بلغة نظيفة مُرصعة بعناية وافرة، يكتب سعد سرحان، وهي لغة شديدة البياض بشكل لم نعتد أن نجد له توصيفاً ملائما في مدوّنة النقد في المشهد الثقافي المغربي. الكتابة عن تجربة هذا الشاعر، هي محاولة عليها أن تُركب أسندتها على صفائية خاصة ومنفلتة من عاديات السائد والمنطبع، كتابة لا أستطيع أن أسندها أي كثافة أو اختزال، لأني مرغم على استعمال توصيفات عديدة، لعلّي عبرها أستطيع الإلمام بما يكون عدّة لمحاورة النص هنا، الذي يَعتمِل وطبقات من التشكيل التأملي، والجمالي البكر. نص سعد سرحان الذي يفتح أفقا مما يفرح له الشعر، هو إيغال ماهر في التفاصيل، لدرجة تصير معها اللغة محاكاة لأدوات سينمائي ماكر، وهو نصٌ مضيء بهذا المعطى، نظرا لما يَعكسه من فهمٍ جديد لآليات تدبّر فعل الكتابة داخله. أنا هنا في بالغ الأمر أكتب بتخبطٍ واقع، نظرا للارتياب الذي يَتملكني بين نصوص هذا الشاعر النثرية والشعرية. حيث أني لا أجد كبير مساحة بينهما. كلاهما يدخلان في مفهوميتي للشعر لديه. فهو حتى على مستوى المقالة، يكتبها بطريقة تجعلها تنخرط بشكل عفوي مع بنات جنسها، من دون أن يتخلى عن طموحه عبرها في أن يوسع رقعة الشعر، الذي ينثره داخلها. وهو طرحٌ لذيذ فضلا عن كونه جديد، أن يقرأ الناس عن مشاغلهم الاجتماعية والسياسية بلغة شاعرة. قصائد صاحب "شكرا لأربعاء قديم" (الذي تعتبر نصوصه إلى جانب ما تكتبه لطيفة باقا الأقرب إلى قلبي، دائما) تلتحم وبُركانية تنقذف مفرداتها الجمالية كشظايا حمم عائمة، دون قيدٍ أو ضبط، في غائر ما ضمّنهُ إياها من توشيات سريرة الإفصاح عن الذات وتماهِ شاغلها اليومي والوجودي. قصائد بيضاء (وأحتمي بكلمة بيضاء، كمصطلح توصيفي لا خلاف على كفاءته المفهومية) خالية من أي انتساب لمحورٍ يمسكها. الاضطراب اتجاهها، قِواما على توجيهات الرعاية النقدية وكليشيهات المعيار السكوني. فهي بالإضافة لفرادتها الأدائية، تبقى حالة استظفار شعري متفجّر، ممسك بناصية اللغة، في محاولة دائبة لتلميع مبرح لما انتخبه من كلماتٍ، عبرها يستحضرها مُفردةً بصيغة الجمع، في المنظومة الحسية التي يشكلها هذا الشاعر منطبعةً بتأمل يُشمّر على رهافته، ليسجّل أهدافه العالية بتأنٍ مبالغ فيه، في مرمى قصيدته. الشاعر هو المالك الحقيقي للبياض، وهو نفسه البياض الذي يمتطي سعد سرحان إضاءة ما سَود فوقه ليُضمدَ صفحته بالشعرٍ نادر. إنّ مراقبة فعل الدهشة المترتب عن هذه قصيدة ، هي مصاحبة تشحذ بريقها بالقراءة، التي كيفما كان نوعها لا تستطيع إلا أن تلتحم وأنفاسها المتشابكة مع ما يدغدغ رغبتها بالاكتمال، وهو اهتبال يلتفت إلى نفسه بشكلٍ مدلل ورشيق. إذا كانت الكتابة لا تقود إلا لمزيد كتابة في غالب ما يعوّل عليه، فإن فعل القراءة إذ يتصادم وهكذا قصيدة، مطالب باجتياز عتباتها على سبيل التحية، دون الالتفات إلى ذلك الطقس العادي جدا والحذر، الذي بتنا نعيشه مع غالب ما يصطلح عليه بقصيدة النثر، حيث وهذا ما صرت أتعوّد عليه مع كل قراءة لقصيدة جديدة أخاف أن أقع في مستنقع (خلطة) غريبة وملغزة تحتمي تحث قميص هذه التسمية. الكلمات تتلاحق متشحَةً في خفّة دلالها، أما في قصيدته فهي تتداخلُ مشكلةً جزالةً شعرية تتمرن على الوفاء لحدسها، وهي كلمات تنعمُ بالاختبار النبيه الذي يتوجها به سعد سرحان، هذا الذي يكتب بخفّة من يمشي على حبل بين عمارتين شاهقتين وبعيدتين. لحظة شعرية مكتنزة لا تستعير الغموض الفنتاستيكي، هي القصيدة هنا، التي تعري عن صفائية غفيرة، صفائية تسندها روحية فاعلة، هي ما تلهبُ اِلتماعات الرؤية داخلها، وهي رؤية بليغة تلتحم ببعضها البعض، داخل العمود البارد للقصيدة، لتهب تجاذبات فِتنوية تسيل في هدوء يتمرّغ في لمعانه. وهو ما يحقّق لها تسمية أنها شعر نادر، إنها لحظة شعر نادر. ليست هذه المرّة الوحيدة التي أحاول فيها فعل الكتابة عن منجز صاحب "نكاية بحطابٍ ما"، مسودات عديدة بَددتها لذلك، الورقة هذه لا تتخذ من تجميع لحظتها، وإنما هي محاولة واقعة بكلّيتها في استنطاق تِرياق خاص يكون سند محاورة منجز هذا الأخير، الذي طالما كان حالة خاصة ومضيئة. كتابات سعد سرحان إلى جانب آخرين قلائل ممن كنت وما زلتُ أجدني معنيا بشكلٍ حاصل لمتابعتها، لما تَحقق لها من جاذبية مُنقعة بوميض دافئ، هي الآن صار لها أن تؤسس لمنحدر خاص في مضمار قصيدة النثر (هذه القطرة العظيمة التي أفاضت بحور الشعر على حدّ تعبيره) وهو منحدر خطير على حافة الخيال الرءوم تتزلج عليه، كما ترى، أبجديات هذا الشاعر المصولجة برنين معدنا، الذي يرتعش بالحياة وأوزان صفائها.