يشهد الواقع أن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، منذ نهاية أشغال المؤتمر الوطني التاسع، وهو داخل في دينامكية قوية وفعالة ومنتجة، تتجلى في تفعيل التنظيم الحزبي عبر الأقاليم والجهات، وفي عقد المؤتمرات الموازية على مستوى الشبيبة والنساء وغيرها من القطاعات، وفي عقد عدد من اللقاءات التنسيقية خاصة في إطار الكتلة الوطنية، كما حدث مع حزب الاستقلال . هذا بالإضافة إلى عدد من الندوات الفكرية والإشعاعية. فما المطلوب إذن بعد كل هذا؟ إن عمل أي حزب، يتم عادة على مستويين أساسيين: مستوى التنظيم ومستوى التكوين والإشعاع. وهذا ما حدث ويحدث في حزبنا منذ نهاية المؤتمر الوطني الأخير، لكن ما نشاهده ونسمعه بين الفينة والأخرى من بعض إخواننا الإتحاديين (مع الأسف) من نقد لاذع وهدام، ومن مس بأعراض المناضلين الشرفاء، ومن تهديد بالانشقاق ، وعقد ندوات صحافية هنا وهناك، تذهب إلى المس بسمعة الحزب بشكل عنيف، شيء بقدر ما يدفع إلى الإستغراب والتعجب، فإنه يخلق في النفس قلقا وتشويشا تجعل المرء يتساءل قائلا : ما الهدف من كل هذا، وإلى ماذا يرمي هذا السلوك الغريب؟ - لكن المسألة الأولى التي لا بد من تسجيلها وتنبيه هؤلاء إليها هي: أن الاتحاد الاشتراكي ليس حزبا خاصا بالاتحاديين لوحدهم، بل هو حزب لجميع المغاربة، وأي مس به هو مس بالوطن و المواطنيين جميعا، وأية محاولة الانتقاص من قيمته أو النيل من وحدته، فإنها ستنعكس على الوطن في شموليته، و ذاك باعتراف عدد مهم من القادة السياسيين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وباعتراف عدد مهم من المثقفين ورجال الفكر . - حقيقة قد نختلف داخل الحزب، قد نتصادم، قد لا نصل إلى التوافق التام والمطلق، وهذا أمر يمكن القول عنه بأنه بديهي جدا في عالم السياسة، لأننا نتقارع حول أفكار وتصورات، ومنهجية للعمل، فنحن لسنا في مجال الأرقام والحسابات الرياضية، بل في مجال إنساني، تتلاقى فيه الذوات، بكل مكوناتها، من مشاعر ومواقف وتجارب وأحاسيس وأفكار ...، إن أحدنا لا يطابق الآخر بشكل تام ومطلق ،و لكن نحن نتقارب لأننا نتقاسم نفس المبادئ: مبادئ الإتحاد الكبرى: التحرير الديمقراطية، الإشتراكية مهما اختلفنا . - لكن مهلا أيها الإخوان، حكموا عقولكم وتجاوزوا ذاتيتكم، فلا أحدا مستفيد من هذا السلوك العدواني . إن الكل يعلم أن الاختلاف يكون رحمة أحيانا، لكن في حدود . من هنا أقول لكم بكل أريحية ومودة ومحبة فليستحي البعض منكم، وليترك خيوطا رفيعة للتلاقي احتراما للتاريخ ومراعاة لمصلحة الوطن. وهنا أعود وأكرر السؤال السابق : ما الهدف من كل هذا اللغط القائم؟ - إن الأنا والآخر، هنا بقدر ما يختلفان فإنهما متطابقان لأنهما يشكلان هوية واحدة، هي هوية الذات الحزبية الاتحادية. إن الصراع بين عنصريين متطابقين، لا يعطي نتيجة متقدمة على الإطلاق، علما بأن قوانين الدياتكتيك تحدد الصراع بين النقيضين، وليس بين المتطابقين، لكي نصل إلى اللحظة الجدلية الثالثة، لحظة التقدم إلى الأمام . - إن النقيض المخالف لنا (أيها الإخوان) هو هؤلاء الخصوم تجار الدين، التكفيريون أعداء المرأة، الرجعيون، الإرهابيون، القتلة، الذين يبيحون دماء الأبرياء باسم الدين، والذين يعتبرون المرأة بضاعة تباع وتشترى، فيحصرون مهمتها في إشباع النزوات باعتبارها كائنا يختصر وجوده في الجسد، هؤلاء الذين يريدون الرجوع بنا إلى الوراء متجاوزين صيرورة التاريخ، إنهم أعداء الحداثة والديمقراطية والعقل والمنطق. - وهنا سأوجه خطابي إلى شخصين محترمين من أبناء بيتنا الاتحادي، مناضلين أفذاذ : الأول سأسميه بالاتحادي المثقف والثاني بالاتحادي الاقتصادي . - فأقول للأول سيدي: بقدر ما أحترمك وأجلك ، أطرح عليك المشكل الثقافي في بلادنا، ذاك المشكل الخطير جدا والذي خطورته أكبر بكثير من خطورة المشكل الاقتصادي والاجتماعي . فأنت تعرف، سيدي، جيدا أن البنية الثقافية السائدة في بلادنا هي بنية محافظة، وأنها زادت محافظة بصعود الإسلاميين إلى سدة الحكم، وبالغزو الثقافي