كل نفس ذائقة الموت عزاء الإنسان أمام هذا الواقع الذي لا ولن يرتفع، أن هناك أهراما بشرية تتحدى الموت حتى حينما توارى التراب. والأستاذ عبد الكريم غلاب من بين هؤلاء. لأن الموت هو النسيان.. ورجل من طينته لا ينسى.. الأستاذ عبد الكريم غلاب سيبقى حيا، ليس فقط في ذاكرة عائلته وفي ذاكرة كل من عرفه، بل حاضرا لدى الأجيال المقبلة. لن ينسى كل من سعد بمعرفة الأستاذ غلاب أنه كان من بين من انخرط في الحركة الوطنية في وقت كانت الوطنية إيمانا ونضالا ومفهوما واضحا لا يقبل التأويل أو المساواة. وأنه ظل رمزا لهذه الانتفاضة التي أعطت القوة للحق ونزعت الحق عن القوة. حركة جعلت من وحدوية وحب وتقديس الوطن جزءا لا يتجزأ من الإيمان، وأخرجت البلاد من عهد القبلية والظلامية والتفرقة والجهل الذي أهلها للاستعمار واضعة بذلك اللبنات الأولى للمغرب الحديث. لن ينسى كل من عرف الأستاذ عبد الكريم غلاب، رجل المبادئ الذي لم يتزحزح عن مبادئه رغم أنها كانت ترمي بصاحبها في السجون، والذي بقي متشبثا بها حتى حينما تشرذمت وانحلت تحت ضغط المصالح الآنية والمؤثرات الخارجية والتهافت على الشهرة وانهيار القيم. لن ينسى كل من عرف الأستاذ عبد الكريم غلاب الرجل الصادق في زمان صار فيه الصدق يعتبر سذاجة أو تعنتا. لن ينسى تلاميذ الأستاذ عبد الكريم غلاب المعلم الذي يستحق التبجيل الذي جعل من التعليم نضالا ورسالة وليس وظيفة. الأستاذ الذي آمن طوال حياته، بأن العلم هو السبيل الوحيد لتقدم الشعوب. كان يريد تعليما يقوي الفكر النقدي ويحرر من الخنوع والجمود والظلامية والمسلمات، ويقوي المناعة ضد المؤثرات التي تستهدف الهوية، ويؤهل لتمييز الصالح من الطالح. وهو ما ما يحتاجه تعليمنا إلى يومنا هذا، في عصر العولمة التي لا يمكن مواجهتها إلا بتنمية القدرة على التفكير واستعمال العقل لانتقاء المعلومة المفيدة من بحر المعلومات المتناقضة والغزيرة والمتهاطلة باستمرار، وعلى اختيار الطريق الملائم في خضم التيارات الجارفة التي تتجاذب الإنسانية. كيف ينسى كل مغربي تابع حالة البلاد منذ الاستقلال، الصحفي الملتزم الذي حمل هموم وطنه طيلة حياته، وأطل عليه يوميا ولعدة عقود من جريدة العلم التي حملت مشعل الوطنية، ليقاسم الشعب هواجسه وأحلامه وشجونه وآماله وآلامه وطموحاته. تكلم الصحفي «مع الشعب» أزيد من نصف قرن، وتوجه له يوميا في افتتاحيته، وخاطبه أحيانا تحت اسم مستعار كمحمد بن صالح، ولم يخلف ميعاده معه في حديث الأربعاء. قاسمه هواجسه حول التعليم ومشاكله، وحول الديمقراطية التي اعتبرها طوال حياته غاية لا محيد عنها، وانشغاله بالانزلاقات والخيبة السياسية التي مر بها المغرب، وبالجفاف الذي يعصف بالمغرب من حين لآخر. وبمآسي البادية. لم يترك موضوعا يشكو منه المجتمع المغربي،على الخصوص، إلا وحلله بأسلوب نقدي مهذب واقترح الحلول الحكيمة بدون ديماغوجية أو تجريح. الأستاذ عبد الكريم غلاب ليس من الرجال الذين يدفنون مع الماضي، أو من ينقرض ذكره بانقراض جيله وبسكوت صوته، لأنه سيظل بما تركه من ثروة فكرية حلقة وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، فقد كرس الأستاذ ذو المعرفة الموسوعية والفكر الثاقب، وإلى آخر رمق، حياته وقلمه السلس وقدراته الأدبية لكل ما يمس الإنسانية وخصوصا الوطن الذي أغرم به، مخلدا بكتاباته فترة