إذا كنت تشاهد فيلماً به أدمغة منفجرة، ودماء في كل مكان، وأشلاء متناثرة في الهواء، وأشخاص يقتلون بوحشية لأتفه الأسباب، وانفجارات لا تبقى معها كرامة لبطل، ورغم هذا تبقى عيناك تركزان على أحداث الفيلم؛ فأهلاً بك إذاً في سينما كوينتين ترانتينو، سيد العنف في السينما الأمريكية يجرؤ المخرج والممثل والمنتج الأمريكي كوينتين تارانتينو على فعل كل شيء، وعلى تجريب اللامتوقع، وهذا هو ما يميزه في المقام الأول. إنه مخرج «سنيفيل» التهم كيلومترات من الأفلام، وكل أفلامه مليئة بالإحالات والمرجعيات وتكريم الأبطال والشخصيات والمخرجين الذين أعجب بهم، هو الذي كان يعمل في متجر للفيديو. فأسلوبه فريد من نوعه، وهو مدرك لهذا المنحى الذي اختاره عن عمد، ذلك أنه يحب «السينما التي لم يعتد عليها الجمهور». أبطال تارانتيو يشبهونه كثيرا: مجانين ومبتذلون وفكاهيون وقذرون ولا متوقعون، إلى درجة أنه أصبح مرجعا لسينما تحمل بصمته وحده، لأنه يجعل الخط الدرامي يتصاعد في اتجاه لا يتوقعه أحد، وتحديدا في اتجاه العنف الممتع، والمحاكاة الساخرة. فلماذا اختار تارانتيون هذا المنحى للتوقيع على سينما ممتعة ومسلية ومختلفة ومثيرة للجدل؟ يرد ترانتينو في تقرير لصحيفة «ذي أتلانتيك»، قائلاً إنها «متعة حقيقية أحاول تقديمها للمشاهد من خلال العنف»، مُضيفاً: «لا يعنيني اهتمام النقاد بالعنف الذي يظهر على الشاشة بقدر ما يعنيني عدم الاهتمام بالعنف في الحياة الواقعية». وفي حديث آخر يقول: «كمثال: أنت تتعشى في مطعم، وفجأة ترى رجلاً يضرب زوجته أمام الجميع. بطبيعة الأمر ستحاول تجاهل ما حدث رغم تأثرك بالواقعة، ولكن ما يهمني هنا هو نقل هذا التأثير للشاشة، ومحاولة رصد الأحداث التي تنتج عن هذا الفعل بعد ذلك». فإذا كنت تشاهد فيلماً به أدمغة منفجرة، ودماء في كل مكان، وأشلاء متناثرة في الهواء، وأشخاص يقتلون بوحشية لأتفه الأسباب، وانفجارات لا تبقى معها كرامة لبطل، ورغم هذا تبقى عيناك تركزان على أحداث الفيلم؛ فأهلاً بك إذاً في سينما كوينتين ترانتينو، سيد العنف في السينما الأميركية. وقد ولد ترانتينو في أمريكا، وكان الطفل الوحيد للمنتج الموسيقي طوني ترانتينو، الذي هجر والدته ذات الأصول الأيرلندية قبل ميلاده. و كانت جدته تصطحبه إلى حفلات السينما في طفولته، ومن هناك بدأ ولعه بسينما «جون واين» وأفلام الغرب الأميركي. ولم يكن ترانتينو يحب الدراسة رغم تفوقه في مادة التاريخ، التي كان يراها «نوعاً ما كفيلم» على حد وصفه، إذ انصب كل اهتمامه على متابعة كل ما تقع عليه عيناه من أفلام، وهذا ما يظهر بوضوح من تأثره بمشاهد بعينها منقولة من أفلام عالمية. في المرحلة الثانوية ترك ترانتينو المدرسة، والتحق بالعمل في إحدى صالات عرض الأفلام الإباحية، واستخدم راتبه لتلقي دروسٍ في التمثيل، حتى عمل أخيراً في إحدى أندية الفيديو في مانهاتن بنيويورك، وبدأ حينها ولعه بكتابة السيناريو. وبعد اشتراكه في عددٍ من الأفلام الشهيرة، عرض