تتقاضى أرامل متقاعدين من الوظيفة العمومية أجورا جد هزيلة، تصل أحيانا إلى أقل من 100 درهم للشهر، مما يطرح أكثر من علامة استفهام حول مدى احترام الحد الأدنى للأجور، واحترام مقتضيات مدونة الشغل، ورغم الدعاية التي روجتها الحكومة مؤخرا حول الزيادة في أجور المتقاعدين فإنها لا تهم سوى النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد، وهو أصغر نظام من حيث العدد، حيث لا يتعدى عدد منخرطيه 75 ألف منخرط، إلا أن أكثر من مليوني متقاعد لم يستفيدوا من هذه الزيادة، إضافة الى أن أغلب أرامل المتقاعدين اضطررن الى الخروج بحثا عن عمل ليعززن به متطلبات الحياة، فهن لجأن الى الاشتغال بالبيوت وفي المصانع وفي المقاهي وأخريات لجأن الى السوق يتوقفن أمام «فراشات» يبعن بعض المنتوجات و الألبسة أو العجائن، في حين أصبح مصير أخريات التسول... بسبب هزالة الأجرة وكثرة الالتزامات المالية، وغلاء المعيشة تعاني عدة أرامل من قهر الزمان، فأغلبهن كن في راحة تامة الى أن توفي الزوج، وبدأت المعاناة من الشهر الأول، حيث يتم اقتطاع الأجرة، لتظل طيلة العدة بدون أجر وبعدها أحيانا بعدة أشهر، ومن الناحية المنطقية لا يمكن أن تبقى مثل هذه الممارسات، حيث لا يعقل أن يكون المعيل تحت التراب، والاسرة بدون أجرة، فمن يا ترى سيتكفل بها؟ فلولا التضامن العائلي لدى بعض الاسر لأصبح مصير كل عائلة يتوفى معيلها هو التشرد ... أزمات ومآس ترويها بعض الارامل ممن التقينا بهن بل يتكرر حكيها، كلما صادفنا بعضا منهن في الأماكن العمومية، فهن يرغبن في إشراك الجميع معاناتهن، معتبرات أنها «حكرة « حين تتقاضى أرملة أجرة أقل بكثير من فاتورة الماء أو الكهرباء... لولا ايماني بالله لفضلت الانتحار... هكذا عبرت أرملة جندي متقاعد من طاطا :»توفي زوجي تاركا لي 7 أطفال كلما كبر أحدهم أو انقطع عن الدراسة إلا وتم نقصان الراتب الذي تحول من 1500درهم الى 400 درهم، أحد أبنائي يعاني مرضا مزمنا تجاوز الخامسة والعشرين، ولا يستفيد من التغطية الصحية، وإخوته الآخرون عاطلون عن العمل، فمنطقتنا جد نائية ومنسية بحيث لا يمكنني أن أجد أنشطة أعزز بها مدخولي، فأنا أعيش على دوامة بداية الشهر ونهاية الشهر حيث يداومني الإحساس بالقلق كل يوم، كيف سأنهي هذا الشهر؟ وماذا ينتظرني فيه؟ لولا ثقافة «المصارفة» التي اعتدناها مع دكان المواد الغذائية المجاور لنا لكان مصيرنا الجوع. تؤلمني جملة طالما يرددها أبنائي كلما طالبوني ببعض المشتريات «»لا تقولي لنا حتى يجيب الله، علاش ولدتونا أصلا إن لم توفروا لنا المتطلبات الضرورية». أتجرع دموعي وأملي في فرج الله أما العباد فإننا سئمنا انتظارهم، ...» تركت لهم راتبهم لأن تكاليفه أكثر منه... بسبب تكاليف الملف السنوي الذي تطالب به إدارة المالية ، الأرملة فاطنة من ضواحي إقليمخنيفرة قررت التخلي عن أجرة لا تتعدى 200 درهم، لا لأنها استغنت عنها وانما حسب تعبيرها، للتخلص من البيروقراطية، فالوقت يمر بسرعة... السنوات أصبحت تشبه الشهور وأنا مطالبة بأن أدفع كل سنة «عرام ديال الأوراق على جوج فرنكات» أصبحت تسكنني عقدة الوثائق الإدارية، أنا اقتربت من السبعين وهم مازالوا يطالبونني بوثيقة عدم الزواج «تزوجو الصغارات ما بقى غير حنا، لحماق هذا شكون بغى يدي شارفة ومزلوطة؟ لا حول لله». بعد سنوات من المعاناة ومللي من الانتظار قررت التخلي عن تلك الأجرة لأن أتعابها أقوى من قيمتها، فأنا الآن أعيش عالة على أختي، وزوجها، بعد هجرة أبنائي الثلاثة الى الضفة الأخرى بحثا عن عمل، حينما يئسوا من تحقيق ذلك ببلدهم الأصلي .وللأسف صادفتهم الأزمة بالغربة، ولم يعثروا على شغل قار، أما أنا فقررت العيش مع اختي، فلم نر حلا أمامنا سوى أن نبيع البيت لتهجيرهم، حيث اشتريت عقد عمل لكل واحد منهم، على أمل أن يشتغلون بالمهجر، ونشتري بيت آخر بعد ذلك، لكن سيتأخر هذا بسبب الأزمة، وسأستمر في الجلوس ببيت أختي الى حين تحقيق المراد، فأنا لا بحث سوى عن راحتهم ورؤيتهم في أحسن حال. لقد عانينا جميعا بعد وفاة أبيهم وما زلنا نعاني تبعية تلك الأجرة الهزيلة التي ورثناها، ولست أنا وحدي من تعاني ،بل جميع الارامل، اننا لا نتقاضى سوى الفتات ،هناك سيدة كانت تقطع 30كلم من أجل 70 درهما كل شهر، كنا نلتقي أمام وزارة المالية قبل تحويل أجرتنا للبريد ونشكي هموم بعضنا، لأنه لا يحس بها سوانا، فكل واحدة منا تعلم مأساة الاخريات، لدرجة أننا نعرف طبائع أبناء كل واحدة منا وأسماءهم بالرغم أننا لم نرهم، فنحن نحس قساوة ظروفهم لأن الهم واحد...» عيد الأضحى يجعلنا نعيش مأتما ثانيا... لم تتوقع «ربيعة» غدر الزمان، كما لم تتوقع خذلان الاحباب، إلا حين فقدان زوجها، تتحدث إلينا بأسف شديد معبرة عن واقعها المرير بعد فقدان زوجها: «مادرناش بحساب هاد الوقت، لكن كيف لنا أن نرشد نفقاتنا وكنا نعيش على دوامة كراء البيت وفواتير الماء والكهرباء ناهيك عن حاجيات الأطفال، فزوجي لم يكن يتقاضى سوى 3500 درهم ومسؤول عني وبناتي الأربع ولا بد له من مساعدة والديه فهو أغنى إخوته، ولم نستطيع التغلب على مصاريف الشهر بتلك الأجرة فما بالك بأقل من ثلثها. منحوني تقاعدا لا يزيد عن 900 درهم ونحن نسكن بيتا متواضعا يصل كراؤه الى 1200 درهم «ساروت» . أصبت بالحيرة في البداية لأنه لم يسبق لي أن تكلفت بالمصروف فهي مهمة كان يتكلف بها زوجي، له خبرة في تدبير أمره في تسيير مالية البيت، لم أقدر على التعايش مع الوضع في البداية، ولم يكن من أسلحتي سوى دموعي وبناتي من حولي يشاركونني البكاء، أنا عرفت اليتم مرتين يوم فقدت فيه أمي وأبي، ويوم فقدت زوجي، فأنا عشت يتيمة وسط إخوتي غير الاشقاء وكل منهم يعيش حياته الآن بكل أنانية ولا يهتم بحال الآخر ورغم أنهم ميسورون لم أجد من المتضامنين سوى رفاق زوجي في العمل، فترة وفاته ، بعدها خرجت للعمل وأنا أرتدي «الأبيض». أستيقظ في الفجر لأعمل بالبيوت وفي الوقت نفسه أتنقل بين المصالح لتحضير الوثائق المطلوبة ، دام انقطاع أجرتنا الشهرية سنة تقريبا، بناتي لم يتقبلن الوضع أكبرهن قررت مقاطعة الدراسة لمساعدتي لم تجد سوى عمل بمحل تجاري تتقاضى فيه 1000 