ونميل إلى اعتبار هذه المرحلة الأولى من الاستشراق مرحلة تأسيسية، هي مرحلة التحويل والإعتراف. إذ تمرّ عملية تحويل الشرق من معطى جغرافي إلى خطاب من خلال وضع هذه الصورة الطبيعية الجغرافية في إطار. ونقصد بالإطار ههنا البعد الذاتي بكل ما يحمله من خلفيات ثقافية وسياسية وأخلاقية واجتماعية[6]. فينتقل المعطى الأوّلي "الشرق " بذلك إلى رسالة تبليغية دلالية تحمل رموزا وشفرات يمكن حلها ودراستها. أما عملية الاعتراف فتتم عن طريق إضفاء مشروعية على هذا الخطاب، مشروعية لها من القوة ما يخوّل لها ضمان حسن استقبال العقل الغربي لها والأهم تبنّيها [7]. و كان للمؤسسات الأكاديمية ههنا دور هام في إحتضان هذا الخطاب ودفعه إلى المزيد من التشعّب إذ تناولت هذه الدراسات مواضيع متنوعة كدراسة لغة الشرق و تاريخه و علومه وغيره و ذلك لغاية الإحاطة به واستيعابه. و بناء على ذلك لم يعد الخطاب تجليا لذات تفكّر و تعبّر عمّا تفكّر فيه بشكل مبسط في أعمال أدبية، بل أصبح مظهرا من مظاهر التفكير الجماعي. أي لقد صار بعبارات فوكو " مكانا كله خارج لا باطن له".[8] وهنا تكمن قيمة اعتبار إدوارد سعيد للاستشراق خطابا، فالمؤسسات الأكاديمية رسمت نسقا للتفكير في الشرق وجذّرته وأصبحنا نتعامل مع "موضة " جديدة في التعامل معه ، فهو إمّا الشرق الروحاني الخرافي أو الشرق العنيف المتأخر. و برزت هذه المصطلحات مصحوبة بجملة من الدراسات التي تبنتها، نذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، دراسات المستشرق الفرنسي آرنست رينان Ernest Renan ( ت 1892 ) التي عنيت بتاريخ المسيحية وتاريخ شعب إسرائيل. ورغم اهتمام آرنست بهذا المجال فإنه قدّم مجموعة من الأفكار حول الحضارة العربية والإسلام بشكل عام وما يهمنا ههنا الصورة التي كوّنها عن الشرق وما تحمله من مواقف لا تخلو من الشدة والقسوة. إذ يعتبر رينان أنّ العربي فوضوي بطبعه[9] وهو ما يمكّنه دائما من الظفر في الغزوات ويضيف أنّ العرب لم ينتجوا علما قط إنما نقلوا العلوم عن طريق لغة العصر والحضارة آنذاك و هي العربية و استدلّ على ذلك بأن عقد قياسا على اللغة اللاتينية التي كتبت بها العلوم في القرون الوسطى وعصر النهضة إلاّ أنّ ذلك لم يعن بأي وجه من الوجوه أنّ روما قد ساهمت في هذه العلوم أو أنتجتها. ويشدّد رينان على أنّ الدين الإسلامي مناهض للعلم العقلي والتجريبي[10]. ثمّ إنّ هذه الدراسات لم تشرّع فقط لاعتبار الشرق همجيا بل اعتبرته شرقا ضعيفا و نقصد بالضعف ههنا الضعف السياسي، إذ أشار رينان أيضا في جملة أفكاره إلى أنّ الشرق يفتقر إلى التدبّر السياسي وهو عاجز متى أراد تكوين مجتمع مستمر[11]. وقاد هذا الضعف "المبرّر" من قبل الدراسات الأكاديمية إلى تطوير الموقف إزاء الشرق فمنذ أواخر القرن التاسع عشر أصبح الهاجس تمثيليا فالشرق لم يعد قادرا على تمثيل نفسه ولابدّ أن يمثّله أحد[12]. وظهر على إثر هذا مصطلح "التمثيل" و اتخذ أوجها عدةّ سنأتي عليها. و تتركز عملية التمثيل على مبدأ أساسي و هو إدراك الغربي لموقعه إذ يذكر إدوارد سعيد أنّ المستشرق الحديث "يرى نفسه بطلا ينقذ الشرق من العتمة و الإغتراب" ويحقّق ذلك من خلال بحوثه ودراساته التي تعيد تكوين ما فقده الشرق من لغاته وطرائق تفكيره. ولاشك أنّ هذا الاعتقاد يؤسس لمشروعية جديدة عدا تلك التي يفرضها البحث الأكاديمي من حريّة التقصّي وتسيس هذا الشرق، مشروعية تنهض على ضرورة " تمثيل "هذا الشرق و رسالة ثقافته وفكره و تاريخه و تقديمها له. إذ يبدو تناول الغربي لهذا الشرق تناولا لا يهدف من خلاله إلى خدمة الشرق أو الشرقي تحديداً وإنما هي خدمة يسندها إلى نفسه . فعملية البحث المكثفة التي طبقها الغربي على الشرق كانت ترمي إلى إكمال الموروث الأوروبي العلمي والثقافي، فالشرق ليس خاصا من هذا المنظور بالشرقي بل هو جزء لا يتجزأ من الغرب. إن التراث الحضاري للشرق تراث إنساني، و بالتالي يجب أن ينظر إليه كمجهود وحصيلة جماعية. و يستند الاستشراق في تصوره هذا إلى القيم و المبادئ التي انتشرت في عصر التنوير ونشير بذلك إلى النزعة الإنسانوية في القرن الثامن عشر، إذ كان الاستشراق مدفوعا بهاجس الكونية والتعميم وقد انتشرت في هذه الفترة الأعمال الموسوعية دليلا على تحّكم هذه النزعة في الدفق الفكري في ذلك العصر. وبالتالي يمكننا أن نعرّف التمثيل المعرفي أو الأكاديمي من خلال هذا التصور الكوني الهادف إلى التوحيد بمعنى عام وصهر الآخر- الشرق في النسيج الغربي الاستشراقي بمعنى خاص. ونتوّج هذا التعريف بالإشارة إلى الطابع السلطوي للمؤسسة الأكاديمية التي كانت تدعم الاستشراق في مرحلة ما معينة. فالسلطة التي تتحكم في هذا المشروع الاستشراقي ليست سلطة سياسية فقط كما قد يتبادر إلى أذهاننا إذا ما تصفحنا كتاب الاستشراق وإنما هي سلطة مركبة و ليست بقدرة معيّنة يتمتع بها البعض و إنما هي الاسم الذي يطلق على وضع استراتيجي معقد في مجتمع معين[13].