الطفولة ، تلك الفترة العمرية من حياة الإنسان والتي يحتاج فيها إلى العديد من المتطلبات والرغبات قصد التعرف واكتشاف ما يحيط به ، فهي فترة الفرح والمرح والإبداع ، فترة التكوين والبناء السليم لكل مكونات الجسم ... وتعد فترة العطلة الصيفية من أبرز الفترات التي يحتاج فيها الطفل إلى إبراز الذات وحب الظهور والاستجمام والسفر ... وإذا كانت كذلك فهل هذه الفترة العمرية يقضيها كل الأطفال فيما يجب أن يستغل ؟ هل الأسر داركة لأهمية هذه المرحلة ؟ حيث هناك من الأطفال من يحرمون من قضاء عطلتهم الصيفية كباقي أقرانهم فتجدهم هنا وهناك منهم من يتسول أو يتحول إلى ماسح أحذية ومن يمارس التجارة وغير ذلك... يحمل الصيف في طياته لبعض الأطفال المرح واللعب وأحياناً أخرى يحمل العمل والتعب والشقاء ، فمن المتعارف عليه أنه إذا ما كانت الحالة المادية للأهل سيئة فعلى الأطفال الذين كتب عليهم الشقاء منذ الصغر أن يساعدوا أسرهم في حمل جزء من أعباء الحياة، وفي المقابل هناك أطفال يسعى أهلهم (رغم تواضع حالتهم المادية) لجعلهم سعداء في فترة الصيف التي تعتبر فترة ترفيهية ما بين أوقات الدراسة. يكثر بإقليمسيدي بنور كباقي أقاليم المملكة خلال فصل الصيف ، الباعة المتجولون على مختلف أعمارهم ومستوياتهم ممن يعرضون سلعتهم على الزبائن سواء بالمقاهي أو الشوارع و الطرقات العمومية ، في الصباح الباكر يستيقظ عبد الكريم البالغ من العمر 13 سنة ، يهيئ الفطور رفقة أخيه الذي يكبره وهو عبارة عن « براد من الشاي وخبزة واحدة مطلية بالجبنة لكل واحد ، فطور قد لا يجتمعان عليه في بعض الأحيان خصوصا خلال أيام الأسواق الأسبوعية الكبيرة . عبد الكريم هذا الذي التقيناه يجوب شوارع مدينة سيدي بنور حاملا على كتفيه العديد من الأشياء ( أحزمة جلدية - محافظ النقود ? ساعات يدوية ? راديو ... ) أشياء تمثل كثلة ثقيلة على كتفيه، غير أنه مع مرور الأيام استطاع أن يتجلد بالصبر حيث أصبحت له مقدرة تحملها. ينحدر عبد الكريم من أحد الدواوير المجاورة لمدينة سيدي بنور والتي تبعد عنه بحوالي 11 كلم ، لا زال يتابع دراسته بالسنة الثامنة إعدادي ، حقق هذه السنة نتيجة لابأس بها كونه انتقل إلى المستوى الموالي بمعدل 12,36 كمعدل سنوي عام ، يقول عبد الكريم « الكراء هنا بسيدي بنور مرتفع لذلك بحثنا عن سكن بأحد الأحياء الشعبية ، حيث اكترينا بيتا بسومة 200,00 درها للشهر ، بيت ضيق جدا نأكل ونشرب وننام فيه أنا وأخي وأحد الأصدقاء « . يخرج كريم في الصباح على الساعة الثامنة صباحا قاصدا المقاهي في بادئ الأمر قبل أن يقوم بجولة بين شوارع المدينة عارضا على الزبناء والمارة سلعته التي تتنوع في كل شيء ( الحجم والاستعمال .. ) لا يرضخ إلى الاستراحة إلا في حدود الساعة الواحدة بعد الزوال وهي الفترة الزمنية التي تقل فيها الحركة وتخف المقاهي من الزبائن ، لذلك يجد نفسه مضطرا للذهاب إلى إحدى المقاهي التقليدية قصد تناول وجبة الغذاء ، « أذهب إلى المقهى الشعبية ، وهناك أتناول السردين المقلي أو في بعض الأحيان الفاصوليا ( اللوبيا ) وخبزة واحدة ، لا يتجاوز ثمن ذلك في غالب الأحيان ستة دراهم ، وهي فترة أستريح فيها قليلا من الثقل الذي أحمله و أسترجع فيها نوع من النشاط حيث أعود إلى بيع السلعة من جديد في حدود الساعة الثالثة بعد الزوال . « يضيف عبد الكريم الذي بدا مثقل النفس بالأحزان مكروب الصدر بالهموم رغم انه دائم الابتسامة وهو يتحدث إلينا. تتكون أسرة عبد الكريم الضعيفة الحال من سبعة أفراد ، والده لم يعد يقوى على فعل شيء نظرا لتقدم سنه ، ليبقى أخوه الأكبر هو سند العائلة في تدبير شؤون حياتها المعيشية ، وبما أن كريم يحب الدراسة كما أنه يحب أن يظهر بمظهر لائق أثناء الدخول المدرسي المقبل فقد