كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني. السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة. السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات. أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية. في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة. لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد...، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.
بعد ساعات من الاستقبال بالقصر الملكي وبقايا لقطات ومشاهد من حفل الاستقبال، نقلت طائرة خاصة الوفد المغربي المشارك في فعاليات الألعاب المتوسطية في اتجاه العاصمة أثينا. في الطائرة، كانت الأجواء شبه احتفالية، فأكثرية الأبطال كانوا يتجولون في الممرات، بدون انقطاع، لأن مثل هذه السفريات تعد مناسبة ترتفع فيها درجة الانتماء وتتسع دائرة العلاقات الإنسانية التي تعتبر الرياضة أحد أبوابها الواسعة. بدأت المضيفات، ونحن على أبواب السماء، في توزيع الوجبات الغذائية، بدأ الجميع في أخذ مكانه وأضحى الصمت والترقب سيد المكان، أتذكر أن الجميع حصل على الوجبة المخصصة له، باستثناء الملاكمين الذين منعهم المسؤول عن الجامعة العربي حواض وقتها، من تناول الوجبات معللا ذلك بعملية الوزن التي ستجري غدا، وعلى الملاكم أن يحافظ على وزنه وعلى الوزن الذي سينافس على إحدى ميدالياته، كانت الأوامر صارمة حيث امتثل المعنيون لهذا القرار بدم بارد، ودون أدنى احتجاج، في عنوان كبير لشيء اسمه الانضباط الذي غاب بشكل مستفز اليوم عن العديد من الرياضيين، وربما يعد ذلك سببا من أسباب هذا التراجع الذي نلمسه بشكل واضح في العديد من المحطات، حيث إن الرياضي المعول عليه في احتلال المراتب الأول وبسبب عدم انضباطه يصبح خارج التنافس، وهذا حصل للعديد من الأبطال المغاربة، وكان آخرها ما حصل لوفد الملاكمة في أولمبياد البرازيل الأخير. عند الوصول إلى مطار أثينا الدولي، وجدنا في الاستقبال مسؤولين من وزارة الشباب والرياضة ومن اللجنة المغربية، التي كان أحد ممثليها الحسين بوهروال. الذي ما أن رآني حتى أخرج من حقيبته اليدوية «البادج» المخصص لي لتغطية الألعاب.سأله وقتها المسؤول عن القسم الرياضي بالتلفزيون، سعيد زدوق، عن بطاقته وبطائق الطاقم المرافق له، فكان رد ،سي الحسين، أنه لا يتوفر عليها وبالتالي فإن الجميع يجب أن يسحب أوراق الاعتماد من المكان المخصص لذلك لدى اللجنة المنظمة، مما أثار غضب المعلق التلفزي مطالبا إياه بتحمل مسؤولياته. لم أفهم وقتها سبب هذه الغضبة، لأنني لم أكن أعرف قيمة بطاقة الاعتماد، واستغربت لهذا السلوك، لأن سي الحسين وقبل سفره بأيام قبلنا إلى أثينا كان قد طلب مني صورتي ونسخة من الدعوة التي أرسلتها لنا وزارة الشباب والرياضة التي تتضمن المعلومات الخاصة بكل فرد من الوفد المغربي. بعد ساعات من الوصول والقيام بالإجراءات الإدارية لدى مصالح المطار بأثينا اتجهنا نحو الفندق الذي سنقيم فيه، وفي الطريق كانت شوارع أثينا تشد الأعين بالنظر إلى جمال شوارعها واتساعها وحركة المرور الميسرة. ومن الأشياء الملفتة في هذه المدينة ذات النفس الأسطوري، أن جميع الساحات فيها كانت تتوفر على ملاعب خاصة بكرة السلة، بل حتى في بعض الأزقة كانت هناك شباك لكرة السلة معلقة على أحد جدرانها. لذلك فهمنا أن هذه الرياضة الجامعية تحظى هنا باهتمام خاص، وأدركنا أيضا لماذا توجت اليونان ببطولة أوربا للأمم في ذات السنة. فلكي تكون بطلا بالقارة العجوز وفي رياضة معينة ما عليك سوى أن توسع قاعدة الممارسين وأن تتوفر على عيون تقنية قادرة على استكشاف المواهب وتطوير إمكانياتها التقنية، فصناعة الأبطال هي فلسفة خاصة ولا مجال فيها للعبث، ومازالت اليونان حتى اليوم تشكل أحد الأعمدة القوية داخل القارة. كان الفندق الذي أقمنا فيه من المستوى الجيد، واختار كل واحد منا رفيقه، وكان الزميل عبد النبي أبو فيصل من جريدة العلم »»عشيري»« في هذه المهمة التي ستستمر نحو أسبوعين. لم يكن الوفد المغربي الوحيد المقيم في هذا الفندق، بل كانت جميع الوفود الصحفية التي ستغطي هذه الدورة حاضرة، وكم كان الوفد المصري مزعجا بحق، خاصة وأنهم يتكلمون بصوت مرتفع، وليس لديهم أدنى اعتبار للآخرين، سواء في البهو أو عند الوجبات، وكانت طريقتهم في التعامل مستفزة إلى أبعد الحدود. في الصباح، انتقلنا إلى الملعب الاولمبي الذي كان سيحتضن الألعاب المتوسطية. وفي فترة لاحقة الألعاب الاولمبية التي لم تمنح لليونان وقتها، إذ أقصيت في السباق على حساب اطلانطا الأمريكية التي صادفت الاحتفال بمئة سنة على انطلاق الاولمبياد الحديث التي كانت أثينا محطته الأولى. الملعب الاولمبي كانت مرافقه في المستوى العالي، خاصة بالنسبة للإعلاميين الذين خصصت لهم كل الوسائل التقنية المطلوبة، وتحديدا المركز الإعلامي الذي يعتبر تحفة حقيقية، ومع مرور الساعات والأيام الأولى، بدأت تتشكل المجموعات لاعتبارات فرضت نفسها، وفي مقدمتها عامل السن أكثر من التجربة وأشياء أخرى.