لا تقيم روايات الأديب الإنجليزي ديفيد ميتشيل وزناً للحدود، فهي تعبر الأزمنة وتنتقل بين القارات، لذا يصعب على النقاد تصنيفه ضمن الكتاب الإنجليز بالمعنى الحرفي للكلمة، رغم أنه ولد وترعرع في إحدى قرى إنجلترا، بالنسبة لميتشيل، يشكل العالم وحدة مترابطة وموصولة، وهكذا ينظر إلى مجمل كتبه أيضاً التي تشكل بكليتها حسب قوله هي »المثال الأسمى للرواية«، تتكرر فيها الموضوعات والشخصيات وتتداخل مع بعضها مما يجعل العالم أكبر، لكن أكثر ألفة. تمزج رواياته بين الحقيقة وقصص الخيال العلمي والحكايات الخرافية في طموح ملحمي تخاض في أرجائه المعارك بين البشر والخالدين وبين الخير والشر، ولمن يهوى هذا النوع من القصص، فإن قراءتها تشكل متعة، أما عن تجربته الكتابية، فيعتقد أن الأشياء التي تبعد المرء عن الكتابة تشكل بحد ذاتها المادة الكتابية، سواء أكان المرء يقوم برعاية جدة مريضة أو طفل يعاني من التوحد، مستشهداً بالقول التالي: »الحياة تكمن فيما يحصل عندما تكون مشغولاً في وضع خطط أخرى«، مؤكداً أن الحياة لا تنتهي في ذروة الأحداث، بل تمضي في تفاصيل الحياة الصغيرة بتفاهتها، وهذا برأيه يعد أمراً جيداً، لأن تلك التفاصيل هي منجم الكتابة. الساعات العظيمة ميتشيل بارع في السرد وفي رسم شخصياته، حتى قيل إن القارئ بإمكانه حتى متابعة شجرة العائلة لبعض تلك الشخصيات في كتبه. والروائي الذي أدرجت اثنتان من رواياته ضمن اللائحة القصيرة لجائزة »مان بوكر«، تحدث أخيراً إلى صحيفة »غارديان« البريطانية عن كتابه الأخير »الساعات العظمية«، وهي الرواية التي رشحت ضمن القائمة الطويلة لجائزة »مان بوكر« عام 2014. تعرض الرواية التي تتناول فكرة الحياة والموت ست قصص متشابكة من أزمنة متعددة يمتزج فيها الحقيقي بالخيالي، وتتضمن حروباً بين خالدين أشرار يحققون خلودهم بقتل أطفال يمتازون بقدرات نفسية خارقة، وطيبين يتقمصون الأرواح. والسعي إلى الخلود هو باعث على الشر بالنسبة لميتشيل. يعلق على ذلك بالقول: »أردت نوعاً من عقد مع الشيطان يمكنه أن يدفع أفراداً حساسين يتأملون في الفكرة قبل رفضها. وأعتقد أن معظمنا يفكر ملياً في فكرة إعادة كتابة شروط الوجود، عندما يصبح الشباب شيئاً من الماضي. وأنت تنظر في المرآة وترى صورة أبيك أمامك«. حبكة الروايات ميتشيل الذي يبلغ من العمر 45 عاماً يسفه هذه الفكرة قائلاً: »أطلقت عليها أزمة منتصف العمر« وربما ليس صدفة، فروايته تتناول أيضاً مرضى الزهايمر، وحرب العراق والاحتلال، والاحتباس الحراري وانهيار حضارة التكنولوجيا. دفعته رغبته في الكتابة عن الأمور غير العادية لتأليف قصة قصيرة عن تويتر بعنوان »النوع المناسب« يجري سردها من قبل فتى يتعثر بحبوب الفاليوم التي تتناولها أمه.. مما يدخل تصوراته وإدراكه الحسي في نبضات بطول تغريدة، وهذا العمل قد يدرج ضمن أعمال بعض الكتاب الفرنسيين الذي يفرضون قيوداً غريبة على التصرفات في كتاباتهم. لكن ميتشيل يرفض وصفه بروائي