يخاطبنا زارادشت بزهو مصطنع قائلا: "إنكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما تتشوقون إلى الاعتلاء، أما أنا فقد علوت حتى أصبحت أتطلع إلى ما تحت قدمي. فهل فيكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف على الذرى؟"(9). يا لغراباتك يا زارادشت، تتساءل عن ما هو بديهي، وأنت تعلم أن العشق يخرب مسكن الإنسان في الوجود، ويبعده عن مملكة الحقيقة، ويحرمه من مبدأ عدم التناقض، فيصبح مثلك ينظر إلى الأرض عندما يرغب في الاعتلاء إلى السماء، ويعتقد بأنه يمشي على السحاب وهو يحرك فوق الأرض قبل أن تأخذه إلى أعماقها فهي الوحيدة التي لا تزال تحبه وتسعى إلى احتضانه. وقد كانت ترعاه بعنايتها وتمنحه ثمارها، لكنها لم تحذره من خطورة العشق، لأنها ترى فيه مجرد جنون مثلك، بل كانت تباركه، لأنه يحرك الحياة لتخرج من القوة إلى الفعل. ويستمر الوجود الإنساني فوقها. أفليس أنت الذي تقول: "لا ريب أننا نحب الحياة، وليس سبب ذلك لأننا تعودنا الحياة، بل السبب في أننا تعودنا حب الحياة"(10). فما الفرق عندك بين أن تحب الحياة وبين أن تتعود على حب الحياة؟، هل العادة ليست هي الإنسان؟ وما الإنسان إذا؟، هل هو الذي يحب الجنون مثلك، أم أنه هو الذي يثبت وجوده انطلاقا من فكره ويطرد الأشباح قبل فوات الأوان؟. لم يكن الحكيم مطمئنا إلى هذه الأسئلة التي تتشوق إلى تمزيق الحجاب عن حقيقته، ولكونه أصبح مجنونا بالفعل، فقد أعلن هو نفسه عن هويته: "ما أنا إلا حاجز قائم على ضفة النهر، فمن له قدرة على التمسك بي فليفعل، ومن لا طاقة له على ذلك فلا يظن أني سأكون طوع يده يقبض علي كما يقبض (على عشيقته)"(11). هكذا يكون هذا العشاء الأخير مع الحكيم، هو بمثابة مراسيم الاحتفال بنهاية زمن العشق في أوج عنفوانه، العشق الذي يؤدي إلى الجنون. لندخل إلى مرحلة ما بعد الحداثة، باعتبارها مرحلة ما بعد العشق، حين أضحى يخضع لقانون علم العمران عند ابن خلدون، يولد ويبلغ أوجه ثم ينهار وكل ذلك في زمن يسير، لأن الأساس الذي يقوم عليه لا أساس له، إذ يتخذ من المنفعة منطلقه، وبمجرد ما تنهار المنفعة ينهار، ولذلك لم يعد يقود إلى تجربة الجنون كما عاشها الحكماء والشعراء، بل أصبح يؤدي إلى تجربة الإفلاس الاقتصادي. أما تجربة الإفلاس العاطفي، فلم تعد تهم أحدا. إنها فقدت شاعريتها، فهذا الجيل لا يعرف معنى كلمة أحبك، يعتبرها مجرد وسيلة تبرر الغاية، يمكن اعتبارها طريقة ميكيافيلية في العواطف. هكذا تحول العشق من مستقر لحقيقة الإنسان تبشر بميلاد جنونه، إلى مسكن يشيد من أجل الهدم، وليس من أجل السكن. لأنه سكنا مهدداً بالانهيار. فهل ننتظر عهدا من التجلي الصوفي والإشراق سيصبح من جديد أمرا ممكنا، وبعبارة أخرى؛ كيف يتسنى للإنسان الحديث أن يتساءل عما إذا كان يسكن بجوار الوجود، أم مغترب ينتظر انتقاله إلى العالم الآخر؟. يندهش هايدغر من اغتراب الإنسان عن ذاته، وإدارة ظهره لما ينبغي التفكير فيه، بمجرد نسيانه للوجود، ذلك: "أن النزعة الإنسانية الحقة