1 التأطير القانوني للعمل الجماعي: ليس في نيتنا العودة إلى ماضي المغرب و النبش في أشكال التنظيم الجماعي التي كانت سائدة فيه قبل الحماية وبعدها؛ فالمهتمون بالتاريخ الاجتماعي و بالعلوم السياسية قد عرضوا لهذه الأشكال وقدموا نماذج عنها في تسيير شؤون القبيلة، أو تسيير شؤون الأهالي أثناء الاستعمار الفرنسي والإسباني، ولن نفيض في الحديث عن الانتخابات التي جرت بعد الاستقلال، وخاصة في السنوات: 1960 1963 1969. إن ما يهمنا أن نؤكد عليه أن التجربة الجماعية الحديثة في المغرب بدأت مع ظهير الميثاق الجماعي لسنة 1976، بعد صراع سنوات الرصاص، وبعد محاولتين انقلابيتين، وفي سياق انفراج اتسم بالالتفاف حول ملف الصحراء المغربية وتنظيم المسيرة الخضراء سنة 1975. هكذا، ومنذ مايقرب من 40 سنة قطع المغرب أشواطا في اللامركزية والديمقراطية المحلية بكل ما لها وما عليها إلى أن كان الميثاق الجماعي (اكتوبر 2002)، والمعدل سنة 2008 بالقانون 17.08 الذي عرف الجماعات على الشكل التالي: «الجماعات هي وحدات ترابية داخلة في حكم القانون العام تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي» (المادة 1)، ويقسمها إلى جماعات حضرية وجماعات قروية. وبعد حراك 2011 كرست الجماعات كمؤسسات دستورية؛ حيث أطلق عليها الدستور مفهوما جديدا هو الجماعات الترابية عوض الجماعات المحلية، وأفرد لها المواد: (135 146)، معرفا إياها بما يلي: «الجماعات الترابية للمملكة هي الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات» (المادة 135)، وأكد على تسيير شؤونها بكيفية ديمقراطية، وعلى مبادئ التدبير الحر، والتعاون والتضامن وتأمين مشاركة السكان في تسيير شؤونهم؛ بتمكين المواطنات والمواطنين والجمعيات من تقديم عرائض بهدف اقتراح نقطة في جدول أعمال دورات المجلس، ووضع آليات تشاركية للتشاور والحوار، كما أكد على ضرورة توفر الوسائل المالية، وعلى مبدأ استقلالية التدبير ووضع البرامج التنموية في مختلف المجالات،ودور الولاة والعمال في تأمين تطبيق القانون وتنفيذ النصوص التنظيمية، وممارسة المراقبة الإدارية، وعلى دورهم في مساعدة رؤساء الجماعات الترابية على تنفيذ المخططات والبرامج، وتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية. وقد كرس القانون رقم: 59.11 بتاريخ 21 نونبر 2011 المتعلق بانتخاب أعضاء الجماعات الترابية هذا المفهوم. 2 اختصاصات الجماعات الترابية من خلال الميثاق الجماعي (المواد 35 54): ماهو العمل الجماعي؟ وما هو مضمونه؟ وما هي مجالات تدخلات الجماعة الترابية؟ إن صفة «الجماعي» لا ترد في هذا السياق مقابلا لصفة «الفردي» في الاستعمال الدارج، إنها هنا صيغة نسبة إلى الجماعة, أي الوحدة الترابية التي سبق تعريفها أعلاه؛ فالعمل الجماعي، بهذا المعنى، هو الأعمال التي تقوم بها الجماعة، أي هذه الشخصية المعنوية التي لها حق التملك و التصرف فيما تملك طبقا للقانون. وتتكون الجماعة، بالأساس، من هيئة منتخبة هي المجلس الجماعي، ومن إدارة ومستخدمين و مستخدمات يشرفون أو يشرفن على مصالح و أقسام ومرافق عمومية. و يحدد القانون دور كل مكون في هذه المنظومة، فيعطيه مهمة التقرير وتحديد آليات