عن روايةٍ للكاتِب الأسترالي ماركوس زوساك أخرجَ بريان بيرسيفال فيلم «سارقة الكتب»، الرواية التي صدرت عام 2007، وأصبحت من أكثر الروايات مبيعاً، تنطلق أساساً، شأنُها في ذلك شأن الفيلم المقتبس منها، مِن فكرة نقل صُورة مصغّرة للقرّاء/المشاهدين عمّا كان يحدُث في ألمانيا النازية في ثلاثينيات القرن الماضي، قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. الفيلم يبدأُ بصوت الموت (قام بالتعليق الصوتي روجر ألام) وهو يروِي الأحداث من منظُوره، حيثُ الزمن الكالح في ألمانيا، النازية تتسلل إلى الساحة ويملأ الفضاء الخوف والصمت، آن ذلك يأتي الموت ليحتل الصدارة، فهو الحاضِرُ أبداً. نرى في المشاهد الأولى الطّفلة ليزل (قامت بدورها الممثلة الكندية صوفي نيليس) وهي في القطار مع أمها وأخيها الصغير، لتكتشف الأم أثناءَ الرحلة موتَ صغيرِها، وفي دفنِ أخيها، تقوم ليزيل بإخفاء كتاب وقع من يد أحدهم وتحتفظ به. بعدها تتوقّف سيارة تقلّها إلى قرية أخرى حيث تجد بانتظارها هانس (جيفوري رش) وروزا (إيميلي واتسون) وقد كانوا بانتظار الأخ وأخته لتبنّيهم. تعترِض روزا بأنّ التبنّي كانَ مشروطاً للاثنين، وتتردّد في المضي قدماً في موضوع التبنّي، لكنّ زوجها هانس ينجَحُ في كسبِ ودّ ليزل منذ لحظات اللقاء الأولى، فتقبلُ روزا صاغرةً بتبنّي البنت فقط. في البداية تبدُو روزا باردة وقاسية ولكنّنا تدريجيّاً نفهمُ أنّها طيّبة جداً ولكنّها تُحِبّ أن تُبدي هذا الوجه من الصرامة وقد أدّت (واتسون) هذا الدور باقتدارٍ كبير. بمرُور الأيّام، تذهبُ ليزل للمدرسة فيضحكُ عليها التلاميذ لأنّها لا تعرف القراءة، لكن أبوها بالتبنّي يُعلّمها القراءة بصبرٍ وأناة، فتتعلق ليزل بالكتبِ بشكلٍ غريب، الشيء الذي قاد إلى حزنِها الشّديد على حرق الكتب العلني من قبل النازيين وترديدهم للأناشيد في مشهد مرعب، ثُم تعتريها مشاعِرُ الغضب من النظام وكره هتلر تحديداً بعد أن تعرِف أنّها قد لا ترى أمّها في يوم من الأيام لأنها شيوعية وتُعدّ من أعداء النظام، وتعيش ليزل حالة الخوفِ والقلق بشكلٍ أكبَر بعد أن يلجأ ابن صديق والدها بالتبنّي إليهم خوفاً من القبض عليه وإرساله إلى معسكرات الاعتقال، ولكنّ صداقة ابن الجيران رودي (نيكو ليرش)، بالإضافة إلى إدمانها المتواصل على القراءة، عاملان سيساهمان في تبديد وحشة الحرب والغربة في ظلّ الحكم النازي الجائِر. تبدأُ الحملات الهتليرية للقبض على أيّ يهُودي، وتهديد أيّ عائلة تحمِي جيرانها اليهود/القردة كما كانت تصِفُهم الحملات التفتيشية. بدخُول فردٍ جديد إلى حياة ليزل (الشاب ماكس) تدركُ أنّها ليست الوحيدة في العالم التي فقدت والدتها بسبب هتلر، فها هو ماكس اليهودي الألماني فَقَدَ والدته أيضاً بسبب هتلر، وتبني علاقة معه أسَاسُها الكُتب التي بدأت بقراءتها، واستعارتها على حدّ قولها، في قصر زوجة الضابط الألماني السامي، معَ إصرار والديها على أنّ وُجود ماكس هو السرّ الذي لا يجبُ أن يخرج من بين جدران المنزل. يعي ماكس أن لدى ليزل موهبة خاصة أساسُها النهم في قراءة الكتب، فيحثّها