- في الصفحات الأخيرة من الرواية- باسم الجنون العادي. يقول في ص 254: «إننا نزور الذاكرة في الغالب ومعنا مقص. الهدف هو أن تكون حيانتا ملكنا ولا تأوي غرباء. الهدف هو فسخ هذه الشراكة التي قامت عليها. الجنون العادي هو تقريبا عقل الاستبداد. إننا نقص صورة أو أكثر في كل زيارة، وفي النهاية نبقى وحدنا مع جنوننا» لكن لماذا يفرمل السارد حكايته؟ أو لماذا لا يترك شخوص الصور تخرج طواعية إلينا؟ كأني أقول لماذا عباس بيضون يحرك مقصه كي ينهي كلام الصورة قبل أن ينتهي؟ أليس هذا هو الجنون العادي كما يسميه؟ أم أن المسالة أبعد من ذلك من ذلك تفيد تاريخ الكتابة عند عباس بيضون. إن الكتابة الصحفية التي مارسها مذ أربعين سنة تمارس سلطة على هذا النص الروائي، ثمة خطوط ملغومة بين أشكال الكتابة في هذا النص، في تداخل الشعري بالسردي والتاريخي باليومي، والقط بالسارد، والجنون بالعقل والصور بالذكريات، والسياسي بالأدبي، والصحفي بالسردي... تداخل يلعب به عباس بيضون كما الحياة تماما، كما علاقته بنينو. هذا القط المريض، والذي يؤنسه ويزعجه في نفس الوقت حتى بعد موته، ظل حضوره في النص أفقا تأويليا، ليس فقط في العجز الذي يجمعهما، أي في السن المتقدمة لكل واحد منهما، بل جعل نينو حكاية، والسارد حكاية أخرى، بينما للتلفزيون حكاياه الافتراضية. هؤلاء العجزة الذين يؤثثون المكان ويستردون ذكرياتهم كل على حدة لكن في المقابل القط لا حكاية له سوى تلك الحكاية التي نرويها عنه بشكل مشاكس أو مرضي في أحيان أخرى. رواية عباس بيضون تؤثث عوالمها من ألبوم الصور، لا لتحكي الصور، بل لتضعها حكايا ترويها الألسن، كل حسب طريقته. لو افترضنا شخصية إكرام أو شخصيات أخرى هي التي تقوم بذلك، فمعنى ذلك أن الجنون لم يعد مستبدا، بل أضحى عاريا كما الذكريات المنسلة والمتسللة إلينا. هنا لن يكون القارئ متلصصا بل سيكون فلاحا يقلب ألبوم الصور من اليد اليمنى إلى اليد اليسرى، قارئا يقرأ بعين ويغسل ما قرأه بالعين الأخرى. الذكريات هي الآخر الذي يسكننا. ولأنه كذلك فمن الصعب إخراجه من أرشيف يأكله الزمن كما حكاية أبيه الكاتب تماما أو كما حكاية «إكرام» التي تقدم كل شيء ولا تأخذ سوى متعة الذكرى كما الصورة الجميلة في الاعتقال السياسي «يا أستاذ أنت متعلم أكثر منا، نحن بنفهم أكثر منك» كنت «الأستاذ» لأني فعلا كنت مدرسا. أما الشرطي فكان يضربني ليريني قيمة علمي. يضربني وكأنه يحطم ساعة الجامعة التي لم يدخلها». ص 202. وأنا لست شرطيا يبحث عن المعنى بشكل رسمي، وبحدود معينة، الكاتب يفجر الحدود باحثا عن حريته في الكتابة. كأنه لا يخطط لما يكتبه بل كما قلنا سابقا يضع ألبوم الصور مصيدة حكائية. يكتب رواية من داخل هذه الصورة أو على الأقل، يكتب في الفراغات الموجودة في الألبوم. الكاتب إذن ليس مجبرا أن يبدأ من هذه النقطة لينتهي إلى النقطة الأخيرة، علما أن النقط ? حسب التقليد الرياضي والهندسي اليوناني- لانهائية. إن اللانهائي هو المحرك الرئيس لهذا النص، فشخوصه تدور في مدننا العتيقة، أو بالأحرى تدور في دهاليز ألف ليلة وليلة لترفع قارئها نحو التيه، لا ليتيه عن المعنى بل في البحث عن النقيض الذي يسكنه. هذا الذي يسكن الآخر فينا؛ أي الذكريات البعيدة في الزمن، زمن الكاتب وزمن ما قبله: «أجد كثيرا من أشباه الذكريات، الذكريات التي لم أعشها أو الذكريات التي ليست لي تماما أو التي هربت قبل أن تصبح شيئا. في الخامسة والستين ليس علينا أن نقوم بعملية اجترار طويلة لحياتنا الماضية، يمكننا أن نكون أحرارا معها» ص74. سؤال الصور والذكريات هو مساحة الكتابة الأدبية عندنا؛ كأن الكتابة لا تستقيم إلا من الذكريات المسجونة في اللاوعي، تنتظر من سيحررها من أسرها اللازمني. وهو البعد الآخر الذي يحاول عباس بيضون إضاءته بكثير من الحميمية، وقليل من المكر. لا ليضع تطابقا بين الصور والذكريات، أو بين الوجه وأخره؛ بل في قلب هذا على ذاك، وعجن هذه في تلك، رغبة في جعلها خميرة للكتابة والقول. متعة هذا النص تتسع في خطوط لانفلات الوعي واللاوعي، الزمن واللازمن... متعة تضيف للحلم جغرافية جديدة للكتابة، ليس بمعنى أن الحلم وليد البطالة بل هو وليد القراءة.