ترانتينو سيناريو فيلمه «Reservoir dogs» على الممثل الشهير هارفي كيتل، الذي أثنى على السيناريو قائلاً: «لم أرَ شخصيات كهذه منذ سنوات». وبعد أن ذاع صيته كمخرج وسيناريست، قدّم ترانتينو تحفته الخالدة (Pulp fiction) التي غيَّرت الموازين السائدة حينها لأفلام الجريمة والمغامرة، وقد حاز الفيلم جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو. وجاء الفيلم أعلى من سابقه في حجم العنف والقتل والسُّباب، وترك المتفرج رهينة سؤال بلا إجابة عن محتويات حقيبة «مارسيلوس والاس» بطل الفيلم! بعدها أخرج ترانتينو فيلمه المثير للجدل KILL BILL، وكان الهدف الأساسي أن يخرج الفيلم طويلاً، ولكنه تراجع عن الفكرة وقسمه إلى فيلمين، يفصل بين ميعاد عرضهما عام واحد. نجح الفيلم نجاحاً باهراً، وقدّم طابعاً جديداً لأفلام تمتزج فيها واقعية أفلام الانتقام بخيال القصص المصورة. ثم جاء فيلم Inglourious Basterds الذي حاول في ترانتينو تغيير التاريخ نفسه، حيث افترض رواية أخرى لنجاح عملية اغتيال هتلر. وقد نال هذا الفيلم جائزة الأوسكار عن أحسن تمثيل، نالها الممثل Christoph Waltz الذي كان هذا أول دور احترافي له، فيما حظي ترانتينو بإعجاب الجميع إثر تقديمه لكريستوف فالتز للجمهور، إذ جاء أداؤه مبهراً للجميع، الأمر الذي جعله يدافع عن العنف المبالغ فيه في الفيلم قائلاً: «دماء أفلام ترانتينو حمراء أكثر من الواقع». بعدها قدم ترانتينو للجمهور فيلم Django Unchaine. وهو فيلم آخر حاول فيه ترانتينو تقديم رواية أخرى «لأميركا زمن العبيد»، حيث يتعاون عبدٌ فارّ مع صائد جوائز لتحرير زوجته وإنهاء فكرة العبودية. نال الفيلم جائزتي أوسكار عن أفضل سيناريو، وأفضل ممثل، حازها كريستوف وولتز في ثاني ظهورٍ له مع ترانتينو. الحاقدون الثانية ويثير ترانتينو، من فيلم إلى آخر، الكثير من الجدل، حيث يتوقع المهتمون الكثير من المغامرة و»الأكشن»، أو حتى في الكوميديا المعتمدة على «البارودي» (المحاكاة بمبالغة ساخرة). وهو ما ينتبه إليه الناقد أحمد الليثي تعليقا على فيلم «الحاقدون الثمانية» أو كما يترجمه الليثي «الثمانية المكروهون». يبدأ الليثي بقوله: «اسم اللعبة هنا.. هو الصبر» جملة عابرة وسط فيلم طويل، جاءت في الدقيقة الثالثة بعد الساعة الثانية من بداية الأحداث، ربما كانت الأنسب لوصف العمل الذي بدء رتيبا حتى أضحي مُبهرا قرب منتصفه، تعم مشاهده الأولى ثلوج كثيفة وإيقاع بطئ، ثم يصبح الدم وفوران الأعصاب سيد الموقف، يشرح ويُشرح ترانتينو شخصيات الأبطال على مهل خلال 80 دقيقة، وكأنه قد صك عقدا مع مريديه، فعلم أنهم على الموعد لإطلاق الصافرة لمباراة تمثيلية في فيلم «الثمانية المكروهون»، وإن تأخرت كثيرا. وسط عاصفة ثلجية يقف ماركيوس –صمويل إل جاكسون- رائد سابق بالخيالة الأمريكية بعدما تعثر جواده، يستوقف عربة مرت للتو بتمثال خشبي للمسيح وهو مصلوب، يستقلها جون روث –كيت راسل- صائد مكافأت –يحضر الفاسدين والمطلوبين