تطرح مسألة العلمانية في العالم العربي مجموعة من المفارقات ما تلبث أن تتحول إلى سجال فكري بين المفكرين العرب، الإسلاميين منهم والعلمانيين. دون النظر إلى العلمانية كمفهوم في علاقته بالحياة اليومية، ودون ربطه بالسياق التاريخي لتبلوره، وفي انفصال تام عن كل مرجعية وثوقية. من ثم اختزال العلمانية في "فصل الدين عن السياسة". لعل هذا الاختزال، ظل بؤرة النقاش في الخطاب العربي، لتحوم حوله مجموعة أخرى من السجالات لا تقل عنه سطحية. من قبيل الاختلاف في التسمية، هل هي عَلمانية، أم عِلمانية، وهل لها علاقة بالعالم، أم بالعلم؟ إن السعي وراء هذه المناوشات، لا يؤدي بنا إلى تقديم تصور شامل للعلمانية في العالم العربي، وهل هي فكرة دخيلة على الثقافة العربية. أم أنها منغرسة في صلب كل مجتمع؟ وهذا ما يفرض بالضرورة، معالجة المفهوم في صيرورته التاريخية وتحولاته الإنسانية، إذ أن العلمانية، ليست فكرة ثابتة ظهرت مكتملة، بل هي في تحول مستمر، مرتبط بديناميكية المجتمع. تعتبر اللحظة الأساسية لنشوء فكرة العلمانية في الفكر العربي _كما يرى ذلك الدكتور عزيز العظمة_ خلال القرن التاسع عشر، حينما تم التنازل عن الاحتكام للشرع في أمور الدنيا، ومسايرة لتداعيات الحداثة، لصالح الإنسان. يقول عزيز العظمة في هذا الصدد: "حصل هذا لدينا عندما استبدلنا الفقهاء وقضاة الشرع بالمحامين والقضاة المدنيين، والشيوخ بالأساتذة، والمدارس الشرعية والكتاتيب بالمكاتب الرشدية ثم المدارس والجامعات. وعندما اعتمدنا أسسا لمعارفنا العقلية العلوم الطبيعية والتاريخية والجغرافية بدلا من الركون إلى المعرفة بالجن والعفاريت والزقوم، ويأجوج ومأجوج، وموقع جبل قاف والتداوي بالرقى والطلاسم والأسماء الحسنى." لقد شكلت هذه التغيرات منعرجا حاسما في التحول العلماني، وفي انتشار فكرة العلمانية. وقد كان هذا التغير متزامنا مع تحولات أخرى مماثلة في أوروبا، تدعو إلى تحرير الفكر من كل تأثير مفارق لمكوناته.وظهور أصوات مطالبة بتحرير المرأة وإعطائها مكانتها الاعتبارية. وكان من البديهي أن ترخي هذه التحولات بظلالها ليس على العالم العربي فحسب، بل على العالم بأكمله. العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشّاملة: بعدما حاولنا بشكل موجز أن نزيل اللبس عن بعض الإشكالات التي تحيط بمفهوم العلمانية، والوقوف على العجز القائم أمام تقديم تعريف شامل ومركب يحوي جميع الظواهر العلمانية. سننتقل من التعريفات المختلفة، إلى تعريف واحد (العلمانية الشاملة)، وهو المفهوم الذي يصوغه عبد الوهاب المسيري للتعبير عن الظاهرة، حيث يميزه عن (العلمانية الجزئية)، التي تظل رهينة الدين والسياسة، وفي بعض الأحيان تتجاوزهما لتشمل الاقتصاد. لكن هذا التحديد أظهر قصوره وغاب عنه الحسم النهائي بين القضايا الدينية والأخروية. وهو ما دفع بالمسيري إلى محاولة طرح تعريف جديد واقعي، يمكن أن يساير التحول الذي يلحق الواقع في إطار ترشيد مادي (إعادة صياغة الواقع على ضوء قوانين الطبيعة) من أجل تحقيق أو بالأحرى مسايرة التقدم الطبيعي/ المادي. "ويوجد في