الإشراف والتدبير، أو مهمة التنفيذ والمتابعة الميدانية والتنسيق، مع الإشارة إلى دور سلطة الوصاية في المراقبة. وفي المخيال الشعبي أسندت للجماعة اختصاصات مثل تسليم وثائق الحالة المدنية وتسجيل الولادات والوفيات، وجمع الأزبال، وإصلاح مصابيح (بولات) الإنارة العمومية. لكن مع التطور الذي عرفه المغرب منذ 1976 إلى اليوم, فإن اختصاصات الجماعات توسعت، وبإمكانها أن تكون مساهما فعليا في التنمية المحلية، ولو أن جماعاتنا حققت، فقط، نسبة تنفيذ 25 % من اختصاصاتها التي يخولها لها القانون لتغير وجهها الكئيب. فما هي اختصاصات الجماعات الترابية من خلال الميثاق الجماعي؟ ماهي اختصاصات المجلس الجماعي؟ ماهي اختصاصات رئيس المجلس الجماعي؟ في المادة 35 من الميثاق:» يمارس المجلس بالأخص اختصاصات ذاتية واختصاصات تنقلها إليه الدولة»، وفي المادة 44 تضاف الاختصاصات الاستشارية. والمادة 140 من دستور 2011 تضيف للجماعات الترابية اختصاصات مشتركة مع الدولة. اختصاصات المجلس الجماعي الاختصاصات الذاتية هي التي تملك الجماعة، بحكم القانون، حق القيام بها، إذا توفرت لها الوسائل، دون انتظار الموافقة القبلية لسلطة الوصاية. التنمية الاقتصادية والاجتماعية (المادة 36) المالية و الجبايات و الأملاك الجماعية (المادة 37) التعمير و إعداد التراب (المادة 38) المرافق و التجهيزات العمومية المحلية (المادة 39) الوقاية الصحية و النظافة و البيئة (المادة 40) التجهيزات والأعمال الاجتماعية والثقافية (المادة 41) التعاون و الشراكة (المادة 42) الاختصاصات القابلة للنقل (المادة 43): يمارس المجلس الجماعي، داخل النفوذ الترابي للجماعة، الاختصاصات التي يمكن أن تنقلها إليه الدولة في: إحداث وصيانة المدارس ومؤسسات التعليم الأساسي والمستوصفات والمراكز الصحية ومراكز العلاج، إنجاز برامج التشجير وتحسين وصيانة المنتزهات الطبيعية، إحداث وصيانة المنشآت والتجهيزات المائية...، حماية وترميم المآثر التاريخية... والمواقع الطبيعية، إنجاز وصيانة مراكز التأهيل والتكوين المهني، تكوين الموظفين والمنتخبين الجماعيين، البنيات التحتية و التجهيزات ذات الفائدة الجماعية. يكون كل نقل للاختصاصات مقترنا وجوبا بتحويل الموارد اللازمة لممارستها. الاختصاصات الاستشارية (المادة 44): يقدم المجلس الجماعي اقتراحات وملتمسات ويبدي آراء بشرط ألا تكون ذات طابع سياسي: *اقتراح الأعمال الواجب القيام بها لإنعاش التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجماعة إذا كانت تتجاوز نطاق اختصاصاتها أو تفوق الوسائل المتوفرة لديها أو الموضوعة رهن إشارتها. * يطلع مسبقا على كل مشروع تقرر إنجازه من طرف الدولة أو أية جماعة أو هيئة عمومية بتراب الجماعة. ويبدي رأيه وجوبا في كل مشروع إذا كان من شأن تحقيقه أن يرتب تحملات على كاهل الجماعة أو يمس بالبيئة. * يبدي رأيه حول سياسات وتصاميم إعداد التراب والتعمير، كما يبدي رأيه في وثائق التعمير طبقا للقوانين والأنظمة المعمول بها. ويبدي رأيه كلما طلبت منه ذلك الدولة أو الجماعات العمومية الأخرى. *يمكن للمجلس أن يقدم ملتمسات فيما يتعلق بجميع المسائل ذات الفائدة الجماعية باستثناء