يحضر الشباب في السينما كما في الحياة، فالأفلام تنقل مختلف الفعاليات التي تصدر عنهم، العادي منها والمختلف، وفي ذلك النقل نوع من الانتقال بالمتفرج إلى لحظات وجودية توحي بالنوستالجيا أو النقد أو التماهي أو التأمل أو ما دون ذلك، وفقا لزاوية النظر أو المرحلة العمرية التي يتلقى فيها الشخص فيلما معينا، فإذا كانت أفلام بعض المخرجين في مراحل شبابهم تختلف عن مثيلاتها في ما بعد، فإن الأمر يطرح أكثر من تساؤل حول الصورة التي يمكن أن يحملها كل تعبير سينمائي حول رؤية الشباب للذات والآخر والعالَم. يحيل الشباب على الفَتَاء والحداثة، والبداية والطراوة، والاندفاع والطيش والتهور، والحدة والنشاط والعنفوان، والريعان والميعة.. وذلك ما يجعل حمولته الدلالية غنية بالحمولات التي تجعل الشباب يتجاوز المقولة البيولوجية إلى ما دونها لبلورة صورة واقعية وذهنية تتجاوز تلك الحمولة التداولية الراسخة في المخيال الفردي والجماعي، وبناء عليه، يمكن اعتماد السينما كمنطلق لبناء تصورات مغايرة، فهي الوسيط الذي يتيح التعبير عن وضعيات وأحوال الكائن، وهي الفضاء الذي يجمع الشباب، ويرتبط في الذاكرة بالشباب، ويمنح الفرصة للتحليق بالخيال، والتعالي عن الواقع. قدمت السينما الشباب ضمن تصورات لا تخلو من تشويق وإثارة، ولا تنفصل عن رؤى يتقاطع معها الذاتي والموضوعي، والمحلي والكوني إلاّ أن رصدها وفحصها يفصحان عن عدم خلوّها من رؤية ذاتية يقدمها الشباب لأنفسهم ضمن وجودهم في العَالَم وتفاعلهم مع أحداثه، وهو الأمر الذي يسعفنا في تطوير البحث في هوية الشباب من خلال المتن الفيلمي، وفهم تطورها وتأثرها بما حولها، ومدى انعكاسها على السلوك الذاتي للشاب، فضلا عن تطوير حقيقته الداخلية، وتفسير ردود أفعاله الإيجابية والسلبية داخل المجتمع الذي يعيش فيه. ما هوية هذه السينما ما هي الصور الحاصلة والممكنة التي بلورتها (راكمتها) السينما حول الشباب؟ كيف يتم تصوير الشاب(ة) للشباب داخل الأفلام؟ هل يمكن اعتماد السينما كمرجع لفهم الرؤى التي يمكن للشباب أن يقدمها حول نفسه وحول العَالَم؟ بأي معنى يمكن الحديث عن المرجعيات التي يعتمدها الشباب للفصل بين الواقع والخيال داخل السينما؟ هل يسعف تأويل الأفلام في تمثل صورة الشباب في السينما والحياة معا؟ وإلى أي حد تجاوزت السينما الواقع لبلورة مفهوم واضح للشباب؟يطرح هذا المقال بعض الأفكار والتساؤلات التي يمكن أن تكون منطلقا لطرح بعض القضايا ذات الصلة بالندوات التي سبق لملتقى القصبة للفيلم القصير بورزازات أن عقدها حول ثيمة الشباب، والتي تعتبر الندوة الحالية حول "صورة الشباب في السينما" سواء في بعدها المحلي أو العالمي، عبارة عن محاولة تركيبية لتعميق صورة الشباب في الحياة والسينما بشكل جدلي ومرآوي.أفلام الشباب تنتشر عادة خارج سياق التداول المتعارف عليه، وتنتعش أكثر عبر وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي وتسعف المعلومات التي تقدمها لنا هذه الأفلام أن منجزيها متعددو المشارب، فمن الناحية العمرية، ينخرط في الإقبال عليها شبان كثر، ويوقع عليها هواة إذا ما قمنا بتصنيف لتلك المنجزات وفقا للمعايير المهنية، وقليلا ما ينجزها بعض المحترفين الذين تكون لهم صلات بالميدان (التمثيل، التلفزيون، المسرح...)، ويُقْدِمُ عليها الطلبة كعنصر أساسي من عناصر التحصيل أو كتمرين تطبيقي على وضع ما درسوه من نظريات وورشات على محك التجربة. ورغم ذلك، فهي ملاذ لفئات أخرى تسعى من خلالها لتجاوز الإحباط الناتج عن عدم استكمال الدراسة أو الفشل فيها، وهي ملاذ -أيضا- لفئة من التائهين في ما يخص المسار العام للحياة حيث يجدون فيها نوعا من التعويض، فضلا عن خلق فرص جديدة للتواصل وإعادة الاندماج، وهكذا، يمكن أن نخلص إلى أنها سينما تقع بين الهواية والاحترافية أو أنها في طور البحث عن الاحترافية سواء من الناحية الفنية أو الإنتاجية أو التقنية. وينخرط في إنتاج هذه العينة من الأفلام فاعلون متعددون، فهي تصنع داخل الأندية السينمائية التي زودت الحقل السينمائي المغربي بالعديد من الأطر والفاعلين في الحقل السينمائي المغربي، وهي تنتعش داخل الجمعيات التي تهدف إلى نشر ثقافة الصورة أو تستغل الوسائط السمعية البصرية للترويج لأهدافها، وتجد مرتعا خصبا لها في المدارس التي تحتضن أندية للفن والإبداع، فضلا