ترك حقه في الراحة والاستجمام ، ليزاول حرفة بائع متجول لأنها السبيل الوحيد بالنسبة له لجمع مبلغ من المال يسخره في شراء الأدوات المدرسية وملابس الدخول المدرسي ، متناسيا المخيمات الصيفية وما يطمح إليه أقرانه من متعة خلال العطلة الصيفية . يحكي عبد الكريم للجريدة عن لقاءه بأحد أساتذته « التقيت بأستاذي في المقهى ، ونصحني أن أذهب إلى المخيم أو عند العائلة قصد تغيير الجو والراحة من عناء السنة الدراسية ، عوض التعاطي إلى حرفة بائع متجول ، لأن ذلك ليس في صالحي وقد يؤثر على مستقبلي ... لم أستطع أن أخبره بشيء سوى أنني حملت سلعتي واتجهت إلى مكان آخر وفي نفسي كنت أرد عليه ( أشكون اللي كراه يا أستاذي ؟ ) « يقدر مدخول عبد الكريم اليومي ما بين 30.00 و 120,00 درهما حيث يستفيد من كل قطعة باعها بربح يتراوح ما بين 3.00 دراهم و 5,00 دراهم ، لا يهم للعودة إلى البيت إلا حين سماع آذان المغرب ، وتعد فترة العشاء مناسبة ليجتمع بأخيه ويحكي له كل ما جرى له خلال النهار ونفس الشيء يقوم به الأخ الأكبر لعبد الكريم الذي لا يمر يوم دون أن يسدي له النصح والإرشاد . يقول عبد الكريم « إذا مرضت ، فإنني أنزعج كثيرا حيث أظل في البيت لوحدي وضياعا لربح ذاك اليوم ...» جلس عبد الكريم بجانبي في المقهى بعدما طلبت منه ذلك حيث عرضت عليه شرب كأس من الشاي ، غير أنه طلب من النادل كأسا من الحليب . من ميزاته الذكاء والحوار المفتوح ، فهو لم يخف أسفه عن الوضع الذي يعيش فيه محروما من حقوقه لترمي به الأقدار ويحل غريبا على المدينة رغم أنه من أبناء المنطقة ، يجوب الشوارع محملا بسلع وان كانت صغيرة الحجم ، فهو لا يهواها ، وحين استفسر ته عن أمنيته في الحياة ، بدت على ملامحه دلائل الألم والمرارة التي كان يحاول كبتها وهو يحتسي الحليب ، رفع يده وضغط على جبينه كأنما يحاول منعه من الانفجار والتحطيم ثم أطلق زفرة حارة و أجاب في هدوء قائلا « سأصبح ذكتورا وأتذكر هذه الفترة من حياتي وأحكيها لأولادي إن شاء الله . « من الملفت للنظر كذلك هو تعاطي شريحة عريضة من الأطفال لبيع الشمسيات بمختلف أشكالها وأحجامها وألوانها ، وتعتبر هذه الفترة من أفضل الفترات لأجل ترويج هذا النوع من السلع، حيث يكثر الطلب عليها قصد الوقاية من أشعة الشمس الحارقة لذلك تجدهم يتجولون في كل مكان . بالواليدية باقليم سيدي بنور، التقت الجريدة بأحد الأطفال يحمل على ظهره ثلاثة شمسيات بينما يقبض الرابعة بيده اليمنى ، ويتعلق الأمر بالطفل نور الدين يبلغ من العمر 12 سنة ، ودع الدراسة في المرحلة الابتدائية ليجد نفسه يتقلب بين الحرف والأماكن منذ سنتين خلت ، يقول نور الدين الذي ينحذر أصلا من دوار القرية بسيدي بنور أنه يتجول بين المدن الساحلية وتلك المجاورة لها ، لأن أهالي المنطقة لابد وأن يشدوا الرحال إلى الشواطئ أو المواسم الدينية ... احترف نور الدين بيع الحلوى و السجائر بالتقسيط خلال السنة الفارطة ، وهو اليوم يجرب حظه في بيع الشمسيات عسى أن يكون مدخول هذه السنة أفضل من سابقاتها . لم يكن يعلم نور الدين أن إقليمسيدي بنور لا زال سكانه وخاصة فئة الأطفال و الشباب يعانون من التهميش واللامبالاة من حيث جانب الترفيه والاستجمام ، كون الإقليم ( الواليدية - العونات ? الزمامرة ? أولاد عمران .... ) لا يتوفر على العديد من المرافق الاجتماعية و الترفيهية التي بإمكانها تلبية حاجياتهم وعشقهم في السباحة واللعب والاسترخاء ... لتبقى السواقي هي الملاذ الوحيد لمئات الشباب والأطفال إن لم نقل الآلاف بإقليمسيدي بنور ، يخاطرون بأرواحهم في أماكن يصعب العوم فيها ، وحتى إن أمكن ذلك ، تبقى سلامتهم من الأمراض والأوبئة والحوادث غير مضمونة ، في الساعات الأولى من صباح كل يوم تجد العديد من الأطفال