كل شيء يتم داخل السرد، كما لو أننا نعيش حياتنا في القصص قبل أن نجربها فعلا في الحدث اليومي. لذلك قد تكون الحكاية هي الوسيلة المثلى، إن لم تكن الوحيدة، لتسريب التجربة الفردية إلى ما راكمته الجماعة واحتفت به أو قاومته. إن الهوية الجماعية ذاتها لا يمكن أن تُبْنى في المفاهيم، فقد تكون الحكاية هي مصدرها الأول والوحيد، فالناس يتعرفون على «عمرهم الافتراضي» في الحكايات لا في نضارة أجسادهم أو في التجاعيد التي تغطيها. إن الذي لا يحيط نفسه بالقصص والمحكيات كائن بلا هوية، إنه مُهْمَل ومنسيٌّ وموجود خارج زمنية الفرجة الحياتية. لقد كان وجودنا في السرد التخييلي دائما أقوى من وجودنا في حقيقة التاريخ، فما تقوم الرواية بتمثيله لا يمكن بالقطع إلغاؤه أو تعديله أو التحكم في كل امتداداته. ذلك أن عوالم السرد تُبنى ضمن سيرورة حدثية تتطور خارج دفْق حياتي لا سلطان للناس عليه. وتلك هي الواجهة التي يستمد منها التمثيل السردي مادته لكي يُشَخِّص ما يحدث أو يصف ما مضى أو يستبق ما يمكن أن تأتي به الأيام. إنه يُدرج التجربة الحياتية ضمن زمنية هي الشاهد الوحيد على وجود خبرة إنسانية قابلة للتبليغ. لقد استعان الناس قديما بالمحكي من أجل تخزين المعرفة ونقلها وتداولها، وتلك كانت أولى استعمالاته في الحياة. كل شيء يتم داخل السرد، كما لو أننا نعيش حياتنا في القصص قبل أن نجربها فعلا في الحدث اليومي. لذلك قد تكون الحكاية هي الوسيلة المثلى، إن لم تكن الوحيدة، لتسريب التجربة الفردية إلى ما راكمته الجماعة واحتفت به أو قاومته. إن الهوية الجماعية ذاتها لا يمكن أن تُبْنى في المفاهيم، فقد تكون الحكاية هي مصدرها الأول والوحيد، فالناس يتعرفون على «عمرهم الافتراضي» في الحكايات لا في نضارة أجسادهم أو في التجاعيد التي تغطيها. إن الذي لا يحيط نفسه بالقصص والمحكيات كائن بلا هوية، إنه مُهْمَل ومنسيٌّ وموجود خارج زمنية الفرجة الحياتية. إن المفاهيم المجردة لا تُغري، فنحن نتماهى مع تجارب الآخرين كما ترويها قصصهم وحكاياتهم، و»الذات تتعرف على نفسها من خلال قصة ترويها لنفسها» ( ريكور)، لا من خلال انفعالات عرضية قد لا ينتبه الناس إليها أبدا. إن الله ذاته «وضع مجده في الإنسان الحي» (القديس إيريني saint Irénée)، أي في الحكايات التي تؤثث الزمن وتحشوه بقيم تمجد الإنسان وتُعلي من شأنه و»تكرمه»، وتضعه شاهدا على حقيقة طارئة تتطور خارج إكراهات الطبيعة. فلا موطن للحقائق التي يبنيها الناس ويعتقدون صحتها سوى القصص والأساطير وما نسجته الذاكرة من حكم وأمثال هي ذاتها ممكنات محكي أو هي وجهه النسقي. إن القصة ليست معادلة علمية بلا روح، إنها حكمة أو موعظة أو عبرة وقاعدة للفعل. في السرد بدأت الحياة على الأرض، حدث ذلك في قصص الخلق الديني وفي الأساطير قبلها، وحدث في الخرافات والحكايات الشعبية بعدها. وكان هو الأساس الذي بُنيت عليه هوية الأوطان والأمم القديمة والحديثة أيضا، بل هي حالة الوجود القدسي نفسه، فالزمنية فيه لا يمكن أن تصبح مرئية في الذاكرة والوجدان إلا من خلال استيطانها محكيات تستعيد ما عجز العلم عن تحديده بدقة. فقد نُصدق بالعقل معادلات الرياضيين والفيزيائيين، ونؤمن بفرضياتهم عن بدايات الكون وربما نهاياته، ولكننا لا نطمئن