يعود الباحث إدريس الخضراوي إلى الحفر في هوية الأمة السردية، وإثارة قضاياها المختلفة، عبر عمله الأخير «سرديات الأمة..تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة « الصادر حديثا عن دار إفريقيا الشرق. إن اختيار السرد، وتحديدا الرواية، له ما يسوغه من عدة أوجه، فمن جهة، لقدرة السرد على الإمساك بلحظات الوجود الإنساني، ولاستبطانه التجربة الانسانية بكامل تفاصيلها وأبعادها. ولنزوعه إلى تمثيل رغبة الأفراد والجماعات وتوقهما لحياة أفضل قوامها التعدد والاختلاف والحوار والعيش المشترك، من جهة ثانية، فضلا عما يشرعه من مساحات لتفجير الأسئلة المتصلة بالمجتمع والثقافة وعلاقتهما المتشابكة بالمعرفة والقوى الاجتماعية الفاعلة والمؤسسات وأنساق السلطة والهيمنة. ولتحقيق مسعى العمل، كان لزاما على الباحث أن يجترح مقاربة تتجاوز النقود النصية والبنيوية، وتتخطى المقاربات التي عنت بشعرية النص وقوانينيه الداخلية، بتركيزها على اللغة وآليات اشتغالها، ويستعيض عنها بالمقاربة الثقافية الحوارية المهتمة بشروط إنتاج النصوص وتداولها، والمدققة في اتصالها بالسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية. لقد وجد الباحث ضالته في نصوص الرواية المغربية في القرن الجديد، التي غرفت مما عرفه المجتمع من تحولات جذرية ودينامية سرعت في انصهاره في بوتقة العولمة، وفي انخراطه في مشاريع الحداثة والديموقراطية والعدالة الانتقالية ومنظومة حقوق الإنسان. ونجحت في إطار ما يسمى «بالرد بالكتابة» في إثراء هوية الأمة السردية وفي إنتاج معرفة مغايرة عبر خلخلة الأنساق ومقاومة كل أشكال المحو والنسيان. تحدوها في ذلك رغبة حثيثة في استعادة الذاكرة والنبش في أخطاء الماضي وعثراته التي أحدثت شرخا عميقا في التاريخين الشخصي والجماعي على حد سواء. وهكذا جاء الكتاب في مقدمة عامة وستة فصول. وقف الفصل الأول عند تحولات الرواية المغربية من التأسيس إلى تمثيل الواقع الاجتماعي، وصولا عند مرحلة التجريب والتمرد على الأنساق السائدة،واقتراح جماليات جديدة في الكتابة وطرائق الصوغ السردي تفتح المجال لتعدد الأصوات وتوزيعها الأركسترالي، مما يعطي حق الكلام للمسحوقين والمهمشين ويبئر التمثيل على الآخر لغاية استنبات قيم وتصورات جديدة تشكل بؤرة أخرى لتصور العالم. أما الفصل الثاني فخصصه الباحث لسرد ثقافة الذاكرة السياسية، وما يمنحه من فرصة حقيقية لإيقاف النزيف والتئام الجروح التاريخية والرمزية عبر تعريضها لاشتغال الذاكرة، وهو ما يعطي إضاءات قوية تسمح بتشكيل الهوية السردية عبر ملء الفراغات الكثيرة والإجابة عن الأسئلة المشوبة بالتوتر والارتياب من قبيل، من فعل كذا؟ وفي حق من؟ ولماذا، وكيف؟ إنه بتعبير ريكور مساهمة الذوات عن طريق سرد التجارب الفردية وتجميعها، في نسج التاريخ الجماعي، وصياغة قصة متماسكة تسمح بتحصين الهوية وعصمتها من الطمس والنسيان. وذلك بالانتقال من البعد السكوني والثابت للهوية الشخصية، إلى الحيوات المتجاورة التي بتنضيدها واصطفافها ترتسم معالم الهوية السردية بكل ثرائها وتعددها وإحالتها على الوجود الإنساني المشترك. وهكذا، لا يسمح التمثيل السردي بلمّ شتات عالم ضعيته صروف الزمن فحسب، بل يقوم بإخراجه في حلة زاهية ترتسم من خلالها تضاريسه وتتكشف أسراره وتشعباته. وهذا جزء هام من انثروبولوجية ريكور الفلسفية التي أطلقها على الوجود والزمان عبر وساطة السرد. أما الفصل الثالث فقد عقده الباحث للتخييل التاريخي والأسئلة المضمرة، بإثارة التفاعل بين السرد والتاريخ، ودوره في إعادة بناء قصة الأمة، وإبراز معالم الهوية الجماعية، وملء البياضات الناجمة عن سوء الفهم وضبابية التأويل. أما الفصول الثلاثة المتبقية فقد أولاها تواليا للحديث عن الآخر وتمثلاته، وكتابة الهامش والسيرة الذاتية. وبذلك تكون مساهمة الباحث إدريس الخضراوي نوعية في استجلاء بعض الغبار عن جملة من القضايا المرتبطة بحياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية ، عبر إفساح المجال للنقد الثقافي ودراسات ما بعد الاستعمار ليقولا كلمتهما في نصوصنا الروائية المعاصرة