للعدالة مقابل مكافأة مالية- بحوزته أسيرته ديزي ديمارجو –جينفر جيسون لي، يرافقهما ماركيوس الذي يحمل 4 جثث لمطلوبين للعدالة وكذا خطابا شخصيا من إبراهام لينكولن رئيس الولاياتالمتحدة، قبل أن يلحق بهم المأمور القادم للبلدة المتوجهين نحوها ريد روك. 40 دقيقة مرت دون حدث يجري على الأرض، تخللها موسيقى تصويرية هي الأقوى تأثيرا صنعها إينيو موريكون بإتقان وملابس مقنعة لكورتني هوفمان. المحطة التالية كانت داخل متجر للخردوات، كاستراحة دائمة يعرفها سائق الجياد، غير أن صاحبتها غابت عن المكان وتركته لآخر حتى تعود، حسب روايته، بالداخل اجتمع الشمل، جنرال سابق في جيش الولايات الجنوبية –الداعية للانفصال واستمرار الرق- وقت الحرب الأهلية، وعامل مشنقة ورفيق ثالث من رعاة البقر، انضم لهم القادمون صوب ريد روك. رغم أن الفيلم ليس ملحميا ولا يعتمد على مناظر خلابة فقد خرج بشريط سينمائي 70 ملم، وكعادة ترانتينو؛ لا يتكلف في إظهار إمكاناته، فلا أماكن مفتعلة للتصوير ولا بهرجة أوحركة كاميرا في غير موضعها، فقط ينتقل مدير التصوير روبرت ريتشاردسون بسلاسة، فقد اقتصرت المشاهد على تلك الاستراحة/ محل للخردوات كأرض للصراع. مع منتصف الفيلم المقسم ل5 فصول، تظهر أولى ملامح الحقد لأولئك الثمانية، حين يسخر المأمور المنتظر –والتون جوجيز- من صائد المكافأت الذي صدق في أن يحمل زنجيا رسالة من رئيس الولاياتالمتحدة، فآذن له بمرافقته، وفي حوار ثري يقول ماركيوس «هل أذيت مشاعرك.. أعلم أني الزنجي الوغد الوحيد الذي قابلته، ولكن هل لديك فكرة أن تكون زنجيا؛ ألا تكون آمنا إلا حين يكون الأبيض أعزل، أو أن تكون هذه الرسالة فعالة بنزع سلاح البيض». تسريب السيناريو الخاص بالفيلم في أوائل عام 2014 كاد أن يلغي المشروع التالي لترانتينو بعد «جانجو»، فيما قرر الكاتب والمخرج الكبير أن يدخل تصوير العمل في نهاية العام ذاته بتكلفة إنتاج وصلت 62 مليون دولار، وظهرت منه نسخ على الانترنت قبل أن يعرض رسميا في ديسمبر 2015، وسط إعجاب النقاد، وإيرادات تخطت 53 مليون ولار حتى منتصف فبراير الجاري. في مشهد تالٍ يتقدم الزنجي نحو الجنرال يذكره بأنه حارب في الشمال لتحرير العبيد بينما كان هو يقود جبهات الجنوب لاستمرار الرق، يحاربه نفسيا، يحدثه عن ولده الذي فقده ولا يعرف أين محله، فيخبره أنه مات في اليوم الذي التقاه فيه، حين قرر «وهو الأبيض أن ينزع حياة زنجي مقابل 5 آلاف دولار»، وهنا تجعل الموسيقى الحدث في أوجه، وظف المخرج الموسيقى في المشاهد دون ابتذال أو إسراف، حين يعزف عامل المتجر على بيانو تزامنا مع حوار الجنرال –بروس ديرن- والرائد –صامويل إل جاكسون، يخرج الأخير مسدس ويضعه جوار العسكري المتقاعد، وتدور رحى معركة تمثيلية. بدأ ماركيوس يحكي كيف انقلب الحال، متى توسل الابن للزنجي أن يتركه يرحل، وأين استجداه ألا يقتله، ولماذا باتت كل أحلامه «بطانية» تقيه الموت متجمدا في الجليد، وكيف أهانه جسديا، بينما تشير