كلّ يوم على وصف حالة الطقس بطريقتها، فيبدأ ماكس في تخيل المشهد، وهكذا، إلى أن يمرض ويُصَاب بالحمّى، وبسبب هذا المرض الذي طال وخوفاً من فكرةِ الفُقدان مرّة أخرى، تضطرّ ليزل إلى سرقة الكتب من القصر، وإعادتها فور انتهاء قراءتها، كي تقرأها لماكس، وهذا الشغف ستُمارِسه أيضاً في الملاجئ حيث تتكدّس أكوام من المواطنين المختبئين من جحيم الحرب المشتعلة، فأصبح كلّ اللاجئين ينتظرُون قصص ليزل التي استطاعت أن تحدّ من طغيان الموت والخوف ولو إلى حين. تستمرّ الأحداث الكثيرة في الفيلم ليس تركيزاً على الحرب بل على حياة من يعيش الحرب، فقد بدأت القوات النازية تفقد قوّتها، واشتد الموت والقتل، وغادر ماكس المنزل خوفاً على حياة عائلة هانس، وأهدَى ليزل كتاباً لازالت أوراقه بيضاء، بعد أن أزال صور هتلر منه، وطلب منها الكتابة ورصد كلّ شيء. تصابُ ليزل بالخيبة، فتحاول التأقلم مع الموت والرحيل بسرقة الكتب أكثر وقراءتها، وتتخيّل النهايات إذا لم تنهِ الكتاب، لكن الموت يعود مرة أخرى في المشاهد الأخيرة من الفيلم، فقد قرّر أن يقبض على أرواح هانس وروسا ورودي وعائلته، وجعل ليزل تعيشُ، مرة أخرى، وحيدةً بينَ رُكام المنازل المهدّمة فوق رؤوس أصحابها، لتنتهي الحكاية بمشهد ماكس وهو عائدٌ إلى ألمانيا، بعد سيطرة القوات الأمريكية، لتستقبلهُ ليزل التي صارت شابة تعملُ في محل والد رودي الذي كان سابقاً في الحرب، ويستمرّ صوت الراوي ليؤكّد أن ليزل استمرت علاقة صداقتها مع ماكس، وعاشت حياةً مملوءةً بكتابةِ القصص، وتزوّجت وأصبحت جدة وتوفيت وهي تبلغ من العمر 90 عاماً. إنّنا أمام فيلم يأتِي مناقضاً للأفلام التقليدية الشائعة عن الموضوع نفسه، فالألمان الذين نشاهدهُم هنا (ومعظمهم من الطبقة العاملة) هم ضحايا للنازية وليسوا مشاركين في جرائمها، كما أنّ اليهودي هنا جزءٌ من حالة الاضطهاد العام التي كانت تنال أيضاً من المعارضين، فوالدة ليزل، في إشارات كثيرة بالفيلم، كانت شيوعية، وصديق ليزل «رودي» الألماني الأشقر، يميلُ مثلها إلى القراءة والتطلع إلى العالم من منظور أحلامه الخاصّة، ويرفُض أن يلتحق بزميله الآخر الذي يُبدي تعصّباً للنازية. رودي سيلقى حتفهُ في النهاية ليصبح ضحية تورّط النازيين في حرب لم يكن لأمثال رودي شأنٌ فيها ولا موقفٌ منها. والفيلم يقول أيضا بوضوح، أنّه كان هناك الكثير من الألمان العاديين، الذين ساعدُوا اليهود وأخفوهم بعيداً عن السلطات النازية، ولم يكن الألمان جميعاً، ضالعين في مؤامرة «الإبادة الجماعية»، أو متستّرين عليها، بل كان هناك من يعترض ويحتج ويدفع حياته ثمناً لموقفه كما فعلت والدة ليزل مثلاً. وبوجه عام يمكنُ القول إنّ الفيلم نجح في تقديم صورة جديدة لتلك الفترة المُظلِمة التي عُولجت من قبل في الكثير من الأفلام بصورة نمطية تلحّ على تكرار الفكرة نفسها، دون مراجعة محايدة، كما أنّه من جوانب قوة الفيلم الأداء الجيد للمُمثلين وخاصة من الكندية نيلس والصبي ليرش والرائعين إيملي واتسون وجيفوري رش، إضافة إلى الصورة الخلاّبة والمونتاج الجيد والموسيقى الساحرة.