تجريبي، مصراً على براعته في حبك الروايات. وهو يعتبر نفسه مؤلف روايات كبيرة مصنوعة من روايات قصيرة، كما في روايته الأولى »مؤلفات تحت اسم مستعار«، الصادرة عام 1999 التي تتضمن سرداً للرواية على لسان شخصيات مختلفة من محام في هونغ كونغ وعازف موسيقي في لندن وكاتب تحت اسم مستعار، أو روايته »سحابة أطلس« الصادرة عام 2004، والتي تمتد من جنوب المحيط الهادي في القرن التاسع عشر إلى مستقبل ما بعد القيامة. إشباع متأخر في روايته الأخيرة »الساعات العظمية«، كما درجت العادة، شخصيات من قصص سابقة، أو مواقع تعود بنا إلى رواياته السابقة، فهو يكتب سلسلة من القصص الموصولة المتشابكة للوصول إلى »المثال الأسمى للرواية«، ومن التحولات الدرامية المفاجئة في الكتاب، يكمن التفسير المتأخر لمعنى عنوانه حتى صفحة 501. يقول ميتشيل إنها تمرين في »الإشباع المتأخر«... وهو يعتبر الروايات ناجحة في ذلك تحديداً. يعلق قائلاً: »أليس غريباً أن ثقافتنا تصف نفسها بأنها مدمنة على الإشباع الفوري؟ لكن مع ذلك الناس يقرؤون روايات طويلة ويشاهدون التلفزيون وبرامجه، وعلى الرغم من كل الهرج والمرج، والقطع السريع وغير ذلك، فإن المسلسلات التلفزيونية تثق بالجمهور بما يكفي أيضاً لكي تكشف عن الأحداث تدريجياً«. وهذا بالنسبة له الجزء المفضل في الرواية. صفقة مع الشيطان حول الكتابة للتلفزيون، يرى في ذلك صفقة مع الشيطان، كالتي يعقدها الشياطين في روايته. ففي مجال الرواية، يقول: »أدرك كيف تسير عملية الإنتاج مع هذا الشكل الذي أصبح له 300 سنة. وقد وضعت مخططاً لكتبي الخمسة المقبلة، وهذه ستستغرق مني عملاً حتى أبلغ الستين من العمر«. يصف تجربته في تصوير روايته »سحابة أطلس« فيلماً، فيقول إن الناس في هوليوود لديهم أسلوبهم لضمان أموالهم، ويقلد صوت وكيل في هوليوود يتحدث على الهاتف، فيقول: »أصبعنا على الزناد، لكن هل أنت متأكد من أنك تريد منا أن نضغط عليه. الأمر سيكلفك ست خانات من الأموال المهدورة«، ويرى أن لكل قبيلة لغتها السرية الخاصة.. وهذا يصح أيضاً على قبيلة شبه الخالدين في »الساعات العظمية«. ويستمتع ميتشيل في تصنيفها ضمن مصطلحات، فهناك صناع الساعات، وقارئي الأفكار، وغيرهم من النسخ الافتراضية عن الحياة الحقيقية في رواياته. وإيمانه بقوة اللغة في نقل الأفكار، دفعه وزوجته اليابانية إلى ترجمة مذكرات فتى ياباني يبلغ من العمر 13 عاماً مصاب بالتوحد السنة الماضية، وصدف وجود النص لديه لأن ميتشيل وزوجته لديهما طفل مُصاب بالتوحد أيضاً. يقول: »ليست أسطورة أن الأشخاص المصابين بالتوحد لديهم تجربة ثرية تتجاوز إمكانياتهم في نقلها وإيصاله، والفتى هيغاشيدا برهن عن ذلك بكتابة هذا النص والإشارة إلى شخصيات كانجي اليابانية واحداً تلو الآخر«. وهو يعتبره: »الكتاب الأكثر أهمية من كل كتبه لناحية فائدته«. »الساعات العظمية« يقظة ضمير وقصص مُتشابكة من أزمنة مُتعددة يعتبر كتاب »الساعات العظمية« الرواية