ينصتون إلى دقات قلوبهم يكتشفون أنهم متوترون، خائفون، يراجعون مامر عليهم في حياتهم ويرون أنهم، رغم الرعب الذي يستشعرونه، يستمر الإيمان يستعر في روحهم ويدفعهم إلى الأمام. يبحثون عن معرفة أين أخطأوا وأين أصابوا، ينتهزون فرصة لحظة انبطاحهم على الأرض للاستراحة ومداواة جروحهم والاهتداء إلى خطط جديدة للإعداد جيدا لما ينتظرهم، ثم يقبل يوم آخر تتكشف فيه معركة جديدة، الخوف مقيم دائما، لا يرحل، لكن عليهم أن يقوموا بما يجب والا سيظلون، إلى الأبد، ممددين على الأرض، ويرون غريمهم في مواجهتهم وهم يتذكرون أن ألمهم الذي قاسوا منه لا يريدون أن يحيوه مرة أخرى، الهزيمة السابقة ترغمهم على الانتصار هذه المرة لأنهم لا يريدون أن يعيشوا نفس الألم مرة أخرى«. (باولو كويلو، المخطوط المستعاد، م.ف. مارشان سوفانيارغ، فلاماريون، باريس، 2013، ص 30/29). 1 - ألا ينطبق هذا المقطع، في هذه الأيام العصيبة من تاريخ الشعب الفلسطيني، على ما تحياه وتعيشه الأراضي المحتلة من خلال ما يلحق بقطاع غزة؟ لنترك للقارئ كامل حرية التأويل دون أن نغفل كل ما تعرض له هذا الشعب الأبي من مذابح فاقت كل مذابح العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وما يهمنا من المقطع المذكور ومقاطع أخرى تليه هو النبرة التي تغلف نسغ الملفوظ حيث نستعيد نبرة الخطاب الديني باعتبار أصل الحبكة التي يستند إليها النص بأكمله أصلا ومنذ المقدمة بالذات أو »الاستهلاك» (ص16*13) حيث تتماس هذه النبرة خطاب الإنجيل عامة ومع »أناجيل مزعومة» هي أصل »المخطوط» وتتحدر من »مخطوطات« متوزعة على قرابة ألفي سنة منذ 180م إلى غاية 2011، وتتماس أيضا لهذا الغرض، من منظور القراءة والتحليل والتلقي، مع الخطاب الأدبي. اللغة الأدبية، من ذلك نماذج «»النبي»«لجبران خليل جبران، أو رواية «الزمن الموحش» لحيدر حيدر، أو ديوان »ملك أتلانتس» لسميح القاسم. هذا مظهر »أساس في تصور علاقة الكتابة بالوجود وبالواقع ومدى قدرة الذات على اختراق حدودها لتمثل العالم وهو يتهاوى وينهار ويدق أجراس التراجيديا، كويلهو في هذا النص لا يكتب عن العرب ولا عن الفسطينيين بالتحديد، لكنه، من خلال بنية النص بأكلمه، كما من خلال ر ؤيته المحايثة، يؤشر على وضع إنساني دال وعلى مكون لا هوتي يثوي في رمزية الرؤيا أليغوريا: هناك خلل ما في العالم، هناك صدع، هناك ارتباك في تصور ما جرى منذ تسليم المسيح للصلب ومنذ بدء الحروب الصليبية. وهي اللحظة بالذات التي يبدأ فيها التساؤل عن جدوى الزمن الديني ملتصقا بالزمن التاريخي حول الأراضي المقدسة بغض النظر عن منطق المقدس وحدوده، لأن الأصل ليس هو هذا الزمن أو ذاك وإنما هو التراجيديا وهو أيضا تاريخ التراجيديا كما يحياها الإنسان لا كما نقرأها فقط، في الكتب أو نسمعها حتى. شكل »»المخطوط المستعاد«« حوارية طويلة بين راهب يوناني قبطي شاب وجماعة من المؤمنين الذين يستعدون للهجرة والرحيل أو البقاء للمواجهة والحماية - حول قيم الصمود وقيم الحياة إنسانيا لا دينيا فحسب، وأعتقد أن هذا هو ما يجعل مضمون (رسالة) »المخطوط مفيدة الى حد ما حسب مسارات التأويل وسياقات القراءة ثم سياقات ما يجري في فلسطين التي تتحمل وحدها، في ما يبدو وكما يبدو من خلال الإبادة، وزر