الملتمسات ذات الصبغة السياسية. اختصاصات رئيس المجلس الجماعي (المواد 45 54): خصص الميثاق الجماعي حوالي 50 اختصاصا لرئيس المجلس الجماعي وهي تتمحور حول محاور أساسية أهمها: أنه الناطق باسم المجلس وممثله في جميع أعمال الحياة المدنية و الإدارية و القضائية، مسؤول عن تدبير أشغال المجلس ولجانه، مسؤول عن تنفيذ مقررات المجلس، يدبر شؤون الموظفين الجماعيين على مختلف درجاتهم، ويمارس اختصاصات الشرطة الإدارية في ميادين الوقاية الصحية والنظافة والسكينة العمومية وسلامة المرور و التعمير، يعتبر ضابط الحالة المدنية ويقوم بالإشهاد على صحة الإمضاء ومطابقة النسخ لأصولها، ويمكنه أن يفوض بعض اختصاصاته لنوابه أو لموظفين جماعيين. 3 واقع العمل الجماعي والمسؤولية السياسية: تلك كانت اختصاصات مجالس الجماعات المحلية واختصاصات رئيس المجلس، ويمكننا في ضوء ذلك أن نطرح السؤال: أين مجالسنا من هذه الاختصاصات؟ هل استطاع المنتخبون أن يحققوا هذه الاختصاصات على أرض الواقع؟ وبأية نسبة؟ لاشك أننا كمتتبعين و كمهتمين و مواطنات و مواطنين نمتلك الجواب، وهو جواب بالنفي في الغالب الأعم؛ فجماعاتنا لم تحقق الكثير، وهي تعاني من انكماشات مزمنة في أداء أدوارها، ومن تدهور مستمر في نمط جودة الحياة، وتلبية حاجيات السكان بكيفية مقبولة مما يجعل منها جماعات معاقة في مجال التنمية المستدامة. إن الجميع يتفق اليوم أن في جماعاتنا اختلالات، وهي كلمة خفيفة لوصف الحالة. ومن المعلوم أن صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله وصف أوضاع الدارالبيضاء بهذا الوصف, أي الاختلالات في افتتاح دورة اكتوبر للبرلمان سنة 2013، مرجعا جلالته ذلك، وبالأساس، إلى ضعف الحكامة، وإلى أسلوب التدبير من قبل المجالس المنتخبة التي تعاقبت على تسييرها، والصراعات العقيمة بين مكوناتها، وكثرة مهام أعضائها، وازدواج المسؤوليات.... وضعف نجاعة تدخلات بعض المصالح الجهوية واٌلإقليمية، دون أن ينسى جلالة الملك دور الأحزاب، ضمنيا، في اختلالات العديد من المدن الكبرى والمتوسطة, حيث ضرورة العمل على إفراز كفاءات و نخب جهوية جديدة، مؤهلة لتدبير الشأن العام المحلي... هذا، وقد سبق لي أن نشرت على صفحتي بالفايسبوك أربع مقالات حول اختلالات التسيير الجماعي بالمحمدية، ركزت فيها على أربعة محاور، إلا أنني توقفت بعد نشر المحور الثالث، ومن وجهة نظري, فإن العناصر الواردة في هذه المقالات صالحة لوصف اختلالات التسيير و ضعف الحكامة في جماعاتنا الأخرى، والمحاور الأربعة هي: أ ضمور الإحساس بالمواطنة في تدبير الشأن المحلي. ب غياب ثقافة المؤسسة. ج غياب الحرص على استمرارية المرفق العمومي والخدمة العمومية. د اختلالات التسيير الجماعي: على من تقع المسؤولية؟ أ ضمور الإحساس بالمواطنة في تدبير الشأن المحلي: الجماعة أو المدينة فضاء مشترك للعيش، و بالتالي فهي تفرض على كل مواطن و مواطنة من ساكنتها واجبات، و لهما عليها حقوق. إن صورة المسافرين في سفينة هي المناسبة في هذا السياق؛ فلكي يصل كل راكب إلى مرفئه سالما عليه أن يحافظ على سلامة الركاب الآخرين، وأي ضرر يلحق بالسفينة يعرض كل الركاب للخطر بمن فيهم ربانها الذي يجب أن يتوفر على المعرفة الضرورية والدراية الكافية لاجتياز عباب البحر و أمواجه العاتية. إن على كل مواطن أو مواطنة، بمن فيهم المنتخبون، أن يتوفر على إحساس عال بالمواطنة، وألا ينظر إلى عتبة بابه فقط، ومن بعده الطوفان. في مسلكياتنا علينا أن نؤطر الناس في اتجاه خدمة الصالح العام، لا خدمة مصالح الأفراد. إنه الحس المدني وحده الذي يجعلنا نعتز بانتمائنا لمدننا. لكن في مدننا، غالبا ما يسعى كثيرون منا ودون تعميم طبعا إلى الحصول على منجز أو منفعة أو خدمة تهمه وحده، و في أحسن الأحوال تهم زنقته أو شارعه أو حيه، دون أن نعمل على امتلاك تصور شامل لما ينبغي أن تكون عليه مدينتنا، ونعمل على أن نجد الصيغ المشتركة للدفاع عنه و تحقيقه. إننا بمثل هذا السلوك الذاتي الضيق نحدث أول ثقب في جدار السفينة، خاصة إذا كان ربابنتها (مسيرو المدن في هذه الحالة) لا يبالون بما يحدث، ولا ينشغلون يوميا، و في الغالب، إلا بما يخدم مصالحهم الخاصة أو يحقق مردودية انتخابية. ب غياب ثقافة المؤسسة: للجماعات الترابية ميثاق جماعي ينظم سيرها وأنشطتها واختصاصاتها على المستوى القانوني؛ يتضمن ضوابط وقواعد قانونية لتشكيل الجهاز التنفيذي: مكتب المجلس، واختصاصاته، وحقوق المنتخب وواجباته في التسيير والمعارضة، وتنظيم حياة الجماعة من سير جلسات الدورات الأربع العادية أو الدورات الاستثنائية، وآليات تدبير الموارد المالية والبشرية، وطبيعة العلاقة مع سلطات الوصاية محليا وإقليميا وجهويا ووطنيا. ويأتي النظام الداخلي الذي يناقشه المجلس ويصادق عليه بعد انتخابه وتشكيل مكتبه مكملا وموسعا للممارسة الجماعية انطلاقا مما تتوافق عليه مكونات المجلس، وبما لا يتنافى مع القانون، هذا بالإضافة إلى التراكمات والمكتسبات الإيجابية التي قد تكون جماعة ما راكمتها عبر سنوات طوال. إن هذه العناصر مجتمعة، وغيرها مما هو من نفس الطبيعة، هو ما أسميه ثقافة المؤسسة التي يجب على جميع الفاعلين في العمل الجماعي استيعابها و تمثلها و التشبع بالدفاع عنها، و الحرص على أن يكون العمل من داخل المنظومة نصا وروحا، و تأطير المنتخبين للساكنة في ضوء ضوابطها من خلال توجيههم إلى الكيفية التي يطالبون فيها بحقوقهم لا فرض الوصاية عليهم واستغلالهم انتخابيا باستعمال إمكانيات الجماعة المادية والمعنوية. فما هو موقع التسيير الحالي بجماعاتنا من ثقافة المؤسسة؟ و هل أضافت التجارب الحالية، ومنذ 2009 إلى الآن، لبنات في بناء جدار ثقافة المِؤسسة/ الجماعة تحسب لها في كتاب حسناتها و تكرس توجهها نحو المستقبل باطمئنان و أمل؟ أنا كمتتبع أسجل أن التجارب الحالية عرفت و تعرف انتكاسات متوالية على مستوى استيعاب وتمثل ثقافة المؤسسة بالمعنى المبسط الذي قدمناه في الأسطر أعلاه؛ هناك تراجع مريع في بناء و تكريس مرتكزات الديمقراطية المحلية، وهاهي مؤشرات على سبيل التمثيل لا الحصر، وهي مؤشرات يعرفها كل المتتبعين القريبين من دواليب التسيير الجماعي: بعض الخلافات في المجالس الحالية حلت عن طريق العنف الجسدي؛ حيث جلد مستشارون وكسرت عظام آخرين، ووصلت الوقائع إلى المحاكم، وهي وقائع تعبر، في العمق، عن حيلة العاجز عن التدبير الديمقراطي لمجال الاشتغال. حرمان المستشارات والمستشارين من محاضر جلسات الدورات لأسباب واهية؛ تصوروا منتخبا يمارس حاليا وسيغادر بعد انتهاء فترة انتدابه دون أن يتوفر على أي أثر بأنه مر من هناك. أمام اللامبالاة و الارتباك الذي يعيشه سير عمل اللجان والجلسات العامة أشهر المسيرون في وجه المنتخبين بدعة جديدة في الفترة الأخيرة مفادها: لا مناقشة إلا في أشغال اللجان، وفي اللجان فقط؟؟ وهذا خرق سافر للميثاق الجماعي ولبنود النظام الداخلي، وهي مصادرة حق من حقوق المنتخب، وبواسطة هذه البدعة أصبحت الجلسات غرفة تصويت وتصويت فقط، هذا إذا لم تعقد الدورات سرية. هكذا ينضاف تكميم الأفواه في الجلسات إلى انتفاء الشفافية في فضيحة حرمان المنتخبين من المحاضر، إلى اتخاذ منهج العنف المادي أو الرمزي وسيلة من وسائل الإخضاع و سيادة الرأي الوحيد لترتسم أمامنا ملامح معول هدم ثقافة المؤسسة/الجماعة أو المدينة؛ نحن لا نقول المدينة الفاضلة، و لكن المدينة الحريصة على احترام القانون نصا وروحا، و التي تكرس تقاليد الاعتراف بالآخر والإنصات إلى رأيه، وضمان حقوقه. إننا بمثل هذا السلوك الإيجابي نؤسس للأجيال القادمة معالم طريق الإيمان بالوطن من خلال مؤسساته، بعيدا عن أي إقصاء أو تهميش أو عنف أو فرض الأمر الواقع. هذه الأمثلة المحدودة العدد مؤشرات فقط، ويمكن أن نجد مثيلات لها في مجالات أخرى مثل تدبير التفويضات الذي يعرف انزلاقات، و تدبير المرافق العمومية الذي يعرف فوضى عارمة، و الخلل في تدبير الموارد المالية والبشرية نوابه. والسؤال الذي ينتصب أمامنا في هذه الحالة: لماذا وصلت التجارب الحالية إلى الباب المسدود في مجال تنمية ثقافة المؤسسة؟ و ما هي مسؤولية الفاعلين المباشرين و غير المباشرين في هذا التقهقر؟ سنقدم عناصر من الجواب لاحقا. ج غياب الحرص على استمرارية المرفق العمومي والخدمة العمومية من اختلالات التسيير بجماعاتنا غياب الحرص على استمرارية المرفق العمومي كبنيات و تجهيزات و تدبير، وله صلة مباشرة بالاختلال السابق(غياب ثقافة المؤسسة)، وذلك على اعتبار أن المرفق العمومي هو الحجر الأساس في المؤسسة/الجماعة، وهو مناط أية ثقافة تتغيا التنمية الحقيقية وخدمة المواطن في إطار الصالح العام. المرافق العمومية من الآليات الضرورية لأية دينامية فعلية للتأثير في المحيط، فعاليتها تشكل عنصر جذب نحو المؤسسة، وجمودها أو شللها يشكل عنصر نفور وابتعاد عنها، أضف إلى ذلك أنها تقدم وجه المؤسسة إيجابا أو سلبا. ومن المعلوم أن التدبير الجماعي، في شكله الحديث، الذي انطلق مع ظهير الميثاق الجماعي 1976 قد بدأ في المحمدية مثلا مع حزب الاستقلال الذي أنجز تجربة سجلها المواطنون في وقتها كانطلاقة لا بأس بها، ثم جاء من بعده الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في فترتين انتدابيتين متتاليتين استمرتا 14 عاما (1983 1997)، وهما التجربتان المتكاملتان اللتان تظافرت عدة عوامل ذاتية وموضوعية لأن تجعلهما تحققان تغييرا جذريا لوجه مدينة المحمدية على مستوى البنيات التحتية والتجهيزات الأساسية، وعلى مستوى إنجاز مشاريع مهيكلة اجتماعية وثقافية و رياضية و ترفيهية، و هي حقائق يعترف بها كل المنصفين من المواطنات والمواطنين