إلا لما تقوله القصص عنه وتبشر به، فهي تصوغ «حقيقتها» في شكل أحداث ألفها الناس ووضعوا فيها جزءا من آمالهم وآلامهم. وضمن سلطة المحكيات صاغ الفلاسفة الأوائل تصوراتهم عن عالم المثُل وعن جوهر الله وحقيقته في السماء والأرض، ومن خلالها بلور العلماء رؤيتهم إلى النسبية والجاذبية وجبروت الماء وأصل النار وغيرهما من الظواهر في الطبيعة والمجتمع. وهو ما تقوله المحكيات المؤسسة للبلاغة، وتلك التي تتحدث عن الهندسة ونشأتها، بل هي التي تؤسس الأمم وتصنع لها تاريخا في زمنية خاصة، قد يكون التخييل وحده قادرا على التصديق عليها في الكثير من الأحيان. إن الزمن خارج إيقاعات التقطيع كلي ومطلق وعصي على الإدراك؛ لذلك لا تتحقق الحياة إلا من خلال القدرة على التقاط الشروخ التي تحدثها هذه الإيقاعات لحظة تسريبها لمحكيات «تصف» الحالات والتحولات وتحصي أشكال تحققاتها. وقد يكون المحكي آلية من آليات الحجاج أيضا، فلم يكن أمام قاضي سيسيليا، في القرن الخامس قبل الميلاد وهو يحقق في شجار بين شخصين لا شهود عليه، من سبيل لإقامة الحقيقة سوى السرد. فالبريء في تصوره هو من يستطيع بناء محكي يروي تفاصيل المعركة. لقد اكتفى القاضي بما يمكن أن يُصنف ضمن المحتمل، ما يمكن أن يقع، لا ما وقع فعلا. لم يكن الأمر عنده يقتضي إقامة حقيقة لن يشكك فيها أحد، لقد كان يروم الاقتراب منها فقط من خلال سلطان السرد. وبذلك يكون النشاط السردي جسرا ضروريا بين الواقع والمحتمل، الأول حقيقي في ذاته، أما الثاني فيمكن أن يعتقد الناس حقيقته ( تودوروف) . فبدون هذا الرابط لن تكون الحياة زمنية قابلة للعيش. إن السرد وحده يجعل الخدعة أمرا مقبولا: فهل هناك عاقل واحد في الكون يمكن أن يصدق أن الذئب يتكلم وأن الجدة تموت وتعود إلى الحياة من جديد؟ ومع ذلك ننتشي بقصة ليلى والذئب ونبكي حرقة على وفاة بطل أو بطلة من ورق، كما نفرح إذا تزوج عنترة العبسي عبلة في الحكاية ضدا على ما قالته وقائع التاريخ. إننا نفعل ذلك «لأن الشخصيات التخييلية الكبرى قد تُصبح نماذج للشرط الإنساني «الواقعي»( إيكو). لقد استطاع الإنسان، من خلال السرد، «تأثيث فضاءات» زمنية غامضة واستعادتها في شكل محكيات تُفَصل القول في البدايات الأولى للخلق وترفع حجب الغرابة عنه وتحدد له مصدرا ومآلا. وهي صيغة أخرى للقول إن «البداية» عقَدية دائما، لذلك لا يمكن أن تتم في الزمن، إنها كذلك في «المعتقد» الذي يؤمن به الناس ويصرفون سلوكهم وفق مقتضيات سقفه القيمي. وهو ما يفسر تعدد أشكال هذه البدايات وتنوعها دون أن تتغير مضامينها، فهي واحدة عند الجميع. ذلك أننا، في جميع أشكال حضورها، لا نستطيع الفصل، داخل هذه الزمنية المفترضة، بين قلق مرتبط بالتباس البدايات أو ضياعها، وبين خوف مبعثه غموض النهايات. وذاك مبعث الحيرة عند الإنسان، إنه يعيش في مهب زمنية بلا ضفاف، إن وجوده داخل المحكيات وحده يمنحه غطاء دلاليا. والحاصل، لا وجود للزمن إلا داخل ما تقوله الحكاية وما تقوم بتمثيله وتنشر تفاصيله في أحداث محددة من حيث العدد ومن حيث حجم حالات الافتراض الاستيهامي داخلها. فنحن نتعلم الانتماء إلى الوطن وننغمس في ثقافته من خلال ما يصوغه الآباء والجدات والمعلمون من حكايات تروي تفاصيل وطن يتسلل إلى الوجدان في غفلة