العالم، العالم الذي يستوي حرا في مكان، في أمكنة ما، خارج فلسطين، ويظل مكانا آخر داخل فلسطين، بل يظل هو المكان، المكان الوحيد لتبرير ما تراكم من صدأ في الزمن الذي يتوقف ويعود القهقرى الى الوراء كلما شحذت اسرائيل أسلحتها و تعبأت لإفراغ حمولاتها المختلفة لتبريرو جودها كما فعلت وتفعل دائما منذ كفر قاسم، بينما العالم، العالم الحر، لا يبالي إلا بما يمكن أن يستفيد منه للمضي قدما في الحفاظ على توازناته الخاصة بصدد منظوماته المتعالية كما يعتقد جاعلا من إسرائيل شرابه السحري، النيكتار، مقابل شراب فقد قيمته وجدواه ومفعوله، الدم، النيكتار (شراب الآلهة) مقابل الدم مادام هذا الأخير متداولا ورائجا، لم يعد أحد يكترث به وإن كان عليه المعول في البداية والنهاية. 2 - تجنب فيلم «»الرسالة»« الخوض في العلاقة بين الأديان بشكل مباشر (باستثناء صورة الراهب الكلداني، المسيحي من بابل، وهويقدم بعض العنب للنبي محمد (ص) وهو مطارد في (يثرب)، ويشير فيلم »»مملكة السماء» إلى ضرورة التفكير في جعل الأماكن المقدسة، خاصة القدس، للجميع، أو حتى جعل الدين، أي دين، »دينا« وكفى، خارج الحسابات الضيقة وخارج مدارات تصور العالم المادي الذي يتطلب مزيدا من التساكن والتعايش والحوار بين الاديان السماوية وبينها وبين الأديان غير السماوية، انطلاقا من أرضية - مساحة أن الله واحد والإنسان متعدد، أو عكس ذلك، الله متعدد، حسب الأديان، والإنسان واحد، أو كلاهما متعدد وكلاهما واحد، في الآن نفسه، كما هو العالم متعدد وواحد، وكما هي الحضارات والثقافات والعقليات، دون أن ننسى الشعوب والقناعات والمذاهب، وما علينا أن نحاربه ونتصدى له هو التشدد والتطرف والأصولية باسم هذا الدين أو ذاك، باسم هذا المذهب أو ذاك، ولنا في التاريخ المعاصر، وكذلك الحديث والقديم، شواهده وشهادات لا حد لها و كلها حصار وقتل ومحاسبة وتكفير وصلب واغتيال، وكلها أيضاعذاب وخوف ورعب وروع وألم وتيه، كما نقرأ في المقطع الذي مهدنا به. تصف هذا الأساطير والملاحم والكتب المقدسة والتراجيديات المسرحية، وتصفه الرواية ويصفه الفيلم المطول والوثائقي والتسجيلي. ومع ذلك، مع ذلك يستمر الحكي، تستمر الحكاية، تبدأ من الصفر في غزة، بل تستقر الحكاية وتتجاوز متخيلها، تجعل المتخيل واقعا لا غبار عليه فطريا، لأنه هو، هو هو، هو دائما كما عودتنا اسرائيل وهي تقتل، وهي تدمر، لأنها إن لم تفعل ذلك لا يمكن أن تكون، لا يمكن أن يكون لها معنى، معنى اسرائيل هو أن تقتل أطفال فلسطين، أبناء فلسطين، معنى اسرائيل هو لا معنى فلسطين، هذه هي بلاغة الوجود الذي تريده اسرائيل من أجل النيكتار، القتل يسترسل والدم يسيل كما يسيل في سورياوالعراق من أجل نيكتار آخر، نيكتار أقل جودة وثمنا في سوق حمراء، السوق السوداء لم تعد تدر الدخل الموعود، وحدها سوق الدم وسوق أجساد الأطفال والرضع، في غزةوفلسطين، تتصدران البورصة، في أوج العولمة، في أوج عولمة يؤثثه وهم حداثة عابرة، ظرفية بالأحرى، هجينة في تفاصيلها وهي تتحول الى كاهنة في معابد وهياكل الرأسمالية الشمطاء، شعارها كن كما نريد، لا تكن كما تريد. 3 - »نحن ننتج وأنت تستهلك، استهلك فقط، لاتفكر، نحن نفكر لك ومن أجلك، استهلك واستهلك واستهلك، لا تتوقف