تصورنا علمانيتان لا علمانية واحدة، الأولى جزئية ونعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، والثانية شاملة ولا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، لا عن الدولة وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص..." يمكن القول اعتمادا على هذا النص، أن المنطلق الأول الذي أخذه المسيري في إعطائه لتعريف شامل للعلمانية، هو التفرقة بين العلمانية الجزئية والشاملة بحسبانهما دائرتان، الثانية تحوي الأولى. وكذا رفض التعريفات الشائعة المختزلة والتي تحصر العلمانية في فصل الخطاب الديني عن الخطاب السياسي. هذه النظرة الجزئية لا تشمل الواقع في كليته، فالعلمانية الجزئية، وإن سعت إلى فصل الدين عن الدولة، لكنها تظل في غالب الأحيان غير واضحة بخصوص المرجعيات الدينية، ولا تجعل من الإنسان مادة استعمالية، صحيح أنها تسلٌعُ وتشيٌئُ بعض جوانبه، ومع ذلك تترك جزءاً يحافظ على تلك الخصوصية الحميمية للإنسان التي تميزه عن الطبيعة. وإذا كان الخطاب العلماني الجزئي يهتم ببعض الجوانب العامة للحياة، فهو لا يتوغل في مقدس الإنسان إن صح التعبير. أي تلك البؤرة الحساسة في دواخل الكائن البشري والتي يصعب نفض الغبار عنها. أما الخطاب العلماني الشامل، فهو على العكس من ذلك أكثر عمقا وتركيبا وحسما، خصوصا في المسائل الثيولوجية والدينية. تنطلق العلمانية الشاملة من الفكرة الفلسفية المادية، وتنزع القداسة التي لزم الخطاب العلماني الجزئي الصمت حيالها أثناء حديثه عن الإنسان الذي لم يعد مركز الكون. فالعالم كله مادة واحدة ومركزه كامن فيه، وقول المسيري بأن تعريف مفهوم العلمانية يجب أن يكون في صيرورة دائمة مع التاريخ، نستشفه من هذه الرؤية المادية للعالم، وغياب الغاية والهدف عن حركية الكون، لكونه حركة مادية لانهائية. لابد لنا من الإشارة إلى نقطة أساسية هي سؤال المرجعية، فالعلمانية الشاملة لا تنفي وجود الإله الخالق، ولا تستبعد الإنسان عن مركز الكون، هذا على مستوى القول. أما على مستوى النموذج، فهي لا ترى في المرجعية النهائية مصدر المعرفة، ومصدرا مفارقا لاستمداد القيم الأخلاقية. فالإله والمطلق ليسا فاعلان في الحياة المادية، والإنسان في الأخير ليس مركز الكون، ولا حرية له. مع العلم أن عبد الوهاب المسيري يراه، أي الإنسان في بداية الأمر (على مستوى القول) مركز الكون، فهل هناك تناقض كما يظهر؟ قد يبدو التناقض جليا فيما يخص المرجعية، وهو ما يطرح السؤال عن الكيفية التي يمكن بها للإنسان أن يكون مركز الكون، ويصبح مجرد مادة محايثة للطبيعة؟ وهل الإله بعد خلقه البشر، دخل في صمت أبدي ولم يعد فاعلا في الحياة المادية؟ أليست فكرة نيتشه Nietzsche حول موت الإله هي التي يتبناها المسيري؟ سبقت الإشارة إلى الدور الذي تلعبه الفلسفة المادية في توجيه فكر المسيري، وأيضا في رؤيته الواقعية للمجتمع. كل هذا جعله يتخلص من الأفكار المطروحة، ويحاول صياغة فكر علماني داخل إطار مادي/ طبيعي تحكمه قوانين مادية كونية، وبعيدا عن كل المرجعيات اللاهوتية في ظل الجشع الرأسمالي الاستهلاكي.