تأليف : د/ عبد الوهاب المسيري الناشر : دار الشروق - القاهرة رقم الطبعة : الأولى تاريخ الطبعة: 23/01/2002 نوع التغليف: عادي ( ورقي ) عدد الأجزاء : 1 عدد الصفحات : 343 حجم الكتاب : 17 × 24 سم السعر : 25.0 ريال سعودي ($6.67) التصنيف : / مصطلحات إسلامية عامة / مذاهب فكرية / علمانية نبذة عن الكتاب: تحاول هذه الدراسة تناول قضية العلمانية (في جانبيها النظريّ والتطبيقي) من منظورٍ جديد، يقوم على التفرقة بين ما يُسمى «العلمانية الجُزئية» - فصل الدين عن الدولة - ، و«العلمانية الشاملة» وهي لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص، أو بعبارة أخرى: فَصْل القِيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العامّ والخاصّ، بحيث تنتزع القداسة عن العالم، ويحول إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى. الخلاصة : تتكون الدراسة من مجلدين منفصلين رغم تداخلهما: " المجلد الأول: يتناول النظرية والتعريف. " المجلد الثاني: يتناول التطبيق. وينقسم كل مجلد بدَوْرِهِ إلى بابين، وكل باب إلى عِدَّة فُصول، والذي نتعرض له هنا هو المجلد الأول. الباب الأول وقد كُرِّسَ البابُ الأول من هذا المجلد لتعريف العلمانية على النحو التالي: * الفصل الأول: تناول فيه إشكالية تعريف العلمانية، والأسباب التي ساهمت في تقلص الحقل الدلالي لكلمة "علمانية"، وأضعفت قيمتها التفسيرية ومنها: (1) تعريف العلمانية باعتبارها فَصل الدين عن الدولة، وهو ما سَطَّحَ القضية تماما، وقَلَّصَ من نشاطها. حيث يرى المؤلف أن تعريف "العلمانية" باعتبارها فَصل الدين عن الدولة وحسب هو أكثر التعريفات شيوعا للعلمانية في العالم سَواء في الغرب أو في الشرق، والعبارة تعني حَرْفيًّا فَصل المؤسسات الدينية (الكنيسة) عن المؤسسات السياسية (الدولة)، وهي تَحْصُر عمليات العَلْمَنَة في المجال السياسيّ، وربما الاقتصاديّ أيضا، وفي بعض المجالات في رُقعة الحياة العامة، وتستبعد شَتَّى النشاطات الإنسانية، أو تَلزم الصمت بخصوصها، أي أنها تُشير إلى العلمانية الجزئية وحسب. وتعريف "العلمانية" على هذا النحو يتجاهل قضية المرجعية، والنموذج الكامن وراء المصطلح؛ إذ لابد أن نسأل عن الإطار المَعْرِفِيّ الكُلِّيّ والنهائي الذي تتم في إطاره عملية الفَصْل، وقد أدَّى هذا إلى خَلَلٍ كبير؛ إذ أن مصطلح "العلمانية" وَفق هذا التصور عُزِلَ عن أية مرجعية نهائية، وأصبح يُشير إلى مجموعة من الإجراءات، وكأن الأمر حُسِمَ بهذه الطريقة مع أن هذه الإجراءات يختلف مدلولها باختلاف مرجعيتها، ولا يتحدد معنى المصطلح إلا بالعودة لها. (2) من الأسباب التي أدت إلى تقلص نطاق مُصطلح "العلمانية" تصور البعض أن العلمانية ليست ظاهرة تاريخية وإنما هي ظاهرة محددة تتم من خلال آليات واضحة يمكن تحديدها ببساطة... ولكن تصور العلمانية باعتبارها مجموعة أفكار وممارسات واضحة يظل مع هذا التصور سَاذَجًا، ويُشَكِّلُ اختزالا وتبسيطا لظاهرة العلمانية وتاريخها وللظواهر الاجتماعية على وَجه العموم. (3) إشكالية تصور العلمانية باعتبارها فكرة ثابتة