إن طريقة التفكير لدى السياسي تفسر طبيعة الدولة سواء تلك التي ترمي الى إخضاعها وتطويقها لتدخل في قالب المرحلة الحالية، كما تدفع الى الخروج من كون الدولة مجرد بنية فوقية وانتهى الامر، بل إن البنية التحتية بشقيها الظاهرية والتناسبية والتي تراعي الأولويات، وتدفع الى حل المشاكل المعاصرة والمتراكمة بنهج سياسة عملية وواقعية كالتي يؤشر عليها بإنجازات ملكية ، وهي بمثابة سياسة مباشرة تحافظ على خدمات الدولة وتندمج فيها الاخلاق بالسياسة وتحافظ على استقرار السلطة في إطار تحديث عقل الدولة وإصلاح الحقل السياسي وفق التحولات التي يشهدها المجتمع المغربي في هذه الفترة المحاطة بالهواجس والأنساق المرجعية التي تؤطرها والأساس النقدي المرافق لها، وهو ما يضفي انطباعا خاصا لماهية الدولة المغربية المعاصرة. وتفرض هذه المرحلة الدقيقة والانتقالية تجديد الدراسة لمكونات المجتمع المغربي وللقوانين والاعراف، إدارة وجماعات وأحزاب وزوايا وجمعيات وقضاء ...الخ، لأن الملاحظ هو ضعف الأبحاث الميدانية، وهناك بعض الأفكار والمقاربات شائخة في الوقت الذي يفرض مواجهة الظواهر بالمعرفة والفهم والضبط والتحكم والتنبؤ والاحتياط كشروط لعلم التنمية، والعمل بالقرارات التشاركية بين كل مكونات الدولة، وبالتالي تحقيق الأمن التنموي. مفهوم الأمن التنموي إن مفهوم الأمن التنموي - بمعنى الادخار كنتيجة لحسن إدارة الدولة والمجتمع - هو تدبير الديمقراطية التنموية عموديا وأفقيا، وهو ما يتطلب ضبط عدة مفاهيم وتقابلها ومقارعتها مثل مفهوم الحكامة ومفهوم الوطن والمواطنة ومفهوم التشارك ومفهوم الهوية ومفهوم التدبير الجيد، وعلاقة ذلك بمفهوم المال العام ومفهوم العدالة الضريبية ومفهوم السلم الاجتماعي ... وتقييم مفهوم الحرية والفعل السياسي الحزبي ضمن كل هذا. ذلك أن رعاية المصالح العامة والشؤون العامة والحريات والممتلكات وإيجاد الحلول لمختلف القضايا المطروحة بشكل مباشر تماشيا مع التحولات المطروحة والتغيرات التي يشهدها المجتمع المغربي على كافة الاصعدة، من شأنه تقوية التعبير عن الفلسفة العامة للدولة وتحرير صورة المغرب وتقوية مكانته ضمن الدول الصاعدة، وإعمال التفاوض والتداول والنقاش المستفيض للقضايا وهموم المواطنين وطنيا ومحليا، وتوضيح مواقف الفاعلين بكل شجاعة وتلقائية ووطنية تجاه الثروة والرأسمال غير المادي بمختلف تجلياته ، والتأسيس للأمن التنموي المعاصر بكل تفريعاته كالأمن الفكري والأمن الغذائي والأمن الاقتصادي والأمن المالي والأمن الاجتماعي، والأمن الروحي والأمن البيئي والأمن التربوي والأمن السياسي والأمن الاستراتيجي وأمن مسار الدولة ...الخ، كل هذا يؤشر على وجود فكر ضامن ووقائي لهذه المجالات التي لاتزال تعرف بعض المتاعب والمشاكل التي تتطلب إيجاد الحلول لأنها منافية للأمن التنموي، بل وتمس بالعمق المواطناتي والادخار المستقبلي لعدة قطاعات وهو ما يقود إلى مراجعة مفهوم الحرية ومفهوم الفعل السياسي. انزلاق مفهوم الحرية شكل مفهوم الحرية دائما أحد أعمدة تطور الأفكار السياسية وقد تطور على المستوى النظري والممارسة، ويجد عمقه في التراث السياسي الإسلامي والمعاصر، لكن مداه ومعناه وحدوده عمليا يعرف