عن الاستهلاك، استهلك الدم ولا تقرب النيكتار، استهلاك السيارات واليخوت وناطحات السحاب والعطور والبذل والثياب والأقمشة والساعات الذهبية والأساور والحلي والسجائر والنساء والأكلات الجاهزة وصور أطفال ونساء وشيوخ وعجزة ومرضى غزة في القنوات الفضائية، استهلك ونم قرير العين، نحن نحميك، نحن حاضرون معك، حاضرون حولك، نأتي إليك متى تشاء، أنى تشاء، حيث تشاء، لا يهم ما دمت تدفع لنا، نحن نعرف كرمك الحاتمي، كن مثلنا في الظاهر، لا تكن مثلنا في الباطن، لنا النيكتار ولك الدم، نحن «ديموقراطيون»، تلك تعويذتنا وتميمتنا، »»لا لا خميسة»، وأنت لا تحب الديموقراطية، لأنها »»لهو»، الديموقراطية لا تليق بك وبمقامك السامي، أنت أكبر من الديموقراطية، أنت أكبر من الاشتراكية، لأنهما »»لغو»، أنت أكبر من العلمانية ومن العقلانية، لأنهما لغو، خذ لك قليلا من الحداثة الشكلية، فهي تكفيك في لباسك وأثاثك وآلات فرجتك ولهوك ومتعتك السمعية والبصرية لتختلس ما يسرك ويبهجك ويغنيك عما يحيط بك من بؤس بني جلدتك، الحداثة العقلية لا تعنيك، أنت لا تستطيع أن تكون مثلنا، لأنك صدأ التاريخ وغبار الجغرافيا ،ونحن مثل الزئبق، هي ذي شريعتنا، النيكتار لنا ولك الدم، الدم السخي، دمك ودم هابيل ويوسف وشيماء و كل الدم العربي، نم، إذن، نم قرير العين، خرائطك في جيوبنا وصناديقنا، في الحفظ والصون. ألم يقل أوفيد»والآن أيها الشرق القصي ستكون لنا؟«« يستحيل أن نتخلى عنك، نحن لا نتخلى عنك أبدا، منذ القديم، دينك لا يهمنا، لا تهمنا سنتك ولا شيعتك، سنتركهما تتهارشان، لا تهمنا الاديان ولا المذاهب ولا الحركات ولا المنظمات ولا الأحزاب ولا النقابات ولا الجماعات إلا في حدود ما يوفر ذلك النيكتار، لا يهمنا «الربيع«« ولا الصيف ولا الشتاء، الخريف هو الأفضل لنا ولكم، هو الأقراص والترياق، هو البلسم ضد سم الهوية والوطن والعقل والمعرفة والحرية، لا تهمنا الأديان ولا الأوطان، لا يهمنا الإنسان، لا يهمنا (سارتر) ولا (ماركيوز)، لا تهمنا مبادئ أوروبا العجوز، لا يهمنا عصر الأنوار، ولا (روسو) ولا (مونتسكيو)، وبقدر ما تتراجع أنت إلى الخلف، نتقدم نحن، نتقدم ونتفرج، نراهن على التراجيديا وعلى الكوميديا وعلى الفارس، نراهن علي (أخيل) و(باريس) وأوليس) و(أوديب)، ونترك لكم (تيرزياس)، نترك لكم (إليكترا) و(ايفيجينا) و(جوكاستا)، نترك لكم (هيلين) نترك لكم (بينيلوپ)، نترك لكم (هند) و(تماضر بنت عمر وبن الشديد) أيضا، نتركهما للعويل والبكاء والرثاء. نراهن على (سيف) وعلى (عنترة): ألا يكفي هذا احتراما لكم؟ ألا يكفي (عمرو بن كلثوم) ألا يكفيكم هذا التوازن الخلاق؟ متاهة الخلطاء ينصتون إلى دقات قلوبهم يكتشفون أنهم متوترون، خائفون، يراجعون مامر عليهم في حياتهم ويرون أنهم، رغم الرعب الذي يستشعرونه، يستمر الإيمان يستعر في روحهم ويدفعهم إلى الأمام. يبحثون عن معرفة أين أخطأوا وأين أصابوا، ينتهزون فرصة لحظة انبطاحهم على الأرض للاستراحة ومداواة جروحهم والاهتداء إلى خطط جديدة للإعداد جيدا لما ينتظرهم، ثم يقبل يوم آخر تتكشف فيه معركة جديدة، الخوف مقيم دائما، لا يرحل، لكن عليهم أن يقوموا بما يجب والا سيظلون، إلى الأبد، ممددين على الأرض، ويرون غريمهم في مواجهتهم وهم يتذكرون أن ألمهم الذي قاسوا منه لا يريدون أن يحيوه مرة أخرى، الهزيمة السابقة ترغمهم على الانتصار هذه المرة لأنهم لا يريدون أن يعيشوا نفس الألم مرة أخرى«. (باولو كويلو، المخطوط المستعاد، م.