لا مُتتالية نماذجية آخذة في التحقق. ففي المراحل الأولى من تطور العلمانية يُلاحظ أن الدولة القومية لم تكن قد طورت بعد مؤسساتها الأمنية والتربوية (الإرشادية والتعليمية) فكانت هي نفسها دولة جزئية لا تتسم بالشمولية، ولم تكن وسائل الإعلام قد بلغت بعد ما بلغته من قوة وسطوة، ولم يكن قطاع اللذة (السينما، المجلات الإباحية، الشركات السياحية، صناعة الأزياء) قد بلغ بعد ما بلغه من مقدرة على الإغواء، وهذا يعني أن كثيرا من قِطاعات حياة الإنسان كانت بمنأى عن عمليات العلمانية، إذ كانت في غَالب الأمر محصورة في عَالَمَي الاقتصاد والسياسة.. فالذي حدث في الغرب هو أنَّ بعضَ مجالاتِ الحياة العامة وحسب تمت علمانيتها لبعض الوقت وظلت الحياة الخاصة وعالم القِيَم النهائية (الدائرة الكُبْرَى) حتى عهدٍ قَريبٍ جدًّا محكوم بالقيم النصرانية (المسيحية) أو بالقيم العلمانية التي تستند في واقع الأمر إلى مُطلقات إنسانية أخلاقية أو مُطلقات نصرانية (مسيحية) متخفية. فالفرد في الغَرْب كان بالفعل حُرًّا في حياته الخاصة لا لأن الدولة وكذلك قطاع اللذة قد أحجمت عن التدخل فيها واستعمارها على حد قول هابرماس، وإنما لأن النصرانية (المسيحية) والمطلقات الإنسانية استمرت في وجدانه ولم يكن بوُسع الدولة العلمانية أو وسائل الإعلام وقطاع اللذة التغلغل في هذا المجال ومِنْ ثَمَّ تَمَّتْ إعاقة المتتالية العلمانية عن التحقق لتظل بالأساس علمانية جُزئية، لكن الأمور تغيرت إذ تتابعت حَلْقات المتتالية بخُطًى أَخَذَتْ تتزايد في السرعة، فقد ازدادت الدولة العلمانية قوة وتغوُّلا، وأصبحت الدولة التنين التي تنبأ بها هوبز، وأحكمت بمؤسساتها الأمنية قبضتها على الفرد من الخارج كما أحكمت بمؤسساتها التربوية قبضتها عليه من الداخل يساعدها في ذلك قطاع الإعلام وقطاع اللَّذَّة. * الفصل الثاني: تناول إشكالية اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم "العلمانية"، وذلك من خلال عَرضه وتحليله للتعريفات الموجودة بالفعل في المُعْجَمَيْن العربي والغربي لكلٍّ من مُصطلح ومفهوم "العلمانية"، وقد عرض في ثنايا ذلك لآراء العلمانيين العرب حول تعريف المصطلح والمفهوم، وهي تعريفات تتأرجح بين العلمانية الجزئية بوصفها إجراءً جُزئيا لا علاقة له بالأمور النهائية، مقابل العلمانية الشاملة بوصفها رُؤية شَاملة للكَون، أي التأرجح بين عِلْمَانِيَّة تقبل المُطْلَق الديني أو الأخلاقيّ أو الإنساني، وأخرى نِسبية تمامًا لا تقبل أي مطلقات أو ماهيات. * الفصل الثالث: يرصد بعض المراجعات المهمة التي حدثت بشأن نقد المصطلح من قِبل بعض الباحثين في الشرق والغرب مثل إرفنج كريستولIrving Kristol و أجنيس هيلر Agnes Heller و ماكس فيبر MaxWeber وغيرهم من الغرب، وجلال أمين وفهمي هُوَيْدِيّ وغيرهم من الشرق. * أما الفصل الرابع والخامس فيحاولان تفكيك مجموعة من المصطلحات والمفاهيم التي استخدمتها العلوم الإنسانية الغَربية لوصف بعض ظواهر المجتمع الغربي الحديثة مثل "التطبيع" و"التحييد" و"التعاقدية" و"العقل الآداتي" و"التسلع" و"التشيؤ" و"الاغتراب" و"نهاية