وطبعا ما كانت هذه الندوة لتحرز كل هذا النجاح لولا أن رئيس الاتحاد، أي الأستاذ برادة بكل التأكيد اللازم، قد استنفر جميع صداقاته وعلاقاته العربية والمشرقية تحديدا وأفاد من مصاحباته الطويلة للرواية ونقاد الرواية العرب لكي يجمع شملهم في العاصمة العلمية للمغرب ويجعلهم ينصتون لبعضهم البعض بكل الاهتمام والاحترام المتوقع من نخبة الكتاب وطليعة المفكرين في موضوع قلّما اجتمع حوله العرب وأبدوا حوله آراءهم ومظنوناتهم.. وأشهرا قليلة قبل أن يغادر محمد برادة رئاسة اتحاد كتاب المغرب سيدعو إلى ملتقى القصة العربية الحديثة الذي سينعقد بمدينة مكناس أيام 22-25 مارس 1983.. وهو اللقاء الذي كان مقررا له أن يتمّ خلال الصيف ولكن أحداث العدوان الإسرائيلي على لبنان والمقاومة الفلسطينية حال دون ذلك.. وفي ذلك قال برادة خلال جلسة الافتتاح بعد قيام المشاركين دقيقة صمت ترحما على أرواح الشهداء: «كان نشازا أن نجتمع ونتحدث عن القصة فيما كان جسدنا يعيش قصة ترسخ تشاؤم العقل وتشل تفاؤل الإرادة.» وقد تمّ عقد هذه الندوة حول القصة العربية القصيرة هي كذلك بحضور نخبة من الكتاب والباحثين العرب والمغاربة الذين سيتداولون في شأن هذا الجنس الأدبي الذي نادرا ما سلّطت عليه الأضواء بمثل ما حدث في هذا اللقاء الذي ستصدر أعماله أيضا ضمن أحد أعداد مجلة آفاق التي يصدرها الاتحاد.. وبالرغم مما خيّم على هذا الملتقى من أجواء المأساة العربية في لبنان وفلسطين فإن المشاركين خلصوا إلى فتوى ظريفة اقترحها الكاتب المصري إدوار الخراط مفادها أن «الكتابة القصصية قد تكون من جملة الطرق والوسائل الممكنة للخروج بالأمة العربية من هذا الوضع البائس الذي تردّت فيه.» ومثل لقاء الرواية بفاس.. أريد لهذا الملتقى كذلك أن يكون عبارة عن جلسات مغلقة يحضرها المعنيون والمتخصصون من المشاركين والضيوف وذلك لضمان الحد الأكبر من شروط التداول والنقاش.. وقد ساهم بإلقاء عروض من مصر كل من صبري حافظ وسيد البحراوي ومن لبنان يمنى العيد وإلياس خوري وخالدة السعيد زوجة الشاعر أدونيس ومن سوريا هاني الراهب ومن العراق عبد الرحمن الربيعي ومن روسيا المستعرب فلادمير شاكال.. أما المغاربة فكانوا ممثلين بالنقاد إدريس الناقوري ونجيب العوفي وعبد الفتاح كليطو ومحمد برادة وساهم فيها أعضاء الجيل الجديد من النقاد كسعيد يقطين وبشير القمري وعبد الرحيم المودن وكاتب هذه السطور غيرهم من الكتاب والروائيين.. وقد انقسمت المداخلات المقدمة بين عروض نظرية اتجهت إلى اقتراح تأسيس نظرية نقدية عربية في مجال القصة القصيرة.. وعروض تطبيقية قاربت نصوصا قصصية بعينها مستعملة مناهج ترصد بواسطتها مضامينها وأساليبها وأنماط بنائها الفني.. بينما ظلت حاضرة في النقاش تلك الثنائيات التقليدية من قبيل التراث والمعاصرة.. المصطلح والمنهج.. التأثير والتأثر.. ومن طرائف هذا اللقاء أنه عندما تدخّل أحد الحاضرين ليدافع عن حق الكاتب العربي في أن يقتبس من الغرب صنائعه ومناهجه إسوة بما نأخذه عنه من آلات ووسائل دفاعية كالفانتوم التي ندافع بها عن أرضنا وأطفالنا.. عقّب عليه أحد الكتاب اللبنانيين مستنكرا:» لا ليس هذا صحيحا.. فقد كانت سماؤنا خالية إلا من طائرات العدو..» وهكذا ظلت وقائع الاجتياح الإسرائيلي للبنان حاضرة بقوة رغم هيمنة الخطاب الأكاديمي على أشغال الندوة.. وكانت المفاجأة الكبرى هي قدوم الشاعر الفلسطيني محمود درويش إلى مكناس وإحياء قراءة شعرية باذخة في مقر المعرض ستبقى عالقة في ذاكرة من حضرها وخاصة أنه قد شنّف الأسماع بقصائد ديوانه (أعراس) وفي مقدمتها ملحمته (أحمد الزعتر).. وفي سياق آخر ستشهد فترة ولاية برادة انعطافة لافتة تجسدت في الانفتاح على أشكال تعبيرية