والمتتبعين للشأن المحلي من مهتمين وسلطات. لقد انشغلت التجربة الاتحادية بالمحمدية (ابتداء من الآن أعني بها التجربتين معا) على واجهتين: واجهة تحسين شروط حياة السكان بالعمل على ترميم وإصلاح البنيات التحتية والمرافق المتلاشية أو غير المكتملة، وتفعيل العمل الإداري و مواكبته المباشرة لتحقيق النجاعة الآنية المطلوبة، والواجهة الثانية تتعلق بتحضير المدينة للمستقبل بالتخطيط وإنجاز مشاريع مهيكلة للمجال ومؤثرة فيه؛ وهكذا فمن النوع الأول تمت إعادة تزفيت وتعبيد طرق ومسالك أحياء بكاملها واستكمال تجهيزات بعض التجزئات الأخرى، مثل: (درب مراكش الحسنية 1 و 2 السعادة درب جميلة درب وريدة لابيطا الحرية درب الشباب أحياء المدينة السفلى: ديور لكرم، ديور فريكو، ديور لقراعي، السوق القديم.....)، ومن النوع الثاني مشاريع: دار الثقافة سيدي محمد بلعربي العلوي، ومسرح عبد الرحيم بوعبيد، ومركز الرياضة والترفيه، وقاعات المطالعة وتوسيع مداخل المدينة وإحداث قنطرتين تحت السكة الحديدية: قنطرة القدس في بداية شارع المقاومة (البرادعة)، وقنطرة أخرى في نهايته قرب المقبرة، هيكلة و تجهيز حديقة المصباحيات، اقتناء أرض لإحداث منطقة للتنشيط الاقتصادي بالمنطقة الصناعية بجنوب غرب المدينة، والتي يعود الفضل في وجودها للاتحاد الاشتراكي بعد أن تعثر المشروع لسنوات تحت إدارة (ليراك)، تعيين بقعة أخرى لإحداث مشتل للمقاولات بحي المرسى.... هكذا كان المنتخبون الاتحاديون والاتحاديات مسكونين(ات) بطموحات كبرى، يمتلكون تصورا نسقيا للتنمية المحلية عملوا على صياغته انطلاقا من مبادئ الحزب و برامجه الانتخابية، ومن اختصاصات الميثاق الجماعي، معتمدين على قراءتهم الواعية لمعطيات الواقع وإمكانيات الجماعة وحاجيات السكان ومستقبل المدينة، وهذا بالإضافة إلى القيام بالخدمات الكلاسيكية التي تنجزها مصالح الجماعة و يؤطرها المنتخبون مباشرة من خلال حضورهم الميداني يوميا وتوزيع المهام فيما بينهم بكيفية لا تسمح بحدوث أي فراغ. والآن نطرح السؤال: ما ذا لو أن التسيير في مدينة المحمدية سار منذ سنة 1997 إلى سنة 2014 (ثلاث تجارب جماعية لمدة 17 سنة) بنفس الإيقاع والأهداف والخلفيات؟ لا شك أننا كنا سنكون اليوم أمام مدينة أخرى؛ مدينة رائدة تضطلع بأدوار ومهام طلائعية في جهة الدار البيضاء الكبرى، مندمجة في محيطها الاقتصادي والاجتماعي بسلاسة كبيرة، وتواجه تحديات الألفية الثالثة باقتدار و أمل، وماذا لو أن الجماعات المجاورة أتيحت لها فرص مشابهة؟ فماذا وقع؟ إن الأفق الضيق لتغيرات الألوان السياسية الثلاثة التي تعاقبت على تسيير المدينة بعد الاتحاد الاشتراكي أجهضت كل الطموحات والتحديات التي رفعها الاتحاديون، وغاب أي تصور لرفع إيقاع العمل التنموي بتسطير مشاريع واقعية قابلة للتنفيذ في الأمد المنظور بل أكثر من ذلك، فإن كل المشاريع التي لم تكتمل في التجربة الاتحادية بقيت تراوح مكانها إلى اليوم؛ تعرض بعضها للتلف والتلاشي، وأصبح بعضها أطلالا بعد أن كان جوهرة تسر الناظرين، ومنها ماكان ضحية مزايدات سياسية. بدا وكأن هناك من يستكثر على الاتحاد أن يقود تجربة رائدة في المحمدية، ويستهدفه من خلال إقبار مشاريعه