التاريخ" و"الاستنارة المظلمة" و"اللامعنى". مشيرًا إلى أنها مصطلحات ومفاهيم تنطوي على معالم العلمانية الشاملة. * الفصل السادس: عرض فيه السمات العامة للحضارة الغربية التي ساهمت في بَلورة الرؤية الواحدية المادية، والعوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي ساعدت على هيمنتها على المجتمعات الغربية. * الفصل السابع: حاول تقديم تعريف للعلمانية يتسم بقَدْرٍ من التركيب، ويكون ذا مقدرة تفسيرية عالية يمكنه أن يحيط بأكبر عدد ممكن من الظواهر والأفكار، حيث يفرق بين دائرتين من العلمانية تحتوي الواحدة الأخرى: 1- العلمانية الجزئية: رؤية جزئية للواقع (برجماتية- إجرائية) لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية(المعرفية) ومن ثَمَّ لا تتسم بالشُّمُول. وتذهب هذه الرؤية إلى وُجُوب فَصْل الدِّيْن عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وهو ما يُعَبَّرُ عنه بعبارة فَصل الدين عن الدولة، ومثل هذه الرؤية الجزئية تلتزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة، كما إنها لا تنكر بالضرورة وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية وربما دِينية، أو وُجود "ما ورائِيَّات" و"ميتافيزيقيا"، ولذا لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية، كما إنها رؤية محددة للإنسان فهي قد تراه إنسانا طبيعيا ماديًّا في بعض جوانب حياته (رؤية الحياة العامة وحسب) لكنها تلزم الصمت فيما يتصل بالجوانب الأخرى من حياته. وفيما يتصل بثنائية الوجود الإنساني، ومقدرة الإنسان على التجاوز، لا تسقط العلمانية الجزئية في الواحدية الطبيعية المادية، بل تترك للإنسان حيزه الإنساني يتحرك فيه كيفما يشاء. 2- العلمانية الشاملة: وهي رُؤية شاملة للعالم ذات بُعد معرفيّ (كُليّ ونهائيّ) تحاول بكل صرامة تحديد عَلاقة الدين والمطلقات والماورئيات (الميتافيزيقيا) بكل مَجَالات الحياة، وهي رُؤية عَقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحِدِيَّة المادية التي ترى أنَّ مركز الكَوْن كامن فيه غير مُفَارِق أو مُتَجَاوز له (فالعلمانية الشاملة وحدة وجود مادية) وأنَّ العالَم بأسره مكون أساسًا من مادة واحدة لا قَدَاسَة لها، ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها، ولا هدف ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرد، أو المُطلقات، أو الثوابت، هذه المادة بحسب هذه الرؤية تشكل كُلا من الإنسان والطبيعة، فهي رؤية واحدية طبيعية مادية وتتفرع عن هذه الرؤية منظومات مَعرفية (الحواسّ والواقع المادي مصدر المعرفة، فالعالم المعطى لحواسنا يحوي داخله ما يكفي لتفسيره والتعامل معه) ، كما تتفرع عنها رؤية أخلاقية (المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق) وأخرى تاريخية (التاريخ يتبع مسارا واحدا وإن تبع مسارات مختلفة فإنه يؤدي في نهاية الأمر إلى النقطة النهائية نفسها) ورؤية للإنسان (الإنسان كجزء لا يتجزأ من الطبيعة ليست له حدود مستقلة تفصله عنها ومن ثَمَّ هُو ظاهرة بَسيطة