هي تلك التي تفهم إنسانية الإنسان فهما يقوم على أساس من قربه إلى الوجود، ومن وجوده الخارجي قرب الوجود. والمعنى الحق للنزعة الإنسانية، يمكن أن نحفظه عن طريق تحديد المصطلح. وإعادة التحديد تتطلب أولا فهما أعمق وأدق لماهية الإنسان ولوجوده هناكDasein "(12). ومعنى ذلك أن تحديد ماهية الإنسان لا يتم إلا من خلال نزعته الإنسانية باعتبارها انكشافا للوجود، وبدون حميميتها مع الوجود يستضيفها الضلال. والوجود والفكر هما شيء واحد، فالذي يفتقد إلى الفكر لا يمكن أن يعيش في حميمية مع الوجود لأن الفكر يثبت الوجود. وبعبارة ديكارت أنا وجود يفكر. أو بالأحرى أنا أفكر إذا أنا موجود. هكذا يكون ديكارت قد وضع حجاب الوقار والجلال على الوجود لكي لا يمس براءته إلا من امتلك الفكر، لكن ما الذي يحكم على الإنسان بالاغتراب في الوجود؟، ومن أين يأتي عجزه على الانفتاح على الوجود؟، وهل يضع الوجود الموجود الإنساني في قلب الغموض، أم بالقرب من الانكشاف في ضوئه؟. وهل بإمكان خاتم الزواج أن يدمر التضاد بين الرجل والمرأة؟. من أجل تمزيق الحجاب عن حقيقة الإنسان، لابد من معرفة أسباب غربته في العالم، والملاحظ أن هايدغر يعيد الاعتبار لأهم هذه الأسباب من خلال قوله أن : "غربة الإنسان لا تنشأ إلا عندما تبتلعه القيم أو الأوهام الذاتية، وعندما يبتعد عن ملكوت الوجود الذي لم يكن قط كما تصورته الذات أن يكون موافقا لحجمها"(13). والحال أن الزوار الغرباء عن الوجود، لا تستطيع إرادتهم الاستماتة طويلا، لأنهم فقدوا ذواتهم في خضم الجماهير، وأصبحوا كائنات مجردة عن الماهية، لأن التفكير في حقيقة الوجود هو نفسه التفكير في إنسانية الإنسان الإنساني، ولذلك أنه إذا كانت إنسانية الإنسان كامنة في محبة الحكمة، أفلا يكون من الضروري أن يتعلم الإنسان منها طريقته في العيش، وعمق عشقه للآخر؟، وبعبارة أخرى، هل بإمكان الفلسفة أن تصبح مدرسة للعشق الحقيقي والذي تتحكم فيه الأبدية؟، وما هو المهر الذي تطلبه الفلسفة من عشاقها؟. يحدد سقراط مهر الفلسفة في ثروة لا تقدر بثمن وذلك لمن يريد الزواج منها، وهي: سهولة التعلم وقوة الذاكرة والشجاعة وكبر النفس. هذه هي الصفات المميزة لروح الفيلسوف: "فإذا اكتملت هذا الصفات لشخص، ألا يكون منذ حداثته أبرز أقرانه، وخاصة إذا كانت صفاته الجسمية متمشية مع صفاته الروحية"(14). هكذا يصبح التناغم بين عمق الروح ورقة وجمال الجسد هما ما يميزان الفيلسوف عن غيره. وإذا كانت الفلسفة تشترط هذا التناغم وتترفع عن الماديات، فلماذا لا يصبح اختيار المرأة للرجل كزوج يتماشى مع ذوق محبة الحكمة؟، وما الذي يجعل المرأة تبحث عن المال وقساوة العواطف، وحين تفشل في عشقها تلوم العشق بدلا من أن تلوم نفسها على سوء الاختيار؟. هوامش: 9 - نيتشه، القراءة والكتابة، ص .64 10 - نيتشه، م م ، ص. 65 11 - نيتشه، م م ، ص .65 12 - هايدغر، م م 13 - هايدغر، مقدمة النشرة العربية، إشراف بدوي، م م ، ص. 42 14 - أفلاطون، الجمهورية، ترجمة زكريا، المؤسسة العربية