الكاميرا إلى الجنرال وهو يتآكل على مقعده، حتى يقبض الرجل على السلاح فيعاجله ماركيوس بالقتل، ويعم حديث عن شرعية ما جرى بأنه دفاع عن النفس. أداء صمويل إل جاكسون المبهر لم يكن محض صدفة، ففي إحدى اللقاءات الصحفية يحكي الأبطال عن تعامل ترانتينو بنفسه مع كل صغيرة وكبيرة، كيف يوجههم ويشاركهم قراءة النص في منزله، أما الممثل المخضرم -ذو ال67 ربيعا- صاحب الستة أعمال من أصل 8 للمخرج الكبير فيقول: «بعد 20 عاما وستة أفلام معا، كل ما يحتاجه جاكسون هو مكالمة هاتفية قصيرة». لا يؤمن ترانتينو بالتصاعد النمطي؛ فالفيلم المرشح لنيل 3 جوائز أوسكار –أفضل ممثلة مساعدة وأفضل تصوير وأفضل موسيقى، استمر 80 دقيقة بلا حراك، من بعدها باتت كل لحظة قادمة تحمل حدثا، قبل مقتل الجنرال ب40 ثانية كان أحدهم يسم القهوة، جاء ذلك على لسان الراوي، بينما تعزف الأسيرة «ديزي» على الجيتار ولكنه عزف على أوتار الموت، يضج المكان بالدماء، يفرغ صائد المكافأت ما في بطنه، وكذا سائق الجياد، ويرمي المأمور المنتظر قهوته فتمنعه من اللحاق بالقتيلين. «صانع النجوم» هو اللقب الملتصق ب»ترانتينو» ففي كل عمل يُخرج مخزون إبداعي لبطل جديد، في «الأوغاد المجهولون» و»جانجو» كشف وجها مغايرا ل»كريستوفر والتز»، وكان نصيبه محجوزا للمرة الثالثة على التوالي، فيما حصد الدور والتون جوجيز، ولم يخذله بل أدى بشكل مذهل وصنع إطارا محكما لشخصيته فتنسى معه الممثل وتعيش مع المأمور المنتظر ولكنته المميزة، وكذا جاء أداء جينفر جيسون لي –للأسيرة ديزي- ملفتا للغاية، لذا تنتظر أن تحوز جائزة أفضل ممثلة مساعدة في ترشيح يتصارع نحوه 5 ممثلات. تتعالى صيحات الحقد، ويبدو البقاء على قيد الحياة لأحدهم مصيره يحل بموت آخر، يقرر الزنجي ومأمور ريد روك استجواب البقية الباقية –الأسيرة وعامل المشنقة وصاحب المكان وراعي البقر، وبعد مرور ساعتين من الفيلم تبدو حبكة هيتشكوك جلية، ومن خلال «الفلاش باك» يظهر أن ساكنوا المكان لم يكونوا سوى جزء من عصابة يقودها شقيق الأسيرة «ديزي»، بعدما اغتالوا أصحاب المتجر، ويطل شقيق الأسيرة من أسفل المتجر قبل أن يلقى حتفه، ومن بعده رفاقه وكذا شقيقته، فيما بقي الزنجي والمأمور على قيد الحياة بجراح تئن بالدم. ويأتي القسم الأخير من الرواية/ الفيلم، المعنون ب»رجل أسود وجحيم أبيض» ملخصا لصراع أظهر فيه المخرج أبطاله جميعا كأوغاد لا تشعر تجاه أيهم بالتعاطف، في أعقاب مرحلة فقدت فيها أمريكا نحو 620 ألف جندي وعدد غير معلوم من المدنيين، غير أنه احتفى في المشهد الختامي بالمستقبل؛ حين انتصر الشرطي للعدالة وأخذ صف الزنجي على حساب صفقة مع البيض، قبل أن يخوض المأمور المنتظر في قراءة خطاب لينكولين لصديقه الزنجي –بيد غطتها الدماء- والذي جاء فيه «رجال مثلك سيصنعون الفارق، نجاحك العسكري يضيف قيمة ليس لك فقط ولكن لعرقك أيضا، لا زال لدينا شوط طويل لنقطعه.. ولكن يدا بيد». وفي السياق نفسه، يذهب الناقد عبد الرحيم سيد