أحادية البُعد، وهو كائن ليس له وَعْيّ مستقل غَير قَادِر على التَّجَاوُز والاختيار الأخلاقيّ الحُرّ). وقد أكَّدَ المؤلف أن العلمانية الجزئية مرتبطة بالمراحل الأولى لتطور العلمانية الغربية، ولكنها بمرور الزمن ومِن خلال تحقق المتتالية النماذجية العلمانية تراجعت وهُمِّشَتْ؛ إذ تَصاعدت معدلات العَلْمَنَة خاصة في العالم الغَربي، بحيث تَجاوزت مجالات الاقتصاد والسياسة والأيديولوجيا، وأصبحت العَلمنة ظاهرة اجتماعية كاسحة وتحولا بِنيويا عميقا، يتجاوز عملية فصل الدين عن الدولة، وعملية التنظيم الاجتماعي، ويتجاوز أية تعريفات مُعجمية، وأية تصورات فِكرية قاصرة محددة، فلم تعد هناك رُقعة للحياة العامة مُستقلة عن الحياة الخاصة، فالدولة العلمانية والمؤسسات التربوية والترفيهية والإعلامية وصلت إلى وِجدان الإنسان وتغلغلت أحلامه ووَجَّهَت سُلُوكَه وعَلاقاته بأعضاء أُسرته وقَوَّضَت ما تَبَقَّى من أخلاق نصرانية (مسيحية) أو حتى إنسانية. فالعلمانية ثمرة عمليات كثيرة متداخلة بعضها ظاهر والآخر بنيوي كامن، وهي تشمل كل جوانب الحياة العامة والخاصة والظاهرة والباطنة. وقد تتم عملية العلمنة من خلال الدولة المركزية بمؤسساتها الرسمية أو من خلال قِطاع اللذة من خلال مؤسساته الخاصة أو من خِلال عَشَرَات المؤسسات الأخرى ومنه المؤسسات الدينية ذاتها، أو من المنتجات الحضارية. الباب الثاني تناول فيه بعض تبديات النموذج العلماني على النحو التالي: * الفصل الأول: قدم فيه عَرضًا مُوَسَّعًا لبعض المصطلحات التي رأى المؤلف أن لها قيمة تفسيرية عالية مثل المُطْلَق العلماني والنموذج العلماني والمتتالية النماذجية. (1) المطلق العلماني الشامل. فإن أي نموذج فلسفي لابد أن يكون له مركز يشكل مطلقه، وركيزة نهائية للنسق. والنماذج الفكرية العلمانية قد تنكر أية نقطة مرجعية تتجاوز هذه الدنيا، إلا أنها تستند إلى رَكيزة أساسية ومَرجعية نهائية كامنة في المادة، وهذا المُطْلَق في أقصى درجات تعميمه هو المبدأ الواحد، وقد يأخذ أشكالا كثيرة، لكنه في التحليل النهائي هو الطبيعة التي نشير إليها عادة (الطبيعة / المادة)، ومن هنا يأتي الحديث عن الإنسان الطبيعي المادي الذي يعيش حسب قوانين الطبيعة / المادة، ويستمد منها وحدها المعرفة والقِيَم الأخلاقية والجَمَالِيَّة، بحيث أصبحت دَورة الإنسان ثُلاثية: الإنتاج في المصنع، والاستهلاك في السُّوق، واللذة في الملهى (أو أي معادل موضوعي). (2) اللحظة العلمانية الشاملة النماذجية. اللحظة النماذجية هي لحظة تعين النموذج وتبلوره، وهي لحظة يفصح فيها النموذج عن جوهره ووجهه الحقيقي. ويشير المؤلف إلى اللحظة العلمانية الشاملة النماذجية باعتبارها لحظة الصفر العلمانية حيث ترد العلمانية أصل الوجود إلى أن العالم وجد بالصدفة المحضة من مادة أولية سائلة غير مشكلة، وتتمثل نقطة النهاية أيضا في سيطرة مفاهيم المادة ومن ثم يصل إلى نقطة نهاية التاريخ وقمة التقدم والفردوس الأرضي. * الفصل الثاني: التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع حيث تتسم منظومة العلمانية