وإبداعية ظل حضورها خافتا أو باهتا في أنشطة اتحاد الكتاب مثل الفن المسرحي والثقافة الشعبية التي ستعقد لهما عدة ندوات ستظهر موادهما ضمن مجلة آفاق وتعطي صورة مشرفة عن مستوى البحث المغربي في هذا المضمار.. أو الفنون التشكيلية التي سيثمر النقاش مع ممثليها في الجمعية المغربية للفنون التشكيلية صدور مجلة «النشرة» التي ستأخذ على عاتقها إشاعة مفاهيم الصورة واللون في تعالقاتهما مع الكتابة الأدبية بحصر المعنى.. وكانت أول التفاتة جدية وملموسة من قبل اتحاد الكتاب للمسرح قد تمت على عهد ولاية الأستاذ غلاب (68-76) ووجدت صداها المتواضع على صفحات العدد الخاص من مجلة آفاق الصادر سنة 1969 الذي أشرف على إعداده ووضع مقدمته حسن المنيعي.. ومباشرة بعد تولية الأستاذ برادة سيعلن عن تنظيم مناظرة وطنية حول وضعية المسرح المغربي في الفترة ما بين 14 و16 دجنبر 1976.. وسيكون القصد المعلن من هذه المناظرة هو «إعادة طرح مسألة المسرح المغربي من منظور يستقطب أهم العناصر المتصلة بوجود المسرح وانبعاثه وممارسته كشكل تعبيري أساسي في مجال الثقافة وتكوين الرأي العام.».. كما جاءت هذه الالتفاتة لمعالجة «عمق الأزمة» المتصلة بضعف المستوى النظري وبنوعية الممارسة عند العاملين في هذا المجال كتابا ونقادا ومخرجين ومسؤولين عن الفرق المسرحية.. ومن هذا المنطلق دعا اتحاد الكتاب جميع هؤلاء المهتمين والعاملين إلى المشاركة في أشغال هذه المناظرة «للتفكير في إشكالات مسرحنا وبلورة الآفاق الممكنة القمينة بمساعدة المسرح المغربي على تجاوز التعثر واستعادة المكانة اللائقة به في تحريك قاطرة الثقافة الجديدة.» وقد استجاب العديد من نشطاء هذا المسرح في تلك الحقبة لدعوة اتحاد الكتاب.. فمن الكتاب المسرحيين حضر الطيب العلج وعبد الله شقرون وأحمد العراقي ومحمد تيمود وعبد الكريم برشيد ومحمد الأشهب.. ومن النقاد والصحفيين شارك حسن المنيعي وعبد الله المنصوري وخالد الجامعي.. ومن الممارسين عبد اللطيف الدشراوي وعبد الصمد دينية وفريد بنمبارك ونبيل لحلو وعبد القادر البدوي وعزيز السغروشني.. وقد أدار أشغال هذه المناظرة الأساتذة محمد برادة وأحمد اليابوري وربيع مبارك ومحمد الواكيرة.. ولكن مما يؤسف له حقا أن أعمال هذا الملتقى ذهبت أدراج الرياح لأنه لم يجر توثيقها ولا نشرها ضمن أعداد مجلة آفاق التي كانت ما تزال تعاني عهدئذ من التعثر وعدم انتظام الصدور للأسباب المالية المعروفة.. وفي مضمار الفنون التشكيلية سيهتدي اتحاد الكتاب برعاية محمد برادة في ماي من سنة 1978 إلى إصدار نشرة أدبية وفنية تحت اسم «الإشارة» بشراكة مع الجمعية المغربية للفنون التشكيلية.. وستكون هذه التجربة من طراز فريد لأنها نجمت عن إرادة مشتركة وكانت ثمرة نقاش طويل وجاد بين الفنانين التشكيليين وزملائهم من الأدباء والكتاب.. وقد كانت «الإشارة» تسعى إلى طرح جملة من القضايا والاهتمامات الفنية والأدبية التي تستطيع مخاطبة القارئ المتوسط أو القارئ الذي لا يتعامل مع المجال الإبداعي تعاملا مباشرا في محاولة شدّ ذوقه واستثارة حسّه لتصبح التغذية الفنية وجبة خفيفة في استهلاكه العادي. ومن خلال الأعداد القليلة التي صدرت منها استطاعت هذه النشرة أن تتميز بنكهتها الخاصة وأن تغني المشهد الإعلامي والفني لبعض الوقت.. وذلك في وقت كانت فيه «السوق تزدحم بنثار من الأوراق الرثة والمطبوعات التهريجية والتدجينية.» وللأسف مرة أخرى.. فلم يكتب لهذه المحاولة أن تستمر لأسباب عديدة منها المصاعب المادية وخاصة احتدام الخلاف الإديولوجي بين رئيس اتحاد الكتاب الاتحادي المعارض ورئيس جمعية التشكيليين الفنان محمد المليحي الذي كان قد التحق صحبة صديقه المصور محمد بنعيسى، وزير الثقافة