منذ صدور مجموعته»حياة صغيرة « عن دار»توبقال « بالدار البيضاء في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، والتي سبقتها مجموعات أخرى كانت بمثابة التهيئة والإعداد لها، تمكن المغربي حسن نجمي من أن يفرض نفسه كشاعر متميز في مجال قصيدة النثر لا على المستوى المغاربي فحسب، وإنما على المستوى العربي عامة. ولعل ذلك يعود إلى الخلفية الشعرية والفكرية التي جاء بها إلى هذا اللون أو النوع من الكتابة. فمنذ البداية اختار أن يتعمق في قراءة الشعر العربي القديم والحديث.كما اختار أن يطلع بعمق على كبريات التجارب الشعرية العالمية سواء كانت غربية أو غيرها. ولم تقتصر قراءاته على الشعر، بل تعدته لتشمل الفلسفة والرواية والنقد والتاريخ وعلم الإجتماع. بالإضافة إلى كلّ هذا، فتن حسن نجمي بالموسيقى الشعبية المغربية وعنها كتب دراسات بديعة.كما اهتم بألوان موسيقية أخرى فولكلورية وحديثة لتكون من ضمن مصادره الإبداعية. ثراءُ المصادر هذا جعل حسن نجمي يأتي إلى قصيدة النثر لا كلاجئ إليها خوفا من مضايقات التفعيلة أو تجنبا للسقوط في فخاخها الكثيرة أو إخفاء لسطحية وفقر معرفي، وجهل بالشعر في مفهومه العميق، وإنما لأنها تلبي رغباته المعرفية، والجمالية، وتفتح أفقا جديداً في الكتابة العربية، وتعطي معنى حقيقيا للحداثة الشعرية. وتأكيدا على ما ذكرت، أشار حسن نجمي في حوار أجري معه إلى أنه يكتب قصيدة النثر متطلعا إلى أن «يحقق فيها قدراً من الصفاء والهدوء والنبرة الخافتة». كما أنه يطمح، إن هو إستطاع، أن «يصل إلى درجة من التكثيف والتركيب شأنه شأن عددٍ من شعراء قصيدة النثر العربية الجدد الجيدين». ومثل العراقي سركون بولص الذي لا يخفي تأثره به، هو لا يكتب قصيدة النثر كردة فعل على قصيدة التفعيلة، وإنما لأنها» مجرد كتابة تسعى إِلى تحقيق شعريتها عبْر التخفف من أعباء العروض أو نظام التفعيلة. كما أنها-أي قصيدة النثر- «ليست نوعاً من التعارض الوزني بل هي تعبير شعري جمالي، مختلف تماماً، عن حالة عميقة من مواجهتنا الكاملة مع عصرنا». وبإمكاننا أن نتبين توهج قصيدة النثر، ونضجها، وطراوتها، وموسيقاها العذبة في مجمل القصائد الني حفَلَ بها ديوان حسن نجمي الأخير: أذى كالحبّ « الصادر عن دار»مرسم» بالرباط. وقد أهدى حسن نجمي ديوانه إلى الراحل الكبير محمود درويش قائلا: «يا للحياة التي مرّتْ بالقلب كوميض النصل فذبحته.وأكرر مع نفسي:لعلها مجرّدُ إغفاءة». وفي هذا الإهداء معنى ومغزى. فمعلوم أن محمود درويش انجذب في المرحلة الأٍخيرة من مسيرته الشعرية إلى قصيدة النثر، ولم يعد يتردد في التنويه بها، وبتجارب البعض من رموزها في المغرب والمشرق. وهذا ما يتبيّن لنا من خلال مجموعتيه»في حضرة الغياب»،و»أثر الفراشة». وقد كتبت قصائد ديوان»أذى كالحب» في مدينة الرباط، وفي أماكن أخرى بإيطاليا، والبرتغال، وفرنسا لتعكس لحظات من حياة الشاعر، مقيما، ومسافرا باحثا دائما عن موسيقى جديدة ،وعن أفق أوسع للكتابة وللتفكير، وعن مصادر أخرى تثري تجربته،وتغنيها،وتضفي عليها ما يتيح لها المزيد من التوغل في أعماق التجربة الشعرية. ونحن لا نعثر في مجمل هذه القصائد على صدى لأحداث كبيرة، سياسية أو إجتماعية، أو غيرها.