في مراحلها الأولى بوجود صراع بين عالمين عالم متمركز حَول الذَّات الإنسانية، وآخر متمركز حول الموضوع الطبيعي / المادي، ولإلقاء مزيد من الضَّوْء على عملية الصراع هذه أورد المؤلف معالم كل نموذج وتجلياته، ثم عرض لمجموعة من التقابلات بين ثنائيات متفرعة عن عملية الصراع الرئيسية والتي تتبدى في الحضارة الغربية التي تهيمن عليها الواحدية المادية. * الفصل الثالث: فكر حركة الاستنارة. حيث ابتدع العقلُ الغَربيّ صُورة الاستنارة المجازية في القرن الثامن عشر، حينما كان العلم الحديث لا يزال غضًّا وليدا، فقد ساد الوهم لدى العلماء بأن العلم سينير المجهول المظلم ليصبح معلوما منيرا، وأن هذه العملية تدريجية، بمعنى أنَّ رقعة المعلوم ستتزايد على مَرّ الأيام، ورُقعة المجهول ستنكمش إلى أن تصل إلى نقطة تختفي فيها الأسرار، وتتحكم في الواقع و قوانينه، وتصلح البيئة بل ربما النفس البشرية ذاتها.. وبعد أربعة قرون من الاستنارة اكتشف الإنسان الغربي أن الأمور ليست بهذه البساطة .. فإنَّ ثمرة قُرُون طويلة من الاستنارة كانت إلى حَدّ ما مظلمة، ولذا راجع الإنسان الغربي كثيرا من أطروحاته بخصوص الاستنارة بعد أن أدرك بعض جوانبها المظلمة، وتناقضاتها الكامنة وخطورتها على الإنسان والكون. ومع هذا يقوم الفكر العلماني الغربي بنقل أطروحات الاستنارة من الغرب بكفاءة غير عادية دون أن يحور أو يعدل أو ينتقد أو يراجع. ويحاول هذا الفصل الكشف عن بعض جوانب فكر حركة الاستنارة الغربية وتناقضاته باعتباره الإطار المرجعي النهائي للعلمانية الشاملة، قدم لها ببيان مفهوم مصطلح الاستنارة في الخطاب الفلسفي العربي، أكد فيه أنَّ تعريفات الاستنارة في الأدبيات العَربية تعريفات عامة للغاية تدور حول حق الاجتهاد وحرية العقل بحيث لا يمكن للإنسان أن يختلف معها، فمن ذا الذي يرفض حق الاجتهاد والاختلاف وتحكيم العقل في جميع القضايا ؟! .. فالمشكلة -فيما يرى المؤلف - لا تكمن في استخدام العقل أو عدم استخدامه، وإنما في نوع العقل الذي يستخدم (عقل مادي أداتي أم عقل قادر على تجاوز المادة ؟ وفي الإطار الكلي الذي يتحرك فيه هذا العقل، والمرجعية النهائية التي تصدر عنه) . ويذهب المؤلف إلى أن فِكر الاستنارة هو الأساس الفلسفي الذي تنطلق منه العلمانية الشاملة، وأن هذا الفكر كان يتحدث عن متتالية العلمانية والتحديث المثالية، ويبشر بثمراتها، وأن ما تشكل في الواقع كان مغايرا إلى حد كبير عما تحدثت عنه البشرى. ثم عرض المؤلف لنظرة فِكر الاستنارة الغربية للمحاور الثلاثة التي تقوم عليها أية منظومة فلسفية وهي الإنسان والطبيعة والإله، وفي حالة الاستنارة يحل العقل محل الإنسان في هذا الثالوث. كما تناول موقف فكر حركة الاستنارة من نظرية المعرفة، والإشكالية الرئيسة التي تطرحها المرجعية المادية الكامنة، وهي إشكالية علاقة العقل الإنساني بالطبيعة / المادة وأيهما هو موضع الكمون. حيث تتبدى الإشكالية في الصراع بين النموذج الواحدي المادي المتمركز حول الذات، والذي يفترض أسبقية الإنسان على الطبيعة / المادة، وبين النموذج الواحدي المادي