من كل شيء: فلا رقابة للعقل على ما تنسجه الحكاية، فهو منتشر في تفاصيل تتحيز في فضاء الذاكرة وتتعاقب فيها وفق منطق هوَوِي سابق على التفكير ذاته. ذلك أن «الانتماء مقولة أخلاقية موطنها السلوك، أما الحقيقة فمقولة نظرية» تسكن المفاهيم وحدها( إيكو). فنحن لا نُسأل عن دواعي الحب وأسبابه ومبرراته، ولكننا في حاجة دائما إلى خبرة موضوعية لتحديد موقفنا من فكرة أو نظرية أو إيديولوجيا. وعلى هذا الأساس، وخلافا لما تصير عليه نظريات العلم وتوقعاته، فإن ما يصوغه السرد ويُشخصه لا يمكن التصرف فيه أبدا، إنه وُجِد لكي يقبله الناس باعتباره جزئيات من «حقيقة» تُبنى في محكيات الحياة، لا في أحكام العلم «الباردة». إن ما يأتينا من القصة حكمة وليس تقريرا عن حقيقة كلية. وذاك ما تؤكده كل المحاولات التي كانت ترغب في استعادة زمنية ولت لا شاهد عليها سوى المعاني التي تضمنتها نصوص حكائية تَضِن في الغالب بأسرارها. وهذا معناه أن السرد التخييلي لا يُبشر بحقيقة نظرية، بل يرسم حدود انفعالات تستهويها وضعيات السرد وحدها، ومنها وظيفة «الاستشفاء» (إيكو) ومنها مقتضيات « المحتمل» و»الاستيهام» ودور «البوح» في تخليص الذات العليلة من «عقدها» عبر استرسال سردي هو الممر الضروري نحو تحرير الطاقات المحجوزة داخلها. وبذلك يكون «السرد» في وجودنا أوسع من مجرد رصد لإيقاع زمني يعود إلى وقائع مصدرها حقائق الوجود وحدها، ويكون أشمل أيضا مما يمكن أن ُيُصنف ضمن تفصيل سيري يحتمي بوقائع تَبْنيها حياة فرد معزول لا امتداد لها خارج ملكوته الخاص. إنه في واقع الأمر يصالح بين ما تبلوره الشعوب في المتخيل والحكايات، وبين ما تؤسسه فعليا وهي تخوض معارك من أجل الحرية والعزة والعيش الكريم، أو من أجل التفوق والتسلط والانتشاء بانتماءات عرقية أو طائفية: ما يجري الآن في المشرق العربي ليس سوى صراع بين محكيات ترفض أن تكون جزءا من التاريخ الذي ولى، فالفاعلون فيها يصرون على رصد تاريخ خاص بنوه هم خارج التاريخ الإنساني، أي خارج زمنية تقاس في المنجز الحضاري لا في استيهامات الذات أو الجماعة عن حقيقة كلية هي لها وحدها. لذلك سيكون السرد وحده من يملك القدرة، من خلال هذه المصالحة ذاتها، على استيعاب كل أشكال «السرديات»، بما فيها حكاياتنا اليومية عن هم العمل والإنفاق والأولاد والخوف من المستقبل والحنين إلى زمن ولى. فقد تكون «المحكيات الكبيرة» قد سقطت بفعل تقادمنا على الأرض، ولكن الناس استعاضوا عنها بأخرى ينسجونها اليوم في الفضاءات الافتراضية الحديثة، فهي الجامع بين كل الرغبات الجماعية والفردية وطريقة إشباعها. بل يمكن أن يعيشوها من خلال استثارة كل ما يمكن أن يبني «تاريخا خاصا» بالطوائف خارج حضن الوطن الجامع أو الأمة الموحِّدة. وليس غريبا أن ينظر البعض إلى الحكاية باعتبارها «حارسا للزمن» و»خاصية أساسية في التجربة الإنسانية» ( بول ريكور)، وأن تكون عند البعض الآخر شكلا تعبيريا يعيد الروائي من خلاله إلى التاريخ جزءا كبيرا مما ضيعه المؤرخون أو أهملوه قصدا وهم يَصُبون الوقائع في مفاهيم مجردة تخلص الحدث من سياقه ليصبح أداة تُعْتَمد في تصنيف الذهنيات والطبائع والإبدالات( أليكساندر دوماس). إن المؤرخ يبحث عن معنى في الحدث، أما الروائي فيشخص النماذج ويعيد