درهم، وتتنقل إليه عبر الحافلة، أما أنا فجلست عن العمل بسبب وعكة صحية ألمت بظهري بسبب حمل الاثقال من المفروشات، والتي كلفتني من جيبي وصحتي حيث لا يمكنني التحرك دون أدوية وصدرية طبية ، تعلمت صنع «لعقاد» حيث يحتاجهم الخياط التقليدي، يأخذهم مني بدرهمين للواحدة، أحيانا يوفران لي ما بين 400 درهم الى 500 في الشهر، فهذه هي المهمة الوحيدة التي يمكنني أن أزاولها وأنا جالسة، حيث أجد صعوبة في الاشتغال واقفة، مداخيلنا كلها محصورة بين الالتزامات الضرورية، ونحن نتعايش مع سقفها، لكنني أتألم كثيرا حين أعجز عن تحقيق رغبة بناتي في التمتع بالصيف مثلا، فحتى العيد ودعناه بموت والدهم، فكلما اقترب عيد الأضحى وحاولنا تدبير مصروفه إلا وصادفتنا ظروف أخرى وتخلينا عنه ، بسبب الأولويات ، فهو يبقى ثانويا خاصة وأنه مؤخرا أصبح يتزامن مع الموسم الدراسي، ورغم تفهم بناتي للوضع ،إلا أنهن يتأزمن مع حلول كل عيد، خاصة حين يسمعن صوت أضحية الجيران ورؤية دخان اللحوم يوم العيد فهن حرمن من تلك الطقوس مع فقدان والدهن، وفي كل سنة لا أجد سوى وعدهن بشراء الأضحية السنة المقبلة، أسأل الله أن يعوضهن خيرا في المستقبل فراتب التقاعد يستحيل أن يعيش به فرد واحد فما بالك بأسرة...» أصبح ملف المتقاعدين وذوي حقوقهم ورقة سياسية يتزايد بها الجميع، فهم كانوا وظلوا صلب اهتمام الأحزاب والنقابات والحكومات، الا أنه لحدود الساعة لم تتحسن أوضاعهم، حتى صندوق التكافل الاجتماعي الذي بشرت به الارامل لم تظهر نتائجه، في حين تبقى مسألة الزيادة محتشمة مقارنة مع التهليل الذي صاحبها والزمن الذي كلف الحوار الاجتماعي لأجلها، إذ تصح عليهم المقولة الشعبية بأن «»الجنازة كبيرة والميت فار»... فأغلب المتقاعدين، بعدما قدموه من تضحيات في سبيل الدفع بعجلة التطور والتنمية الاقتصادية، وجدو أ نفسهم في خريف العمر مهمشين ومقصيين يعانون من قساوة العزلة النفسية، وحدة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية خصوصا منها الصحية، حيث جاء هذا الخلل نتاج سوء تدبير إدارة صناديق التقاعد من خلال الاستثمارات الفاشلة التي لا تأتي بالنفع على المتقاعدين، بل كان مصير الصناديق الإفلاس، فالمتقاعدون الذين يمثلون 10 في المائة من مجموع سكان البلاد ويقدرون بنحو 3 ملايين متقاعد، يتقاضون معاشات جد هزيلة، ويبقى لذوي الحقوق أجور أهزل منها...فمنظومة التقاعد بالمغرب، تعرف اختلالات كبرى تحتاج الى معالجة حقيقية تضمن الاستقرار المالي للمتقاعدين وأسرهم ،تفعيلا لمبادئ المساواة وحقوق الإنسان وتجسيدا لبنود الدستور في العيش الكريم، وضمان معاش محترم يمكنهم من مسايرة الغلاء المعيشي، ويضمن الكرامة الإنسانية لأسرة معيل وضع طاقته البدنية والفكرية رهن إشارة شغله ، وكان مصيره الإهمال ،فالعاملون ليسوا كالبطاريات بانتهاء صلاحيتهم يتم رميهم، وحتى لا تتدمر مثل هذه الاسر لابد من إيجاد استراتيجية عملية موضوعية تحترم الحد الأدنى للدخل تماشيا مع القوانين والمواثيق التي أبرمتها الحكومة مع المنظمات الدولية للشغل...