ف. مارشان سوفانيارغ، فلاماريون، باريس، 2013، ص 30/29). 1 - ألا ينطبق هذا المقطع، في هذه الأيام العصيبة من تاريخ الشعب الفلسطيني، على ما تحياه وتعيشه الأراضي المحتلة من خلال ما يلحق بقطاع غزة؟ لنترك للقارئ كامل حرية التأويل دون أن نغفل كل ما تعرض له هذا الشعب الأبي من مذابح فاقت كل مذابح العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وما يهمنا من المقطع المذكور ومقاطع أخرى تليه هو النبرة التي تغلف نسغ الملفوظ حيث نستعيد نبرة الخطاب الديني باعتبار أصل الحبكة التي يستند إليها النص بأكمله أصلا ومنذ المقدمة بالذات أو »الاستهلاك» (ص16*13) حيث تتماس هذه النبرة خطاب الإنجيل عامة ومع »أناجيل مزعومة» هي أصل »المخطوط» وتتحدر من »مخطوطات« متوزعة على قرابة ألفي سنة منذ 180م إلى غاية 2011، وتتماس أيضا لهذا الغرض، من منظور القراءة والتحليل والتلقي، مع الخطاب الأدبي. اللغة الأدبية، من ذلك نماذج «»النبي»«لجبران خليل جبران، أو رواية «الزمن الموحش» لحيدر حيدر، أو ديوان »ملك أتلانتس» لسميح القاسم. هذا مظهر »أساس في تصور علاقة الكتابة بالوجود وبالواقع ومدى قدرة الذات على اختراق حدودها لتمثل العالم وهو يتهاوى وينهار ويدق أجراس التراجيديا، كويلهو في هذا النص لا يكتب عن العرب ولا عن الفسطينيين بالتحديد، لكنه، من خلال بنية النص بأكمله، كما من خلال ر ؤيته المحايثة، يؤشر على وضع إنساني دال وعلى مكون لا هوتي يثوي في رمزية الرؤيا أليغوريا: هناك خلل ما في العالم، هناك صدع، هناك ارتباك في تصور ما جرى منذ تسليم المسيح للصلب ومنذ بدء الحروب الصليبية. وهي اللحظة بالذات التي يبدأ فيها التساؤل عن جدوى الزمن الديني ملتصقا بالزمن التاريخي حول الأراضي المقدسة بغض النظر عن منطق المقدس وحدوده، لأن الأصل ليس هو هذا الزمن أو ذاك وإنما هو التراجيديا وهو أيضا تاريخ التراجيديا كما يحياها الإنسان لا كما نقرأها فقط، في الكتب أو نسمعها حتى. شكل »»المخطوط المستعاد«« حوارية طويلة بين راهب يوناني قبطي شاب وجماعة من المؤمنين الذين يستعدون للهجرة والرحيل أو البقاء للمواجهة والحماية حول قيم الصمود وقيم الحياة إنسانيا لا دينيا فحسب، وأعتقد أن هذا هو ما يجعل مضمون (رسالة) »المخطوط مفيدة الى حد ما حسب مسارات التأويل وسياقات القراءة ثم سياقات ما يجري في فلسطين التي تتحمل وحدها، في ما يبدو وكما يبدو من خلال الإبادة، وزر العالم، العالم الذي يستوي حرا في مكان، في أمكنة ما، خارج فلسطين، ويظل مكانا آخر داخل فلسطين، بل يظل هو المكان، المكان الوحيد لتبرير ما تراكم من صدأ في الزمن الذي يتوقف ويعود القهقرى الى الوراء كلما شحذت اسرائيل أسلحتها و تعبأت لإفراغ حمولاتها المختلفة لتبريرو جودها كما فعلت وتفعل دائما منذ كفر قاسم، بينما العالم، العالم الحر، لا يبالي إلا بما يمكن أن يستفيد منه للمضي قدما في الحفاظ على توازناته الخاصة بصدد منظوماته المتعالية كما يعتقد جاعلا من إسرائيل شرابه السحري، النيكتار، مقابل شراب فقد قيمته وجدواه ومفعوله، الدم، النيكتار (شراب الآلهة) مقابل الدم مادام هذا الأخير متداولا ورائجا، لم يعد أحد يكترث به وإن كان عليه المعول في البداية والنهاية. 