الذي جاءنا من الشرق ، سواء عن طريق القنوات الفضائية أو عن طريق الوافدين إلى بلادنا، بشكل شخصي أو جماعي، وأن هؤلاء جميعا ساهموا بشكل فعال في نشر ثقافة بالية متزمة، هدفها الرجوع بنا إلى العصور الغابرة متنكرين للزمن وللتاريخ . - سيدي ألم يكن حريا بك أن تعمل في الواجهة الثقافية، وأنت كنت مسؤولا عنها، لكي تعمل على تكسير هذه البنية الظلامية التي أصبحت تغزو عقول شبابنا، وأنت تعرف جيدا أن الخطورة التي يكتسيها الفكر والثقافة داخل أي مجتمع، هي خطورة قوية جدا . إن مسؤوليتك كاتحادي أولا، وكيساري ثانيا، تقتضي منك النضال على هذه الواجهة الصعبة، خاصة وأنت تعلم جيدا أن تكسير البنية الفوقية الثقافية داخل أي مجتمع هي عملية أصعب بكثير من تكسير البنية التحتية المادية الاقتصادية. - وأنا أتساءل هل الانزواء والتقوقع على الذات، والنقد من بعيد، وخارج الهياكل الداخلية للحزب، هل هو أفيد من هذه المهمة النبيلة المشار إليها سابقا ؟ - أخي أتمنى عودتك وسط عائلتك من أجل تأدية هذا الواجب العظيم الذي هو مسؤوليتك، ليس إزاء الحزب فقط، بل إزاء الوطن بالدرجة الأولى . - أما الشخص الثاني الذي سأتوجه إليه بخطابي هذا، والذي سميته بالاتحاد الاقتصادي، فهو مناضل فذ بحق، أنحني أمامه بكل إجلال وتكبير، وأستحيي من رفع رأسي أمامه، نظرا لتاريخه النضالي القيم، لكن أتوجه إليه بهذا العتاب الأخوي متسائلة : لماذا هذا الانطواء على الذات؟ وفي هذه اللحظة من الزمان، فإخوانك اليوم يحتاجون إليك أكثر من الأمس. - سيدي، كنت أنتظر منك ، في هذه المرحلة من التاريخ أن تمدنا باجتهاداتك فيما يخص النظرية الإشتراكية خاصة في جانبها الاقتصادي، فبعد سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط الجمهوريات الاشتراكية في شرق أوربا، وظهور طرح البيروسترايكا، فتح الباب واسعا للنقاش حول تعديل النظرية الإشتراكية لملائمتها للواقع الجديد، ولم يساهم حزبنا بشيء يذكر في هذا الباب، رغم انتمائه إلى الأممية الاشتراكية . - حقيقة يحز في نفسي أن أعلم أن الحزب العمالي الإنجليزي خرج بتصور واضح حول هذا التعديل على يد السيد طوني بلير ، وألف في هذا الصدد ، كدالك السيد شلودر عن الحزب الاشتراكي الألماني ، بينما بقينا نحن تائهين ننتظر من نخبنا أن تمدنا برؤية واضحة تجعلنا نتلاءم مع التغيرات الحاصلة في العالم ، - حقيقة لدينا التقرير الإيديولوجي لسنة 1975 لكن هناك تغيرات جديدة ومفاهيم جديدة أصبحت تغزوا الساحة الفكرية الاشتراكية (ولا داعي لذكرها هنا) وهي مفاهيم تظل غامضة لدى المناضلين والمناضلات البسطاء الذين ينتظرون منك ، ومن النخبة عموما، تنويرهم في هذا الباب عوض أن تحتفظ باجتهاداتك لنفسك وتنغلق على ذاتك. - وأخيرا أوجه ندائي إلى كل مثقفي الحزب قائلة لهم، إن المهمة الملقاة على عاتقكم اليوم هي أعظم من تلك التي كانت في الستينيات والسبعينيات، لأن العدو آنذاك كان ظاهرا جليا، أما الآن فالعدو مثل الشبح ومثل الزئبق يتسرب إلى بيوتنا ومدارسنا وكل المؤسسات الاجتماعية، يغزو مقاهينا وأسواقنا وشوارعنا، يتسرب إلى عقول صغارنا وشبابنا، إنه تعشعش في كل مكان، وفي كل ركن من البلاد . إخواني إنها مسؤولية سيحاسبكم التاريخ على عدم تحملها . - هل يليق بمقامكم أن تنخرطوا في الصراعات الداخلية، وتنغمسوا في تزكية التناقضات الداخلية وتساهموا في تعميقها إلى الجذور عوض مهمتكم الأساسية هذه. - أنا لا أرضى بذلك، ولست في مقام تقديم النصيحة لأحد، لكنها الغيرة على سمعة الحزب، تدفعني إلى أن أناشدكم على تحويل الصراع من المسار الهدام إلى المسار البناء وأن تتجاوزا النظرة النتشوية (نيتشه)، وأن تقللوا من تضخم الأنا، لأن أي أنا، فهي تحتوي على آخر داخلها، ولذلك يجب أن تعملوا على تقوية الآخر على الأنا الذاتي، وأن تجعلوا من هذه الذات ذات بناءة كما كانت من قبل، وكما يجب أن تظل، وذلك ليس من أجل مصلحة الحزب فقد، بل من أجل مصلحة الوطن. (عضو اللجنة الإدارية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)