لها دفئها عبر صبها في فعل سردي تتجدد من خلاله. وقد يكون السرد أكثر من ذلك، إننا نتعلم من خلاله كيف نحكم على الظواهر ونُصنف الناس ونقيس الأشياء (ماك أنتير)، أو يكون عند كل الخطباء والبلاغيين أداة مثلى للحجاج وقوة رهيبة في الإقناع أو التضليل. ولم تكن، الرواية عند لوكاتش في ما مضى، سوى «نقد لمجتمع تخلت عنه الآلهة». وقد تكون هذه السمات مجتمعة هي التي دفعت البعض إلى اعتبار السرد حاملا لمعرفة هي في الأصل محاولة للإجابة عن أسئلة مركزية في وجود الإنسان؛ دليلنا في ذلك أن الأجوبة في تغير دائم، أما الأسئلة فظلت دائما هي ذاتها، هي ما حاولت السرديات القديمة والحديثة الإجابة عنها تجزيئا أو تفصيلا. وهي أسئلة تشمل الفعل والمعيش والكينونة ( كيبيدي فارغا): ما يصدر عن الإنسان ويجربه باعتباره فعلا هو الدليل على وجوده في المجتمع، وما له علاقة بتدبير معيش يومي يتحقق في الغالب من خلال إسقاط حالات تنافس يقيس من خلالها الأفراد حياتهم بحياة الآخرين، أو يكون محاولة لاستجلاء حقيقتنا في الوجود، حقيقة خلقنا وحياتنا أو موتنا، وحقيقة ما سيحدث أو لن يحدث أبدا. وتلك هي الوظيفة المركزي للسرد «فبفضله نبني ونعيد بناء الحاضر والمستقبل وقد نقوم بخلقهما. وفي هذا الخلق تختلط الذاكرة مع المتخيل، وحتى ونحن نبتدع عوالم تخييلية ممكنة، فإننا لا نبرح مكاننا في العالم المألوف لدينا: إننا ندرجه ضمن ذواتنا لكي نخلق آخر يمكن أن يوجد. إن الذهن البشري لا يستطيع أبدا أن يكون وفيا بشكل كلي للماضي. إن الذاكرة والمخيلة ينتجان ويستهلكان دائما ما ينتجانه» (جيروم برينير). وهو ما يؤكد أن «المحكي التخييلي» ليس معنيا بإثبات حقائقه، فحقائقه تُبنى خارج مقتضيات التجربة الواقعية وضوابطها، إنه لا يقوم سوى بالتمثيل لرؤية أو استيهام أو رغبة، وكل تمثيل هو تأويل في الوقت ذاته كما هو شائع. إن السرد يعطل العمل بالعقل، أما المفهوم فيحتاج دائما إلى ما يُصَدِّق على مضمونه. وذاك ما توحي به الأشكال السردية الكبرى، إنها تُلخص العبور الدائم في الحياة، وتكشف عن القلق ذاته، إنه قلق لن نتخلص منه إلا بالمزيد من الحكايات. وكما فعل بعض اللسانيين الذين راحوا يبحثون في خصائص كل اللغات لاستعادة لغة أصلية هي التي تداولها الناس في شخص آدم، راح بعض الشكلانيين يبحثون عن أصل الإنسان بالعودة إلى حكاية أولى وواحدة في حياته هي التي تفرعت عنها كل الحكايات اللاحقة، كما فعل ذلك بروب. هناك تاريخ واحد عند الكائن البشري، بعضه «حقائق» هي فرضيات حول الخلق والوجود على الأرض، وبعضه متخيل، تحتضنه الحكايات وتحشوه بما بقي في ذهن الناس عن القلق والحيرة. وذاك هو المفصل في التجربة الزمنية وفي غطائها السردي. علينا أن نستعيد المحكيات التخييلية باعتبارها جزءا من الهوية من موقع المؤرخ لا من موقع الاستيهام العقدي. فما يسميه ريكور «الهوية السردية» ليس سوى استعادة تخييلية لما فضُل عن المؤرخين، أو ما ضاع في الرحلة من الحدث إلى المعنى. إن الهوية السردية، بالعياني فيها أو المماثل، تستند إلى قدرة التاريخ على استيعاب كل منتجات التخييل باعتبارها غطاء « لأشباح» وُلدوا في أحضان التاريخ، ولكنهم ظلوا دائما في حاجة إلى مضاف لكي يصبحوا كائنات من لحم ودم» ( أليكساندر دوماس).