حين يعتبر تارانتينو في هذا الفيلم يستمر في كسر القواعد السينمائية ليخرج بذلك لسانه للجميع وأولهم أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة التي تمنح جوائز الأوسكار ويجعلنا جميعا نجلس قليلا (في هذا الفيلم نجلس طويلا، لأن مدته تقترب من الثلاث ساعات) لنشاهد ونفكر: لماذا لا يكسر صناع السينما الآخرين قواعدها مثلما يكسرها هذا المخرج الذي لا يريد أن يخرج من مرحلة الشباب والتهور رغم بلوغه 52 عاما؟ ويوضح عبد الرحيم السيد طريقة كسر القواعد في ما يلي: الجديد: أولا: في هذا الفيلم يعود تارانتينو بنا إلى حبكات ألفريد هتشكوك البسيطة وهو أمر تخطته السينما منذ عقود، وتميل الآن إلى تعقيد الحبكات خاصة في الأفلام ما بعد الحداثية التي عرضت بنهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين مثل أفلام The Usual Suspects لبراين سينجر وSe7en لديفيد فينشر وMemento لكريستوفر نولان.وبذلك فتارانتينو يقدم فيلما ذا حبكة هيتشكوكية/ حداثية ولكن بمضمون ما بعد حداثي. لا يهتم بالقضايا الحداثية التي كان يناقشها هيتشكوك في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ثانيا: الفيلم أيضا خليط من الأنواع؛ فهو فيلم إثارة وجريمة وغرب أمريكي ينهل من أفلامجون فورد Stagecoach وسيرجي ليون The Good, the Bad and the Uglyولكنه يجمع بين الجدية والسخرية التي يتسم بها المخرجان، وعلى الرغم من أنه فيلم ينتمي إلى الغرب الأمريكي إلا أننا لا نشهد أي معارك حقيقية في الفيلم. وكيف يمكننا أن نشهد أي معارك ونحن محبوسون مع أبطال الفيلم داخل استراحة على الطريق معزولة عن العالم بسبب عاصفة ثلجية جمدت حتى تمثال المسيح المصلوب المنتصب في اللا مكان. والأغرب هو أن أول رصاصة تخرج من مسدس أحد الأبطال لتودي بأحدهم قتيلا تأتي بعد أكثر من 100 دقيقة من بداية الفيلم والأكثر غرابة أن من يطلقها ليس برجل يحمل مسدسين على جنبيه أي ليس بكاوبوي (راعي بقر) بل – إذ صح هذا الوصف – كاوجيرل (راعيةبقر)! ثالثا: فاجأ تارانتينو الجميع بلا استثناء، وربما آثار سخطهم، حينما استخدم عدسة 70 ملليمتر (Ultra Panavision 70) في فيلم تدور 95% من أحداثه بداخل استراحة على الطريق – وكأنه فيلم تليفزيوني – وهو ما جعل استخدام العدسة لا ينطبق بتاتا على الاستخدام الأمثل والمعتاد لها. فهذه العدسة يتم استخدامها في الأفلام الملحمية مثلBen-Hur لويليام وايلر وThe Greatest Story Ever Told لجورج ستيفنزوThe Fall of the Roman Empire لآنطوني مان وأفلام الغرب الأمريكي مثل How the West Was Won لجون فورد وThe Hallelujah Trail لجون ستورجس حتى تبين كل التفاصيل وتبين رقعة أكبر من الطبيعة الخلابة بغرب الولاياتالمتحدة، أو المجاميع الكبيرة في الأفلام التي تتناول الحقبة الرومانية وأمريكا القرن الثامن عشر وهو ما خلا منه الفيلم. بل أن هذه العدسة كانت تستخدم في هذه الأفلام لتظهر للعالم مدى قوة الولاياتالمتحدة وما وصلت