2 - تجنب فيلم «»الرسالة»« الخوض في العلاقة بين الأديان بشكل مباشر (باستثناء صورة الراهب الكلداني، المسيحي من بابل، وهويقدم بعض العنب للنبي محمد (ص) وهو مطارد في (يثرب)، ويشير فيلم »»مملكة السماء» إلى ضرورة التفكير في جعل الأماكن المقدسة، خاصة القدس، للجميع، أو حتى جعل الدين، أي دين، »دينا« وكفى، خارج الحسابات الضيقة وخارج مدارات تصور العالم المادي الذي يتطلب مزيدا من التساكن والتعايش والحوار بين الاديان السماوية وبينها وبين الأديان غير السماوية، انطلاقا من أرضية مساحة أن الله واحد والإنسان متعدد، أو عكس ذلك، الله متعدد، حسب الأديان، والإنسان واحد، أو كلاهما متعدد وكلاهما واحد، في الآن نفسه، كما هو العالم متعدد وواحد، وكما هي الحضارات والثقافات والعقليات، دون أن ننسى الشعوب والقناعات والمذاهب، وما علينا أن نحاربه ونتصدى له هو التشدد والتطرف والأصولية باسم هذا الدين أو ذاك، باسم هذا المذهب أو ذك، ولنا في التاريخ المعاصر، وكذلك الحديث والقديم شواهد وشهادات لا حد لها و كلها حصار وقتل ومحاسبة وتكفير وصلب واغتيال، وكلها أيضاعذاب وخوف ورعب وروع وألم وتيه، كما نقرأ في المقطع الذي مهدنا به. تصف هذا الأساطير والملاحم والكتب المقدسة والتراجيديات المسرحية، وتصفه الرواية ويصفه الفيلم المطول والوثائقي والتسجيلي. ومع ذلك، يستمر الحكي، تستمر الحكاية، تبدأ من الصفر في غزة، بل تستقر الحكاية وتتجاوز متخيلها، تجعل المتخيل واقعا لا غبار عليه فطريا، لأنه هو، هو هو، هو دائما كما عودتنا اسرائيل وهي تقتل، وهي تدمر، لأنها إن لم تفعل ذلك لا يمكن أن تكون، لا يمكن أن يكون لها معنى، معنى اسرائيل هو أن تقتل أطفال فلسطين، أبناء فلسطين، معنى اسرائيل هو لا معنى فلسطين، هذه هي بلاغة الوجود الذي تريده اسرائيل من أجل النيكتار، القتل يسترسل والدم يسيل كما يسيل في سورياوالعراق من أجل نيكتار آخر، نيكتار أقل جودة وثمنا في سوق حمراء، السوق السوداء لم تعد تدر الدخل الموعود، وحدها سوق الدم وسوق أجساد الأطفال والرضع، في غزةوفلسطين، تتصدران البورصة، في أوج العولمة، في أوج عولمة يؤثثه وهم حداثة عابرة، ظرفية بالأحرى، هجينة في تفاصيلها و هي تتحول الى كاهنة في معابد وهياكل الرأسمالية الشمطاء، شعارها كن كما نريد، لا تكن كما تريد. 3 - »نحن ننتج وأنت تستهلك، استهلك فقط، لاتفكر، نحن نفكر لك ومن أجلك، استهلك واستهلك واستهلك، لا تتوقف عن الاستهلاك، استهلك الدم ولا تقرب النيكتار، استهلاك السيارات واليخوت وناطحات السحاب والعطور والبذل والثياب والأقمشة والساعات الذهبية والأساور والحلي والسجائر والنساء والأكلات الجاهزة وصور أطفال ونساء وشيوخ وعجزة ومرضى غزة في القنوات الفضائية، استهلك ونم قرير العين، نحن نحميك، نحن حاضرون معك، حاضرون حولك، نأتي إليك متى تشاء، أنى تشاء، حيث تشاء، لا يهم ما دمت تدفع لنا، نحن نعرف كرمك الحاتمي، كن مثلنا في الظاهر، لا تكن مثلنا في الباطن، لنا النيكتار ولك الدم، نحن «ديموقراطيون»، تلك تعويذتنا وتميمتنا، »»لا