عن المبادرات الفردية التي تعتمد طرائق واستراتيجيات متنوعة في البحث عن موارد مادية وعينية لإنتاج الأفلام، وهو ما يجعلها تنفتح على ما يمكن أن نسميه الإنتاج الذاتي أو المستقل أو البديل. وتتفاوت الموازنات المالية لتلك الأفلام بشكل فارق، فبعضها لا يتجاوز حدود ضمان ما هو أساسي من عتاد التصوير كالكاميرا وملحقاتها، وأجهزة تسجيل الصوت والإنارة، وضمان وسائل التنقل والتغذية، وغالبا ما يقومون بأنفسهم بعمليات المونتاج والميكساج وغيرها. وتلجأ غالبية صناع هذه الأعمال إلى اعتماد آليات التطوّع قصد الاستفادة من خدمات الهواة أو بعض المحترفين أو المتخرجين الجدد من دارسي السينما، وذلك اعتمادا على الصداقات والعلاقات الشخصية التي تنجح بنسبة معينة في إقناع بعض الفاعلين بالانخراط في تلك المنجزات. وإذا ما انتبهنا إلى المسألة من وجهة نظر سوسيولوجية، فإننا نقف على بعض المظاهر التي تتلخص في التضامن، وإذكاء الحس التعاوني، وتفعيل مبادئ الرعاية الثقافية سواء في شقها الدعائي الإشهاري أو الإيمان بنجاعة دعم مبادرات الشباب من لدن بعض الأغنياء والمؤسسات، وبالتالي تشجيع العمل الفني كفعل من شأنه الرفع من القيم الإيجابية التي يمكنها أن تساعد على تجاوز الإحباط الاجتماعي، وإنقاذ الفئات الهشّة من أتون الحياة وضراوتها، ولا بدّ أيضا من الإشارة إلى استثمار بعض الشباب في الأفلام برأسمال فردي أو عائلي بنيّة التدبير المسبق لولوج عالم السينما وضمان فرصة للتشغيل الذاتي. ويستحق تلقي أفلام الشباب الرصد والتتبع بالنظر إلى انتشارها خارج سياق التداول المتعارف عليه، فهي تنتعش أكثر عبر وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي التي وجدت فيها ضالتها وجمهورها، كما أن مرتعها الخصب يتجلى في تلك المهرجانات المكرّسة لسينما الهواة والشباب والمدارس، وهي تظاهرات تنعقد في بعض المدن المغربية (ورزازات، سطات، إيموزار، إيفران، وجدة، الراشيدية...)، والتي صار لها صيت بين المخرجين الشباب. السينما هي الفضاء الذي يجمع الشباب ويرتبط في الذاكرة بالشباب، ويمنح الفرصة للتحليق بالخيال والتعالي عن الواقع. رصد وتتبع نلاحظ أن التوزيع الجغرافي للمدن الحاضنة يطغى عليه الهامش مما يفسر هامشية هاته الأفلام، وبحثها عن آفاق أخرى خارج المهرجانات المعروفة، بالرغم من أن مهرجان مراكش كان يعنى إلى حدود دورته ما قبل الأخيرة بسينما المدارس، كما أن بعض الأعمال التي أبان أصحابها عن فرادة خاصة قد لاقت صدى لها في مهرجانات المغرب الكبرى (تطوان، طنجة، والمهرجان الوطني للفيلم). وأود أن أشير هنا إلى بعض التجارب من قبيل ما أنجزه محمد كومان وحسن شاني على سبيل المثال لا الحصر، إذ شاركت أفلام الأول في عدة مهرجانات دولية، وحازت فيها على جوائز مهمة كما حظيت أفلام الثاني بالتتويج في أكثر من مناسبة وطنية. وينظم منتجو هذه الأفلام بعض اللقاءات الخاصة حول أفلامهم داخل الأندية السينمائية أو الأندية الفنية والإبداعية ضمن فضاءات المؤسسات التعليمية العمومية والخاصة، كما يقومون بعرضها داخل صالونات واقعية أو افتراضية (إلكترونية) خاصة في ما بينهم لتبادل الآراء والخبرات وتطوير التجارب والمهارات. وتؤثر سينما الشباب في سينما كل بلد برؤى جديدة، وتبث فيها حركية خاصة، فهي تكشف عن مدى التطور الذي وصل إليه على مستوى الحرية والخيال والإبداع والحقوق، ولنا في التجربة المغاربية خير دليل على ما نقول، إذ رفد الشباب الساحة السينمائية بالعديد من الأسماء التي بصمت تاريخ السينما في بلدانها، وفي العالم العربي، ففي تونس جاء، مثلا، رضا الباهي والطيب الوحيشي وفريد بوغدير من تلك السينما، أما في المغرب فقد برز محمد الشريف الطريبق، ويمكن الحديث عن سينما المخرج الراحل محمد عصفور كسينما هاوية اعتمدت على إمكاناته الذاتية، واجتهاداته التقنية، وهي سينما لا يمكن تجاوزها في التأريخ لبدايات السينما المغربية. ويمكن أيضا الإشارة إلى تميز الأصوات السينمائية الشابة في السينما المغربية كتلك التي يقدمها نبيل عيوش وفوزي بنسعيدي والأخوان النوري وهشام العسري وإسماعيل فروخي، وغيرهم ممن اقترحوا علينا رؤى سينمائية مختلفة للمجتمع المغربي، وأثارت أعمالهم ردود أفعال اجتماعية وأيديولوجية وجمالية مختلفة، وتلك سمة من سمات السينما الشابة التي تأتي ضدّ ما هو سائد وراكض.