لاحقا، بالتجمع الوطني للأحرار الذي كان الاتحاديون في تلك الحقبة يعتبرونه حزبا إداريا.. ومعلوم على الصعيد السياسي أن الاتحاد قد بقي طوال ولاية برادة قلعة صامدة في وجه السياسة الحكومية القائمة بمعارضته لبرامجها الفولكورية والمناسباتية، ومقاطعته لأجهزتها الإعلامية من تليفزيون وإذاعة، وعدم استجابته للدعوات الرسمية وحضور احتفالات الأعياد وغيرها من مظاهر الوطنية المصطنعة.. وقد أجهز هذا الموقف على العديد من المبادرات التي كانت تتجه إلى الاستفادة من المال العام باعتباره حقا لجميع المواطنين.. وهو الموقف الذي سيتلطّف تدريجيا وبصعوبة باهظة حقا خلال ولاية الأستاذ اليابوري وخلفه محمد الأشعري.. على أن أهم اختراق سيقوده برادة في بداية الثمانينات هو تنظيمه لندوة استثنائية وغير مسبوقة حول موضوع الثقافة الشعبية الذي كانت الأطراف الاستقلالية بسبب من إديولوجيتها العروبية المفرطة تعتبره من المناطق المؤجلة بل المقصية تقريبا في أنشطة الاتحاد.. ولا بد من التذكير بأن السياق الذي اندرج فيه إقرار هذه الندوة كان يحيل على صحوة العلوم الأنتروبولوجية والإثنولوجية في البلاد الغربية.. خاصة جارتنا فرنسا.. التي قادها خلال الستينات علماء أفذاذ أمثال ليفي ستراوس وجورج دوميزيل ورولان بارت.. وقد كان لهؤلاء تلامذتهم في المغرب كعبد الكبير الخطيبي وعبد الحي الدويري ومومن السميحي.. وكان اختيار هذا الموضوع بالذات بمثابة إعلان للنوايا الحسنة تجاه الثقافة الشعبية والقطع النهائي مع ثقافة الإقصاء والاستئصال التي عمّرت طويلا في مجتمعنا مستفيدة من عمى الألوان لدى الأنتلجنسيا الوطنية والسكوت المأجور للمثقف المغربي الذي ما إن غادر حاضنته الطبقية حتى سارع إلى التنكر إلى أنماط التعبير الفطرية التي نشأ تحت ظلالها بل وشنّ عليها حملة شعواء كما فعل مفكر إديوليجاني معروف.. وهكذا سيكون هاجس التعاطي مع تطور العلوم الإنسانية من جهة والرغبة المشبوبة في تكريس الوعي الطبقي من جهة أخرى هو السبيل إلى الصدع بجواب ثقافي وتاريخي سيتمّ إعلانه على الملأ وعلى نحو عملي بخصوص هذا المنحدر الشائك الذي كانت الثقافة الشعبية المغربية ترزح فيه خلال ربع قرن ويزيد من الاستقلال، فجاءت هذه الندوة الكبرى، ثم عدد آفاق الذي ضمّ أعمالها، لا تكتفي بالاعتراف فقط بوجودها وإثبات شرعيتها بل لتدشين لحظة وعي جديدة قوامها الالتزام بدعمها وتحصين حدودها لتواصل الإنتاج وإعادة الإنتاج في عالم لم يعد مقبولا فيه تكميم أفواه الشعوب وفرض الوصاية على ذاكرتها. وسواء تعلق الأمر بالمسألة الأمازيغية التي أتيح لها ربما لأول مرة أن تخرج للعلن وتطرح إشكالاتها تحت ضوء النهار المغربي، أو بفسح مكان مستحق لثقافة الطوائف وطقوس الجذبة المنغرسة في الوجدان الشعبي، أو بمناولة القضايا النظرية والأدوات المنهجية الضرورية لمقاربة هذا القطاع الحيوي من وجداننا.. فإن عقد هذه الندوة كان محطة مفصلية في الفكر المغربي الحديث أرسى اتحاد كتاب المغرب ركائزها وأطلق إشعاعها بحيث لم يعد واردا لجهة أو لأحد أن يقرر نيابة عن الحشود الصامتة أو يأخذ الكلمة باسمها. وليس من خاتمة أفضل لهذه المقالة من أن ندع الكلمة للأستاذ نفسه لكي يوجز لنا تجربته في إدارة المكتب المركزي للاتحاد خلال السبع سنوات غير العجاف بين 1976و1983.. والتي لخّصها في ثلاثة مكاسب أساسية هي على التوالي: -مدّ الجسور بين اتحاد كتاب المغرب وبين شباب الجامعات المغربية.. -التعريف بالإنتاج الأدبي والفكري وتنظيم لقاءات لمتابعة تحولات الثقافة المغربية.. -إسماع صوت الأدب المغربي المكتوب بالعربية في الساحة العربية وعقد ندوات نقدية وحوارية لتبادل الخبرات مع الأشقاء العرب وتوطيد الصداقة معهم..