سوء الإعمال وبذلك يتم الإضرار بالغير. فنجد الدساتير المغربية تحصنه من كل تطاول، بحيث جاء في مشروع دستور 1908 في المادة 13، أنه يحق لكل فرد أن يتمتع بحريته الشخصية بشرط ألا يضر بغيره ولا يمس حرية غيره. وفي المادة 14، إن الحرية الشخصية تقوم بأن يعمل كل واحد ما يشاء ويتكلم ما يشاء، ويكتب ما يشاء مع مراعاة الآداب العمومية. وفي دستور 2011 نجد الباب الثاني كله مخصصا للحريات والحقوق الأساسية من الفصل 19 الى الفصل 40 ، وهو ما يعكس اتساع رقعة الحرية حتى سمي هذا الدستور بصك الحقوق أو دستور الحقوق والحريات الفرعي. فنجد حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها في الفصل 25 وحريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر ..مضمونة حسب الفصل 29. فالحرية قوامها القدرة على عمل كل شيء لا يضر بالآخرين، وهكذا لا تحد ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان إلا الحقوق التي تؤمن للأفراد الآخرين في المجتمع التمتع بنفس هذه الحقوق، وهذه الحدود لا يجوز أن تحدد إلا بقانون، كما أن الحرية تقوم على التقيد الارادي بالنظام المقرر بالقانون والارادة التقريرية وسلطة فعل وتأثير على الاشياء والأحياء .. ولهذا تبقى الحرية قريبة من المسؤولية القائمة على التوازن بين المخاطر والمكاسب، وهذا يتأتى من السيطرة على الذات والتفضيل بالعقل للتحكم في الحرية من جهة، والتوازن بين العقل والدين من جهة أخرى. ولكون كل فرد مسؤول في القطاع العام أو الخاص يتمتع بقدر من الحرية، في ارتباط بعمله زيادة على الحرية الطبيعية التي لا تفارقه مما يجعل الكثير لا يكترث بمضامين المسؤولية، ويعتبر نفسه غير ملزم بالحفاظ على المسؤولية بطريقة مباشرة بعلة أن الاصل في الأشياء الإباحة، والاصل في الاتهام البراءة بالإضافة الى صعوبة الإثبات في كثير من القضايا بسبب الالتزام بالمساطر دون اعتماد العلم والادراك ، وأيضا اتساع هامش الحقوق وتضييق هامش المسؤولية والمراقبة التي تحد من الغلو في التعاطي لمفهوم الحرية ...كل هذا الانزلاق يضعف الأمن التنموي لكون أية شخصية مسؤولة تجد نفسها في مأمن مضاد للاتهام أو المحاسبة إلا إذا تم تفعيل المساطر والوسائل القانونية وبإرادة قوية أحيانا، فيتم ردع التهور وإعمال المحاسبة وهو الاتجاه الذي يسير عليه المغرب اليوم لكن ليس بصورة كافية. والشق الثاني من الانزلاق الذي يعرفه مفهوم الحرية يتمثل في خروج التعبير عن الاحتواء الرسمي، وهذا مرتبط باتساع دائرة المعارف والاتصال وتمتع الافراد بهامش كبير من السيطرة والتحكم في حياتهم ومعتقداتهم، ويؤدي بهم الأمر الى اعتناق افكار متزمتة ومتطرفة وهو ما يتناسب مع البيئة الثقافية المنحلة والمهددة بفقدان الأمن والسلم في مقابل ظهور تنظيمات معادية لمفهوم الحرية الذي ناضلت من أجله الشعوب ومحدد دوليا وفق معايير دقيقة. ضعف الفعل السياسي يبدو ضعف الفعل السياسي لاسيما على مستوى المؤسسات المنتخبة وكأن الحياة المشتركة والمرتبطة بدور هذه المؤسسات غير مكترثة بالمسؤوليات، لكون محاسبة السياسي مرتبطة بصناديق الاقتراع فقط، وهذه قناعة لدى كل الذين يتعاطون للشأن الانتخابي ومتحزبين وهي بهذا المعنى مدخل