الطبيعة/ المادة، والذي يفترض أسبقيتها على الإنسان. وفي إطار هذا الصراع تناول المؤلف النظرية الأخلاقية ، فامتدادا لهذه الأطروحة المادية ظهرت الفلسفة النفعية للتعبير عن هذه النزعة الطبيعية الحسية المادية، وقد أعطت هذه الفلسفة للإحساسات الفيزيائية الأسبقية على المفاهيم الأخلاقية، بل والمفاهيم العقلية والإنسانية، فالأخلاق لا علاقة لها بالفضيلة أو الاحتياجات الروحية، وإنما لها علاقة بالسعادة ( اللذة والمنفعة) وبالتالي عرف الخير والشر تعريفا ماديا كميا، فالخير هو ما يدخل السعادة (اللذة) على أكبر عدد ممكن من البشر، وما يحقق لهم المنفعة، والشر هو عكس ذلك ( أي ما يسبب الألم والضرر) والعواطف الإنسانية إن هي إلا تعبير عن حركة المادة، وليس هناك أسئلة أخلاقية كبرى أو نهائية فكل الأمور مادية نسبية متغيرة. * الفصل الرابع: التمركز حول الأنثى : ناقش فيه حركة التمركز حول الأنثى باعتبارها أحد تجليات المتتالية العلمانية في مرحلتها الصلبة، ووضح السياق الفكري والاجتماعي لحركة تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها وحركة الفيمينزم (النَّسَوِيَّة)، حيث كانت الأولى تنطلق من الإيمان بتميز الإنسان مطالبة بالمساواة بين البشر، والمرأة في تصور هذه الحركة كائن اجتماعي يضطلع بوظيفة اجتماعية، ولذا فهي حركة تهدف إلى تحقيق قدر من العدالة الحقيقية داخل المجتمع (لا تحقيق عدالة مستحيلة خارجة)، وعادة ما تطالب حركات تحرير المرأة بأن تحصل المرأة على حقوقها كاملة سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية، أما حركات التحرر الجديدة (التمركز حول الأنثى) فجاءت تأكيدا على فكرة الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتصدر عن رؤية واحدية إمبريالية، وثنائية لا تتقبل الآخر، وكأنه لا توجد مرجعية مشتركة بينهما، فالمرأة متمركزة حول ذاتها، تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي، وفي حالة صراع كَوني أزليّ مع الرجل المتمركز حول ذاته. وقد رأى المؤلف أن ثمة تشابها واضحا تعرض لإبرازه بين حركة التمركز حول الأنثى والنظام العالمي الجديد و الإمبريالية النفسية من جهة، وبين الصهيونية من جهة أخرى. التقويم : تُمثل الدراسة إضافة مهمة للمكتبة العربية؛ لذا فهي جديرة بأن تقع في بؤرة اهتمام المثقفين والمفكرين والمتخصصين في دراسة المذاهب الفكرية وتطوراتها. ولو أضاف المؤلف إليها توثيق المادة المطروحة والتخفف بعض الشيء من التوسع في اشتقاق الألفاظ وسك المصطلحات وتجنب الاستطراد والتكرار لكان الكتاب - ونخاله كذلك - موسوعة عن الفكر العلماني المادي المعاصر، وإذا كان غالب من تعرض للحديث عن العلمانية تناولها من جانب من الجوانب فقد نظر إليها المؤلف نظرة شمولية تحليلية مبرِزًا أُطُرها النظرية و تجلياتها العملية في إطار نظرة المفكر الفيلسوف الذي لا يقنع بالظاهر بل يتغيا للعلل البعيدة للأشياء مستكشفا بعدها الكلي والنهائي، ولا عَجَب أن يَصْدُرَ مثل هذا العمل من المؤلفٍ هو رجل موسوعي، وهذه ثمرة رحلة طويلة من البحث، وحياة فكرية ثرية.