إليه من تكنولوجيا، ولكن تارانتينو في هذا الفيلم يبين حقيقة أخرى لأمريكا، حيث يسود العنف والعنصرية وعدم التسامح تاريخها في القرن التاسع عشر. رابعا: اختار تارانتينو أيضا في هذا الفيلم – بخلاف أغلب أفلام الغرب الأمريكي – أن تدور أحداث الفيلم أثناء فصل الشتاء حيث الجليد يصل إلى الركبة وهو أمر نادر لم نشهده في تاريخ السينما سوى في حفنة من الأفلام مثل فيلم McCabe & Mrs. Miller لروبرت ألتمان. خامسا: وأيضا وبخلاف أغلب أفلام الغرب الأمريكي نجد امرأة شريرة (ديزي دومرجو في دور متميز لجينيفر جيسون لي)، وهي شخصية رئيسية في الفيلم وتدور حولها كل أحداث الفيلم وهو غريب على أفلام الكاوبوي التي تعتمد على الرجل (خيرا أو شريرا) بينما تأتي النساء دائما في أدوار ثانوية ترفه عن البطل وتقف في ظله بخلاف أفلام جد قليلة للغاية مثل Forty Guns بطولة بربارا ستانويك وإخراج صامويل فولر و Johnny Guitar بطولة جوان كروفورد وإخراج نيكولاس راي وكلاهما من أهم المخرجين الذين تأثر بهما تارانتينو خاصة في أفلامهما التي أسست لنوع الفيلم نوار. سادسا: أما كسر تارانتينو لقواعد السينما التقليدية بشكل عام فيتمثل في تقديم شخصيات الفيلم الثماني كشخصيات بغيضة لا يمكننا أن نتعاطف تماما مع أي واحدة منها، وهو ما يتجلى أيما تجلي في عنوان الفيلم. سابعا: ولكن هل يتوقف تارانتينو عند كسر نوع محدد من الأفلام أو قواعد السينما؟ لا.. إنه يستمر في هدم كل شيء حتى التاريخ نفسه ليفككه ويعيد تركيبه من جديد حسب رؤيته هو، بل وأحيانا ما يزيفه ليحكي بذلك تاريخا متخيلا يأخذ بصمة تارانتينو وكأن التاريخ عمل فني يقوم الفنان هنا بمعارضته فنيا. ثامنا: وعلى الرغم من أن المخرج يستعين في فيلمه الجديد بمؤلف موسيقى لأول مرة لتأليف الموسيقى التصويرية لفيلمه، وليس مجرد واحد من المؤلفين الموسيقيين، فلقد استعان بواحد من أكثر المؤلفين الموسيقيين تأثيرا فيه وهو الإيطالي إنيو موريكوني، إلا أنه طلب منه تأليف موسيقى أقرب إلى الرومانسية الحالمة منها إلى موسيقى أفلام الغرب – التي برع موريكوني فيها – لينصت المشاهد إلى موسيقى هادئة بينما يقتل أبطال الفيلم بعضهم بعضا بالرصاص في فيلم من أكثر أفلام تارانتيتو دموية. أخيرا، يستمر تارانتينو في طريقه غير عابئ بأقرانه من صناع الأفلام أو نقادها أو حتى مشاهديها. يستمر في تجريبه، والأحرى لعبه، ليسلي ويرفه عن نفسه حتى قبل أن يسلي ويرفه عنا. وربما يكون أقرب مخرج لتارانتينو في هذا الأمر هو المخرج الإيطالي الشهير فيديريكو فيليني الذي أحدث نوعا فيلميا جديدا سمى باسمه حيث لا تنطبق عليه سمات أي نوع فيلمي من الأنواع المعروفة. وبالتأكيد يعرف تارانتينو نفسه مدى قربه وتأثره بفيليني، فالمخرج الذي قدم سبعة أفلام من قبل (باعتبار جزئي «اقتل بيل Kill Bill» فيلما واحدا) يعنون – بحس ساخر – فيلمه الثامن باسم «الحاقدون الثمانية» وهي لمحة يقلد فيها فيلليني الذي عنون فيلمه الثامن باسم «1⁄28».