السادسة للأديب الإنجليزي ديفيد ميتشيل، ويجدها بعض النقاد من أفضل رواياته، وهي تتناول فكرة الحياة والموت من خلال ست قصص متشابكة من أزمنة متعددة تمزج ما بين الحقيقي والخيالي. فهناك مراهقة تدعى هولي تهرب من منزل عائلتها، بعد شجار مع والدتها في ثمانينيات القرن الماضي.. وتلميذ جامعي في أوكسفورد معتل اجتماعياً في أوائل التسعينيات، ومراسل حربي من العراق، وقطعة ساخرة عن كاتب وعدوه الناقد، وقصة خيالية عن عالم مستقبلي تتراجع فيه الحضارة إلى عصور »ظلامية« وغيرها، وتخترق كل تلك القصص معارك خارقة فوق الطبيعة، عبارة عن معركة بين الخير والشر. والرجال الطيبون هم مجموعة من الأشخاص يتقمصون روحياً بعد 49 يوماً من وفاتهم، مع معرفة كاملة بحياتهم السابقة. أما الأشرار فهؤلاء يحققون نوعاً من شبه - الخلود من خلال قتل أطفال بقدرات نفسية خارقة. ويبقى في هذه القصة الضمير الإنساني محفزاً على عمل الخير، حيث يعمل رجل حر على إنقاذ قن، وغيرها من المواقف الإنسانية. عوالم مُختلفة تدور أحداث الرواية في عوالم مختلفة، وسردها يمتد على امتداد 60 عاماً، لكن الفترة الزمنية تصل إلى عام 2043. وفي الرواية شخصيات ممتدة عبر الزمان والمكان، يجري بناؤها عبر صفحات الكتاب، وجميعها يرتبط بأفكار طموحة. وتقوم ست شخصيات بسرد تفاصيل القصص الست.. حيث تبرز شخصية هولي في كل القصص يتردد صدى حياتها في عوالم مختلفة، مما يشكل عالماً غرائبياً مترابطاً. فهولي ليست إنسانة عادية، وفي تجوالها في الريف الإنجليزي فإن رؤى وأحداثاً تعيد تنظيم واقعها، حيث يجتذب وجودها انتباه مجموعة من المتصوفين الخطيرين وأعدائهم، بينما يسبب غيابها في العالم الحقيقي ندوباً لدى عائلتها لا تلتئم. وكل هذا يدخل شخصيات الكتاب المختلفة في حرب غير مرئية على حافة العالم الحقيقي. من جبال الألب السويسرية في القرون الوسطى إلى أدغال أستراليا في القرن التاسع عشر، ومن فندق في شانغهاي إلى منزل في مانهاتن في المستقبل، تلك القصص تجتمع لتوجد عالم سحري. معركة ملحمية وتستقي الرواية من قصص الحكايات الخرافية، فالصفقات التي تعقد مع الغرباء »تشكل معركة ملحمية بين الخير والشر«، والسعي إلى الخلود يبعث على الشر. ولها خاتمتان. أولاً هناك معركة خارقة بين الجبابرة، ثم هناك في الخاتمة قصة قصيرة كئيبة عبارة عن مرثاة، يقصد بها إظهار قدرة القصة على التوفيق بين »الجانب الفني« لذروة الحبكة و»الجانب الإنساني« في إظهار استمرار الوجود الرتيب العادي. وبما أن ميتشيل يعتقد أنه يكتب سلسلة من القصص الموصولة المتشابكة يطلق عليها »المثال الأسمى للرواية«، كان من الطبيعي أن تعرض روايته الأخيرة شخصيات أو مواقع موجودة في رواياته السابقة. وفيما يرى البعض أن الرواية ممتعة جداً للقراءة، يرى آخرون أنها تفتقر إلى التماسك علاوة على وقوعها أحياناً في السطحية والعاطفية المفرطة، كما أن اعتماد أسلوب المخاطب في رواية طويلة كتلك لا يصب في خدمة الكاتب.