عصيبة ولكن مشرفة ومشرقة من تاريخ المغرب عاشها كفاعل في الأحداث وكشاهد عيان. ولعل من أثمن ما تركه للأجيال القادمة وما يمكن اعتباره عن جدارة إغناء للبحث التاريخي في المغرب هو تخليده لمسيرة عدد من صانعي الأحداث الذين عاصرهم وظل يعتز بمعرفتهم. إذ حرص إلى آخر محطة من حياته المليئة بالعطاء، على أن يترك للأجيال المقبلة صورة لشخصيات تركت بصماتها في تاريخ المغرب، وارتكز في هذا على معطيات استقاها من اللحظات الثمينة التي جمعته بهؤلاء الذين دخلوا التاريخ من بابه الواسع بما قاموا به كل من موقعه، من تضحيات ودفاع عن حوزة الوطن واستقلاله ووحدته وبناء المغرب الحديث. وقام في كتاباته بتحليل يتحرى الموضوعية واضعا أبطاله الستة والعشرين في إطارهم التاريخي والعالمي والظرفي. وقد ارتكز في انتقائه لهؤلاء الذين اعتبرهم بحق من الماهدين الخالدين على الدور الذي قام به كل منهم في ميدانه وحسب مؤهلاته ومركزه، للدفاع عن الوطن ووحدته. من بين هؤلاء الماهدين الخالدين بطل الاستقلال محمد الخامس الذي أعطى بتعويض لقب السلطان بلقب الملك انطلاقة لعهد جديد ودخل التاريخ من بابه الواسع حينما قدم عرشه قربانا ليحرر البلاد من الطغيان الاستعماري، ومن بين الماهدين الخالدين المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي قاوم الاستعمار بالجهاد المسلح ودوخ الجيوش الاستعمارية، ومازالت معركته الشهيرة أنوال تدرس في الأكاديميات العسكرية العالمية، ومن بين الماهدين الخالدين علال الفاسي، رائد الحركة الوطنية الذي خاض معركة التحرير بالكلمة والتوعية والتعليم مواجها السجون والمنفى، وكذلك مجموعة من الذين انخرطوا في هذه الحركة من علماء وشعراء ومحامين وأساتذة، معطيا لكل منهم صفة تدل على شخصيته ونوع الكفاح الذي قام به، والملك الحسن الثاني الذي تميز بشخصية منفردة جعلته يتحدى التيارات السياسية السائدة في عصره ويعطي الركائز الأولى للمغرب المستقل حسب نظرته الخاصة للحكم، وأن يفاجئ العالم بقرارات أربكت الأعداء والأصدقاء والقوات الدولية كالمسيرة الخضراء التي جعلت منه محرر الصحراء. وقيمة ما خلفه الأستاذ عبد الكريم غلاب للأجيال الصاعدة من رصيد أدبي ومعرفي متنوع يشمل الرواية والقصة القصيرة والتآليف التاريخية والتحليلات النفسية والدراسات الإسلامية والسياسية وأدب الرحلات، لا تكمن في غزارته وتنوعه وفي أسلوبه الأدبي السلس الذي يجعله في مستوى كل من يهوى القراءة، بل تكمن على الخصوص في ما يزخر به من أحداث استقاها عن قرب كشاهد عيان وأحيانا كطرف فيها. ولاشك في أن الجيل المقبل من المؤرخين سيجد في هذا البحر من الأخبار ما يعينه في دراساته لحقبة مازالت في حاجة إلى بعد تاريخي وإلى تقييم وتنقيب بعد أن تهدأ الانفعالات. وقد يكون ها ما يقصده الأستاذ الأكاديمي في تدخلاته في أحاديث الخميس بأن «التاريخ يكتب مرتين» وفي موضوعه «كتابة تاريخ المغرب الحديث بين الموضوعية والتزييف». ويكفي المغرب فخرا بالأستاذ غلاب الذي اختار القلم والكلمة الصائبة الهادفة، والمهذبة البليغة، والتحليل المستنير بالفكر الثاقب للمشاركة في بناء وطنه، أن يعتبره محللون من المشرق» »النور الذي أضاء من المغرب» لحمله كذلك هموم العالم الإسلامي وخصوصا منها المأساة الفلسطينية. وعزاء المغرب في فقده أنه سيبقى من الماهدين الخالدين.