يتجهون نحو السواقي المحيطة بمناطق سكناهم يملئون جنبات الطريق فرادى وجماعات في ظل حرمانهم من أبسط متطلبات الترفيه خلال فصل الصيف . ليس نور الدين الوحيد الذي جاء إلى مدينة الواليدية قصد بيع الشمسيات بها بل هناك العديد من الأشخاص ومن فئات عمرية مختلفة ، غير أن لهم هدف واحد هو طلب الرزق بالحلال ، لم يكن اختياره لها اعتباطيا خصوصا و أن مدينة الواليدية تعرف توافد الزوار بكثافة خلال فصل الصيف نظرا لخصوصياتها المتميزة الطبيعية و الايكولوجية ناهيك عن الحفلات و المهرجانات التي تقام بها ما يجعلها فعلا قبلة مفضلة لدى العديد من الزوار من داخل الوطن و خارجه . يسكن نور الدين مع صديقين له من نفس المنطقة التي ينتمي إليها ، اكتروا بيتا بالجوار لمدة أسبوع فقط ب 300 درهم و هي الفترة التي ينوي الأصدقاء الثلاثة المكوث خلالها بالواليدية لأن لهم استعمالا زمنيا يجعلهم ينتقلون من هذه المدينة إلى تلك دون ملل أو كلل ، يقول نور الدين « تأثر الدوار الذي نسكن فيه كثيرا بسبب الجفاف والظروف الاجتماعية القاسية ، لذلك لم أجد سندا يشجعني على الدراسة التي غادرتها منذ السنة الرابعة ابتدائي ، مارست راعيا للغنم ( بالخبزة ) عند أحد الأشخاص في بادئ الأمر ، إلا أن ذلك لم يعجبني ، فمارست بعدها حرفة النجارة والحدادة ، غير أن حرفة البيع والشراء كانت أقرب إلى ميولي من تلك ، لذلك بدأت في التعاطي لبيع السجائر بالتقسيط في بداية الأمر ثم الحلويات ... فبائع متجول للشمسيات « بالإضافة إلى واجب الكراء فهو يؤدي نصيبه كباقي أصدقائه فيما يخص واجب الأكل ، علما أنه مكلف بتحضير وجبة الغداء كل يوم ، الأمر الذي يدفعه إلى الاستيقاظ قبل صديقيه حتى يتمكن من تهيئ كل شيء ، فيتناول الفطور ثم يخرج لطلب الرزق رفقة أصدقائه . يبيع نور الدين الشمسية الواحدة بثمن يتراوح ما بين 100.00 درهم و 120.00 درهم يستفيد بربح يقدر ما بين 15.00 درهم و 30.00 درهما ، يبيع شمسيتين في غالب الأحيان غير أنه إذا ابتسم له الحظ قد يبيع ستة إلى سبعة شمسيات في اليوم بينما قد يدير له ظهره فلا يستفيد من جولته سوى العياء وحرارة الشمس ... ، لهذا فكر هو وأصدقائه عدم الاستقرار بمنطقة معينة عملا بالمقولة « في الحركة بركة « يقول نور الدين بصوت مليء بالشجاعة والصبر « نحمد الله ونشكره على كل حال ، كنعيشوا ونعيشوا معانا والدينا بعرق الجبين « . لولا إيمانه بالحياة وثقته الراسخة في النفس لانطفأت من نفسه كل بارقة ، وضاع كل أمل ، رغم الحزن الذي ملأ محياه وجعله يكبر سنه بكثير فقد كان حزنا لذيذا إن صح أن للحزن لذة . رغم قساوة الحياة الاجتماعية التي هو عليها فالابتسامة لا تفارق محياه لا يشعر بثقل الأمتعة التي يحملها بقدر ما يشعر بثقل المسؤولية في توفير مبلغ محترم يرسله لوالديه قصد مواجهة الظروف المعيشية بالبادية ، هموم حملها في صغره فامتزجت لديه الفرحة بالحزن و الرضا بما « قسمه عليه الله « حسب قوله ، إحساس غريب يتملكه و يجعله أكبر من سنه بكثير ، انحنى برأسه ثم ملأ رئتيه بالهواء و تنفس بعمق و هو يخاطبنا « دعيو معانا ، الله اجيب التيسير و يبدل الوقت بما هو أحسن « هكذا ودعنا الطفل نور الدين والشمسيات لازالت معلقة على ظهره ، يخطو في اتجاه شاطئ الواليدية وهو يعرض سلعته على كل من صادفه أو يصادفه في طريقه . على سبيل الختم : إن فترة الطفولة هي من أهم فترات حياة الإنسان التي تحتاج لعناية كبيرة من طرف الجميع كونها تترك أثراً واضحاً على حياة الإنسان فالبيئة المحيطة بالطفل وظروف معيشته هي التي تحدد إدراكه وتشكل سلوكه وطرق تعامله مع الآخرين فإذا ما أردنا أن نخلق جيلاً يكون بالفعل جيل المستقبل فيجب أن تأخذ الطفولة حقها في العيش الرغيد و الاهتمام اللازم من طرف المجتمع .