كما أنها تتميز جميعها بنبرة خافتة، وبصفاء رائق،وهدوء يطمح إليه الشاعر في عالم أفسدته الحروب، والصراعات،وكثر فيه الصخب والعنف فما عدنا قادرين على سماع أصوات أصحاب الحكمة، ودعاة السلام والمحبة. وربما لهذا السبب خيّرَ حسن نجمي أن ينصرف عن العالم الخارجي ليكشف لنا عن خفايا ذاته لأنه لم «يعد يثق إلاّ في الكلمات». لذلك هو يمشي في الرباط مع الناس، لكنه يمشي وحده من دون أن «يعرف ماذا سيفعل بخطواته» . وفي الرباط، «الهواء فاسد «، وهو»يختنق كل ليلة حتى أنه صار يخجل من عطاسه». وفي هذا الجو الفاسد المتعفن هو يتمنى لو أنه كان»صخرة تتنفس هواء آخر، يأتي بها نيْزَك ناعم من قمر بعيد». وفي وحدته، ينصت إلى عالم المدينة الخارجي، ويتشمم روائحه .لكن عوض الخروج إليه، هو يزداد توغلا في ذاته ليستحضر ذكرى أمه وهي جالسة تبيع الخبز. ثم لا يلبث رأسه أن يتحول إلى «سوق قروية تضجّ». وها هو يسمع صوت أبيه «فتصعد من رأسه أدخنة الشواء»، و»تنثال عليه أصوات الجزارين». وفي يوم أحد صامت، هو يتذكر بناته الثلاث ،وفي الوشائج التي تربطهن به. لكن فجأة يتذكر ريتسوس وقصيدته(Graganda) التي يتحدث فيها عن البنات الثلاث لصانع التوابيت»وكنّ يجلسن على حافة النافذة وهنّ يكْسرن الجوز-واحدة بحجر في يدها،واحدة بأسنانها،وواحدة بيد مهراس». وقد يكن بنات صانع التوابيت بنات حسن نجمي «إلاّ أنه صانع حياة». وعندما يزور بيت الشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس في مائويته، يكتب حسن نجمي قائلا: «هنا في هذا البيت المصبوغ بالأحمر-كان ينظر طوال الوقت إلى حصان أبيض. إلى الحبر أسود. إلى العتمة حالكة. إلى صحوة الأصفر في النهار. إلى البساتين خضراء. إلى الندم نفسه. إلى بعض من ذرة وبعض من عنب. إلى حمار وإلى سماء عالية فارغة هناك. إلى المعاجم صامتة على غبار الرفّ. وفي كازا دي ماتيوسْ، شمال مدينة بورتو البرتغالية، ينشغل حسن نجمي مع أصدقائه بترجمة قصائد من البرتغالية إلى العربية، ومن العربية إلى البرتغالية مسجلا خواطره بدقة وعناية فالنهر الذي يتدفق من أعلى الجبل ليمر بالقرب من غرفة نومه كان يحثه على «فكّ أبجدية خريره»،ويبعد النوم عن جفنيه «فيفكر في القصيدة وهي تعبر الأفق من لغة إلى لغة». وطوال الليل، ّيبيت طامعا في فهم أسرار الماء».وفي روما، يعذبه حب قديم فيكتب حسن نجمي قائلا : «أحلم بك وبروما. بيديك توسعان فراغ الغرفة. بأصابعي صاعدة إلى صدرك المغسول بالياسمين». وعندما يبلغ سن الخمسين، يشعر حسن نجمي بأنه «يدفع نفسَه كما لو في ممرّ سباق»،ويشعر بأن «الحياة لا تريد أن تحيا»،وأن «الموت دائما لا يريد أن يموت»كما في قصيدة الروسية مارينا تسفيتاييفا التي انتحرت يأسا وقنوطا بعد أن أحست بأن الشعر لا يمكن أن ينقذها من عذاب يبدو وكأنه مصير لا مفر منه. وهكذا، بنبرة خافتة، وذات يحب أن تكون متشظية بين الأمكنة والأزمنة بحثا عن التوازن في عالم مجنون ، فاقد للبوصلة، ومسكون بالفواجع، يغوص بنا حسن نجمي في عالمه الخاص لينقل لنا تضاريسه ونبضاته متجنبا الحنين والندم والبكاء ،مقتنعا بأن الحياة التي يعيشها لا بد أن تكون كما كتب لها أن تكون.