لا خميسة»، وأنت لا تحب الديموقراطية، لأنها »»لهو»، الديموقراطية لا تليق بك وبمقامك السامي، أنت أكبر من الديموقراطية، أنت أكبر من الاشتراكية، لأنهما »»لغو»، أنت أكبر من العلمانية ومن العقلانية، لأنهما لغو، خذ لك قليلا من الحداثة الشكلية، فهي تكفيك في لباسك وأثاثك وآلات فرجتك ولهوك ومتعتك السمعية والبصرية لتختلس ما يسرك ويبهجك ويغنيك عما يحيط بك من بؤس بني جلدتك، الحداثة العقلية لا تعنيك، أنت لا تستطيع أن تكون مثلنا، لأنك صدأ التاريخ وغبار الجغرافيا ،ونحن مثل الزئبق، هي ذي شريعتنا، النيكتار لنا ولك الدم، الدم السخي، دمك ودم هابيل ويوسف وشيماء و كل الدم العربي، نم، إذن، نم قرير العين، خرائطك في جيوبنا وصناديقنا، في الحفظ والصون. ألم يقل أوفيد»والآن أيها الشرق القصي ستكون لنا؟«« يستحيل أن نتخلى عنك، نحن لا نتخلى عنك أبدا، منذ القديم، دينك لا يهمنا، لا تهمنا سنتك ولا شيعتك، سنتركهما تتهارشان، لا تهمنا الاديان ولا المذاهب ولا الحركات ولا المنظمات ولا الأحزاب ولا النقابات ولا الجماعات إلا في حدود ما يوفر ذلك النيكتار، لا يهمنا «الربيع«« ولا الصيف ولا الشتاء، الخريف هو الأفضل لنا ولكم، هو الأقراص والترياق، هو البلسم ضد سم الهوية والوطن والعقل والمعرفة والحرية، لا تهمنا الأديان ولا الأوطان، لا يهمنا الإنسان، لا يهمنا (سارتر) ولا (ماركيوز)، لا تهمنا مبادئ أوروبا العجوز، لا يهمنا عصر الأنوار، ولا (روسو) ولا (مونتسكيو)، وبقدر ما تتراجع أنت إلى الخلف، نتقدم نحن، نتقدم ونتفرج، نراهن على التراجيديا وعلى الكوميديا وعلى الفارس، نراهن علي (أخيل) و(باريس) وأوليس) و(أوديب)، ونترك لكم (تيرزياس)، نترك لكم (إليكترا) و(ايفيجينا) و(جوكاستا)، نترك لكم (هيلين) نترك لكم (بينيلوپ)، نترك لكم (هند) و(تماضر بنت عمر وبن الشديد) أيضا، نتركهما للعويل والبكاء والرثاء. نراهن على (سيف) وعلى (عنترة): ألا يكفي هذا احتراما لكم؟ ألا يكفي (عمرو بن كلثوم) ألا يكفيكم هذا التوازن الخلاق؟أنت لا تستحق (هامليت) مثلنا، أنت تستحق (غودو)، (غودو)، أفضل لك، لأنه يغنيك عن كل ما يزعجك ويسوءك ويدور بخلدك، ألا تكفيك هذه الأريحية؟ ألا تدرس الإيثار لابنائك وحفدتك وشهدائك وهم يتعلمون التنازل عن شربة ماء إلى أن يموتوا كلهم وحامل الماء يهرول بينهم؟ أليس هذا هو النبل بعينه؟ إنه النبل في أقصى مداه، أنت من ارومة نبيلة، وإسرائيل قمة النبل، لا يهمك ما تقوم به اسرائيل، اسرائيل قمة النبل والشهامة والعفة، لأنها مثلنا، كذلك أنت نبيل عندما تتخلص مما يفسد عليك حياتك ويجعلك تتبع الطريق السوي، طريق تجنب ما يعود عليك بالخسران، هذا هو طريق النبل والاستقامة وطلب الصفح والغفران في تخليص العالم مما ينغص شريعتنا وشريعتك على الأرض، لا تنظر إلى جثث القتلى والموتى، لا تنظر إلى الجرحى والأيتام والثكالي، لا يهمك شأن الأطفال والعذارى والنساء والعجزة والمرضى والفقراء والمحرومين، نحن نسير معا، أنت ونحن، على نفس الوتيرة والنهج والإيقاع وعلى نفس الهدي، في العراق وفي سورياوفلسطين، نحن لا يهمنا الشهداء، لا يهمنا الاستشهاد، لابد من الخراب ليولد العالم من جديد، من جديد دائما وأبدا، وأنت تؤمن بخرافة العنقاء، ألم تقرأ عن (طروادة)؟ هل تجهل (البسوس) و(داحس والغبراء)؟ يهمك أن تتغنى ب (حطين) و(القادسية) و(الزلاقة) وتنتقد (الهند الصينية) و(الفيتنام)! ألا تشبهنا؟ من أشعل حرب الخليج؟. 4 -نحن لم نأت لنحاسبك بل لتعترف بأنك لا تختلف عنا ،لكنك تنسى، تتناسى،تفتعل النسيان،بينما نحن نتذكر ما فعلت منذ الأزل، منذ البداية، نتذكر ما اقترفت ضد نفسك، ضد عشيرتك، لا تخف، كن مثلنا فقط، كن مثلنا الآن وفي ما سيأتي، لأننا لن نتركك وحدك، تعودت أن تخوض حروبا وحروبا بلاجدوى، أو نخوضها عنك بالوكالة، هكذا تتوهم دائما، الآن، حان دورك، وإلا انسحب ودعنا نخوض حروبنا مع من هم أقرب منك إلينا، حروبهم هم أيضا »مقدسة« بل يعتقدونها مقدسة أكثر من حروبنا، أنت مدعاة للشفقة والسخرية، أنت ومن أطلقت لهم العنان فخرجوا من القمقم، أنت مهدت لهم الطريق وسهلت لهم المأموية. نم قرير العين وانس فلسطين، انس نفسك وحدودك وأوطانك، بل ادخل سوق رأسك واترك سوق الدم والنيكتار لأهله الذين لا زمن ولا تاريخ ولا جغرافيا لهم، تمتع بما ترى ونحن نحرسك ونرعاك إلى حين مادمت تدفع وزاهدا في ما تملك، لأنك تملك ما لا تملك ولا تملك ما يلزم أن تملك، لا تملك العقل، لكننا نحرسك ونرعاك في سباتك الخالد ونرعاك في صحوك المباغت لنخفف من لوعتك وخوفك وكوابسي. فلسطين شدة وتزول، وأنت بنفسك ترغب في تطويعها، لماذا، إذن، تدعي الوجع والألم والسقم. لماذا أنت ذو وجهين إن لم تكن متعدد الوجوه، أو ذو وجه واحد تغير الأقنعة؟ تاريخك الحافل يكشف عن هذا الساندروم الذي لا يفارقك، الذهان الذي ينخر دواخلك، كأنك أوديب الذي يؤجل مأساته، ولعله السبب في ما يتوالى عليك من ويلات ونكبات ونكسات وأزمات وهزات وفجائع وانكسارات وكبوات، هذا هو معجمك منذ قتل (الفاروق) معجمك ومعجم أجدادك. بينما هي ورطات تتشبث بها لتبرير هزائمك، هذه حقيقة لا يمكن أن تنكرها، فقد طاردت المثقفين والمبدعين أنت وعشائرك، أقلقت راحة العلماء، نكلت بنخب بلدك وسجنت المناضلين وحرمت النساء من حقوقهن واستفردت بالمال والسلطة والعيش الرغيد. أنت لا تحسن التصرف، تسر أكثر مما تعلن وتعلن أكثر مما تسر، عاطفيا و سياسيا، تدعي أخلاقيات أنت بعيد عنها كل البعد، تنتقى لك من بطون الكتب والمجلدات بينما أنت غارق في الإثم والرذيلة وفساد الخلق والطوية، تأسرك الشهوة والغواية، وما بين سرك وعلانيتك تكون هلكت وأهلكت ما حولك ومن معك من المجندين لحمايتك، تكون نسفت ما تقف عليه ويشد أزرك، تكشف عن أوراقك بسرعة، تذكي الحزازات وتشعل الحروب وتكون أسبق إلى التذمر والشكوى، يالك من مخادع يا (شهريار)! أليس هذا هو جدك الأكبر الذي سن اغتصاب الصبايا الأبكار العذارى؟ نم قرير العين واخلد الي الراحة، فأنت متعب منذ زمن قديم يا (شهريار). يروق لك أن أسميك (شهريار؟ أليس كذلك؟ أنت فعلا (شهريار)، وتعلق في غرف نومك ومخادعك وحماماتك ومكاتبك صور (الحجاج) تزعم أنك متزهد في الدنيا و قريب من المتصوفة، تبكي (أباذر الغفاري)، تنحب عندما تشاهد »الرسالة« و»القعقاع« و»عمر»، لكن »حريم السلطان» يعيدك الى ا لوهم وتنسى كل شيء حولك، نحن نعرفك جيدا ونعرف ما يدور في ذهنك ويخطر ببال، نعرف ازدواجيتك ومضاعيفك، فنخطط لك حياتك في الدنيا، أما الآخرة فنتركها للقادمين إليك ليسكنوكها على هدي من «كتاب التوهم»،« أولائك الذين سيتكلفون ببعض ما تلقيته، أبا عن جد، وتبقى ما تبقى لك، ماحك جلدك مثل ظفرك،« أليس هذا ما تردده؟ كن ما تريد، لكن لا تلعب على الحبلين، تريد نعم الدنيا ونعم الآخرة، وتنسى أنك لا تستحقها، لأنك صدأ التاريخ وغبار الجغرافيا، شأنك شأن القادمين بدورهم لإتلاف الروح وغصب النفس ودق القلب ونسف العقل وصلب الجسد ومزج الحرية بالدم، هذا هو تاريخك وتاريخهم المجيد، أنت بشرت بمجيئهم، وأنت من تطلق ألسنتهم وأيديهم، وأنت من يوزع عليهم الألبسة والعطايا والأسلاب، وانت من يفرش لهم الطريق لوأد الحياة و البهجة والفرح البسيط. ألا تسأل: من نحن ومن نكون؟ نحن كثيرون في واحد، واحد في كثيرين، ألا تكرر هذا الكلام، مع شعرائك ومطرباتك، في كل مناسبة وبدون مناسبة؟ لك فلسطينك ولنا إسرائيلنا، لك فلسطين التي تخونها مع كل صفقة ولنا اسرائيلنا «ام الولد»،نحن نقدرها حسب المقام ولا نرهنها حسب المقام حتى لا يفسد ديننا، طعامنا وشرابنا، حتى لا نفقد ماء الوجه ونخسر بيعنا وشراءنا في سوق النيكتار والدم ياسليل الهباء والإفلاس والعجز. أنت (شهريار) متدثر بعباءة (أبي جهل) وعمامة (مسيلمة)، أنت ككل الذين يريدون استعادة (الأندلس) ويوهمون صغار العقول بغزو (روما) واحتلال (الفاتيكان). إلى أين يقودك هذا الساندروم وهذا الذهان؟ لست (أغممنون) ولا دخل في أي حرب مضت وأخرى ستأتي. أنت مجرد »عطيل) عاطل، شريد وتائه، لا يكفيك كل مال الدنيا لاستعادة ماضاع منك. (هيلين)، (ديدمونة)، (البسوس)، (الخنساء) مجرد نساء عابرات في الذاكرة، و أنت لا ذاكرة لك غن ما شئت» »أخي جاوز الظالمون المدى«« أو «»الأرض بتتكلم عربي»» أو «»بترول العرب للعرب«« غن »»سنرجع يوما إلى حيفا«« «و»الغضب الساطع آت««، غن «»أراك عصي الدمع««، غن ما تشاء يا شهريار) في عزلتك، الحرب ليست مهنتك، الصراع ليس قرارك والسياسة بحور ومحيطات وخلجان تترصدك، أنت فيها عالق في جزيرة مهجورة ليتك كنت فيها (حيا بن يقظان) لتتعلم وتسلم، حيل (السندباد) ومراوغاته لا تكفي، شجاعة (بن منقد) غير صالحة، أنت وحدك الآن، طلقت العقل وعبدت المال والمتعة، كأنك في كازينو، نسيت أهلك ونسيت (فلسطين)، وغيرك من القادمين على صهوات جياد من نسل (روثينانتي)، فرس «دون كيخوطي»، يحلمون باستعادة (الأندلس)، بعودة (صقر قريش). ما علاقة الريح بالعاصفة والرمل بالماء والدم بالنيكتار؟ ملاءتك حتفك، شقاوتك حرفك، ربيعك خوفك، سرابك طيفك. نم قرير العين أو لا تنم، ودعنا وشأننا ندبر متاهة الخلعاء. أنت انتهيت ونحن لا ننتهي إلا لنبدأ. كويلو) يتوهم، وكذلك (جبران) يتوهم، مثلك تماما، وبين الوهم والحقيقة تولد المتاهة. (فلسطين) متاهة، الشرق متاهة، الغرب متاهة، التاريخ متاهة، الجغرافيا متاهة، السياسة متاهة، العقل متاهة، الحياة متاهة، الموت متاهة، الهوية متاهة، الحب متاهة، الجحيم متاهة، الجنة متاهة، الدين متاهة، كان الله في عونك يا سليل المتاهات التي تنصبها لنفسك ولا تعرف كيف العبور منها سالما أو بأقل الأضرار. الرباط: 2014/08/07 هامش صغير: يكتب جبران خليل جبران: «ليس رداء ما أنزعه عني، بل جلد أمزقه بيدي». (النبي، تر: يوسف الخال، دار النهار للنشر، بيروت 1981، ص: 11)