من أجل الافساد بدل الاصلاح بحكم أن الحقوق السياسية تعانق الحرية أكثر من المحاسبة، وفي هذا نوع من الهروب الفلسفي من الامتثال للواقع والتعايش معه وفق الضوابط القانونية والمطالب الاجتماعية المحلية، ذلك أن كثرة التفسيرات لقانون الجماعات والصراع بين مختلف الاشخاص باسم السياسة داخل المجالس، أضعف عطاء هذه المجالس وكرس الغنة السياسية التي تعكس النزوات، وتصادر المطالب التنموية والقانون معا، بل تفتح المجال للنيل من حقوق الافراد أحيانا ويتم الاعتداء على حقوق البعض كمصادرة الكثير من عقارات الافراد والترخيص بالبناء فيها دون قانون، وأيضا الاحتلال والاعتداء على أملاك الدولة الخاصة ( الاملاك المخزنية )، والأملاك الغابوية والمقالع والرمال...الخ، حيث بعض الجماعات لا تعترف بأملاك الدولة ولا تحترم القانون فترخص وتمكن الراغبين في الاعتداء على هذه الاملاك المخزنية مثلا وبناء مساكن من الترخيص بإدخال الماء والكهرباء، وغالبا يكون هؤلاء من أسر المسؤولين المنتخبين والمقربين وانعدام المراقبة يزيد في التسيب، وتخضع الانتخابات في الجماعات القروية عموما وذات المراكز المحددة على وجه الخصوص لهذه التجاذبات، وتداول الاستفادة بالمثل من هذه الامتيازات . ويكرس هذا الوضع تذمرا لدى كثير من المواطنين من أصل وغاية ووجود القانون، وهذه المظاهر بالإضافة الى التواطؤات التي تحدث داخل المجالس على الحساب الاداري وتؤدي الى رفضه في عدة دورات ولسنوات، ومعها رفض التجهيزات المرتبطة بالشق الثاني من الميزانية وبرمجة الفائض، فتبقى الساكنة منسية من الانشطة التنموية دون الأخذ بعين الاعتبار للحس الاخلاقي وللمسؤولية في مقابل رضى مرضى السياسة ، وانتقال الصراعات الى مقر العمالات وطلب احتكام عمال الاقاليم الذين يجدون القانون مكبلا لصلاحياتهم، حيث يكتفون بالبحث في إمكانية المصالحة التي تضيع بين دروب النخب السياسية المتعنتة وغير الواعية، وتضيع المصلحة العامة من ساكنة محلية أدت واجبها الانتخابي الذي يحول حلمها الى عقاب إلا ما يتعلق ببعض مشاريع كمشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي يمثل عامل الاقليم رئيس لجنتها الاقليمية ، مما يشوه أحيانا الفعل السياسي ويضعفه محليا، ويقوي العزوف السياسي لدى شرائح واسعة، ويفتح المجال أمام السخط المتنوع بسبب اليأس وتحول النظام القانوني الجماعي الى معول هدم وسوط عقاب للناخبين المنتمين للجماعة المحلية، حيث يتسبب الوضع والملل في هجرة الكثير نحو المدن وتخلف حالة بعض الجماعات يفقد الثقة في الانتخابات والسياسيين المحليين الذين هم نفس الوجوه التي لا تتغير ولا تقدم البديل، فتأصل الصراع في بعض الجماعات وولد متتبعين ومستفيدين ويائسين لتضيع بين كل هذا مصلحة البلاد التي نظر لها المفكرون السياسيون والاقتصاديون. وعموما تبقى هموم المواطنين والمترجمة بالمخططات التنموية الجماعية كجزء لا يتجزأ من المخطط التنموي الوطني أساس الأمن التنموي، وكل إهمال أو تخطي أو تهور أو تآمر أو تعطيل أو تعصب أو تخلِ، أو تعنت أو تجاوز مساس بالروح الوطنية والتنمية كحق أمني بامتياز وأساسي لكل استمرار واطمئنان على حياة الأفراد والجماعات مختص في الأمن الاستراتيجي