و للإجابة عن ذلك يعود إدوارد سعيد بأصل الاستشراق إلى العصر اليوناني استنادا إلى تعريفه للاستشراق طريقة في التفكير و أشار بشكل دقيق إلى إلياذة هوميروس[4] التي حملت مشروع "الجغرافيا المتخيلة"، القائمة على رسم حدود بين الشرق والغرب. وتظهر مثل هذه التقسيمات في أعمال هوميروس وغيره كمسرحية الفرس لايسخولوس مساهمة في إلغاء هذا الآخر ( الشرق) و تقديمه بصورة مركبة ينتجها خطابه. ويلمّح إدوارد سعيد من خلال هذا الارتداد إلى العصور القديمة إلى أنّ الاستشراق ليس حاجة أكاديمية ملحة ظهرت في القرون الأخيرة إنما هي ضرب من التفكير والنماذج إلا أنّ ذلك لا ينفي تجذّره من خلال المؤسسات المتنوعة التي ستكفله وهو ما يؤكد الطابع التطوري والمثابر للخطاب الاستشراقي. و قد أنتج هذا الخطاب مجموعة من المفردات و الصيغ التعبيرية التي سيشتغل بها في هذا الحقل الواسع و كنا قد سبق وأشرنا إلى ثنائية شرق-غرب المؤسسة للصورة النموذجية للاستشراق. وتستمد هذه الصورة مشروعيتها من أسطورة الطبائع الثابتة التي جعلت الغرب غربا والشرق شرقا بكل ما يحمله كلاهما من خصائص وطبائع مختلفة تجعل إمكانية التقائهما أمرا مستحيلا. إذ يبقى الغربي متفوقا على الشرقي الذي لن يستطيع إلى حدود القرن العشرين تزامنا و حركات التحرر الوطنية الحديث عن نفسه وإنّما سيقدّم في كل مرة على لسان الغربي ضمن رؤيته الدونية له. فالصورة التي أنتجها الغربي عن الشرق هي صورة مخترعة منذ العصور الأولى وهي غريبة عن إدراك الشرقي لشرقيته. ثم إنّ عملية تنزيل الشرق في الخطاب لم تجعله فقط متميزا عن الغرب بل و موضوعا له. إذ يتشكل الشرق موضوعا من اللحظة الأولى التي يكتسب فيها صفة الآخر ويستقل فيها اصطلاحيا ليكوّن كيانا جديدا. ويشير هذا الاستنباط الاصطلاحي لوحده على المهمة التي تخيرها الغرب في إعادة تشكيل المجالات و خلق جغرافيا زائفة أي صنع جغرافيا جديدة. و ستتواصل هذه الرغبة في إعادة التشكيل إلى عصرنا الحالي كما سنتبين ذلك لاحقا. إنّ الفكرة المؤسسة لاختلاف الشرق عن الغرب ليست مدعومة باستدلالات جغرافية ملموسة فقط بل يعضدها في ذلك جهاز مفاهيمي و تصورات تشكلت عن طريق نصوص مختلفة و يشدّنا في هذا الصدد نصّ فلوبير الذي قابل فيه الغانية المصرية وما لفت نظر إدوارد سعيد في هذه المقابلة [5] ليس فقط كونها أصبحت نموذجا للمرأة الشرقية فيما بعد و إنما الحركة السلبية لهذه الغانية داخل الخطاب فهي لم تتكلم و لم تعبّر عن مشاعرها أو افكارها بل ظلّ فلوبير يتحدّث من خلالها مكوّنا صورة عنها تتناسب ورؤيته للشرق. ونلاحظ كما لاحظ إدوارد سعيد أنّ فلوبير يتحدّث من موقع قوة خوّل له احتكار الخطاب والأحقية في إنتاجه، فسلطة الخطاب تمثل وجها من وجوه الإخضاع والتفوق مما يجعلنا ننتقل للحديث عن خطاب السلطة، هذا الخطاب الذي انتقل من أسطورة افتراضية عن تفوق الغربي على الشرقي إلى خطاب عملي أكاديمي مثبت. ويفترض إدوارد سعيد ههنا مرّة أخرى أنّ البدايات الرسمية لهذا النوع من الاستشراق (الواضحة على الأقل) كانت إثر قرار مجلس الكنائس في مدينة فيين بفرنسا إنشاء سلسلة من كراسي الأستاذية للغات العربية واليونانية والعبرية والسريانية بباريس وهو ما كرّس وجود هذا الشرق لا جغرافيا أو فكريا تصوريا فقط بل النظر إليه على أنه مجال للبحث والتعرف. و مع حلول منتصف القرن الثامن عشر أصبح الشرق مجالا علميا أكاديميا واسعا. ليتحوّل الخطاب النمذجي في العصور القديمة إلى خطاب معرفي علمي تدعمه مؤسسات أكاديمية و مثلت هذه المؤسسات مجالا سلطويا يخضع له الخطاب الاستشراقي.