القائمة على الأرض، بل إن بعض المشاريع التي خططت، من بعد، تعرضت لنفس الاستهداف، مع أن كل استثمار للجماعة، هو في الأصل، ملك للمدينة ولمواطناتها ومواطنيها ينبغي الحرص عليه واستكمال تجهيزاته كمرفق عمومي إلى النهاية بغض النظر عن اللون الذي كان من وراء إنجازه، خاصة أن بعض المشاريع لم يكتشف الناس أهميتها إلا مع مرور الزمن؛ هكذا فإذا كان البعض قد شكك في أهمية مسرح عبد الرحيم بوعبيد مثلا، فإن هذه المعلمة، وأمام الخصاص الكبير للمرافق المشابهة في الجهة، قد أصبحت اليوم قبلة لكل الجمعيات والأحزاب السياسية، وكل زوار المدينة وضيوفها، ومن المفروض أن تكون مشاريع أخرى، من نفس الطبيعة، لها المكانة الاعتبارية نفسها. وفي الجماعات المجاورة قام الاتحاد الاشتراكي، ويقوم حاليا، بمجهودات، في حدود إمكانياته، في تأطير السكان والاشتغال على بعض الملفات؛ نتذكر هنا دور إخواننا، من موقع التسيير، في جماعة الشلالات (1997 2003) حيث دافعوا باستماتة عن تصميم تهيئة المنطقة، وعملوا بديناميكيتهم على أن تتوفر الجماعة على مرافق في مقدمتها مقر الجماعة، كما يتذكر سكان جماعة عين حرودة البصمات التي تركها إخوتنا مليسة(1983)، وافقيرن، وحوري(1997) بجماعة حرودة من موقع المعارضة بالوقوف إلى جانب السكان والدفاع عن مصالح الجماعة. ولفترتين متتاليتين (2003 الآن) يسير الاتحاد الاشتراكي جماعة سيدي موسى بن علي، وهناك حرص كبير على خدمة الساكنة،وجلب الإمكانيات لتحقيق بعض تجهيزات بالجماعة سواء من مجلس العمالة أو مجلس الجهة. في هذا السياق نطرح السؤال عن الدور الذي لعبه المنتخبون المسيرون الحاليون في ملف شائك مثل ملف برامج أحياء الصفيح بكل من المحمدية وعين حرودة والشلالات؛ ففي عين حرودة مثلا ما يزيد عن 25 دوارا وحيا صفيحيا، وفي الشلالات ما يقرب من 10 دواوير، وفي المحمدية عشرات الدواوير. وفي مقابل ذلك هناك مشاريع إعادة الإسكان وإعادة الإيواء أو إعادة الهيكلة تنجز حاليا من طرف الدولة والمؤسسات الحكومية المختصة، وفي الغالب فإن هذه المشاريع غير مكتملة التجهيز، وغدا سترث الجماعات الكثير من المشاكل الإدارية والتقنية والتحملات المالية التي يجب عليها أداء فاتورتها، فيما يخص شق الطرق وتراخيص التزود بالماء والكهرباء وملف الاستثناءات، فكيف ستواجهها؟ اختلالات العمل الجماعي و المسؤولية السياسية: هناك مبادئ أساسية في دستور 2011، منها ربط المسؤولية بالمحاسبة، يقول في الفصل الأول منه: «يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة»؛ وأي غياب لهذا الربط سيجعل الوضع يتفاقم و يتحول من اختلال إلى جرائم. إن المسؤولية السياسية تصور شامل وعام، وهي لا تعني الفاعل الحزبي فحسب، وإنما تمتد لتشمل كل الفاعلين في العمل الجماعي من أحزاب وسلطات في مختلف دواليبها و مصالحها، والهيئات المدنية. وللمواطن والمواطنة منها نصيب. من الجميل أن نجد الإدارة الترابية تعترف اليوم على مستوى تشخيص وضع العمل الجماعي، في ولاية الدار البيضاء على سبيل المثال، بتضخم عدد المستشارين في بعض الجماعات، وتشتت الأغلبيات وعدم استقرارها، وهشاشة الأجهزة التنفيذية، وعدم تجانس مكوناتها، وسيطرة الحسابات السياسية أحيانا، وضعف مردودية اللجان الدائمة، وغياب مخططات التنمية واللجنة الاستشارية للمساواة و تكافؤ الفرص. هذا التشخيص كله صحيح وجميل، ولكن لماذا تنسى هذه الإدارة أو تتناسى مواقفها أيام الفساد الانتخابي وأدوارها الملتبسة في إفراز عوامل هذه الوضعية؟ لماذا تتناسى تواطؤها وسكوتها عن كل أشكال التجاوزات وخرق القانون، قبل الحملات الانتخابية وأثناءها وفي فترة تشكيل المكاتب، وحين ممارسة التسيير. إن الإدارة الترابية، انطلاقا من هذا كله، لا يجب أن تكون بمنأى عن المحاسبة على مسؤولياتها الثابتة في عدم الحرص على احترام القانون والتزام الحياد الإيجابي. الأحزاب بدورها مسؤولة سياسيا، ويجب أن تكون موضوع محاسبة أمام الناخبين ، كما عليها أن تمارس المحاسبة الداخلية على أعضائها المنتخبين والمنتخبات. وتأسيسا على ذلك، فحزب يسلم التزكيات بمقابل أو تحت ضغط تدخلات نافذة غير مسؤول ويجب أن يحاسب أخلاقيا وسياسيا وقانونيا، و رئيس مجلس بلدي يركب رأسه ويتخذ قرارات انفرادية دون التفات إلى القانون أو إلى الحزب الذي يمثله ليس مسؤولا،وأغلبية تسير وتقبل على نفسها أن تحاصر جلسات المجلس العامة وتفرض عليها السرية قهرا ودون احترام للقانون ليست مسؤولة، وأغلبية ثانية تفرض ديكتاتوريتها العددية على تسيير الجلسات ليست مسؤولة سياسيا أو حزبيا، وثالثة تسلم بالشعبوية في الممارسة، وتسمح بنوع من الفوضى لا مزيد عليه بأخذ الكلمة في الجلسات العامة من طرف مواطنين والضرب على الطاولات على الرغم من الضوابط القانونية لتسيير الجلسات ليست مسؤولة بالمرة. أغلبية تخرق قانون الصفقات العمومية في إبرام العقود وتحتال من أجل المزيد من النفقات وهدر المال العام ينعدم لديها حس المسؤولية، وأخرى تسخر إمكانيات الجماعة في حملات انتخابية ليست مسؤولة. الأغلبية التي تتعامل مع أشغال اللجان الدائمة وأشغال المجلس بلا مبالاة وباستخفاف ليست مسؤولة، أغلبية عجزت عن ملء مقاعد شاغرة في مكتب المجلس منذ ما يقرب من أربع سنوات ليست مسؤولة، الأغلبية التي تدور حول نفسها، ولم تستطع، لحد الآن، وضع بصماتها على الأرض، ولم تستطع أن تنمي نسبة تنفيذ مشاريعها سنة بعد أخرى، و لم تحرص على أن تكون خدمات المرافق العمومية في المستوى المطلوب، لم تعمل على تجويد نمط عيش السكان ليس هناك أي مبرر سياسي لوجودها. لكن علينا أن نتفق على طبيعة ما نتحدث عنه:هل نحن أمام أحزاب مسؤولة عن العمل الجماعي أو أننا أمام أشخاص يتصرفون باسم حزب ما، وقلب الألوان لديهم أسهل من تناول وجبة دسمة؟ وبالنسبة للمعارضة, فإن مسؤولياتها واضحة قانونيا وسياسيا وأخلاقيا ودون لف أو دوران؛ المعارضة، وبالرغم من كل الإكراهات التي تعترضها في سياق غياب ديمقراطية حقيقية في تدبير الشأن المحلي، هي الموقف البناء، هي الدفاع عن وجاهة مشروع حزبي،هي الاقتراح والمبادرة، هي الصوت الآخر في مواجهة صوت الأغلبية، هي صوت التوازن، هي التعبير عن رأي من لا رأي له داخل المجلس، و عن الرأي المسكوت عنه في الممارسة الجماعية، المعارضة الحقيقية لا تهادن ولا تساوم، المعارضة حضور ميداني وسياسي، مراقبة، فضح، احتجاج، صمود أمام الزوابع التي يحركها الباطل. أيها الحضور الكريم، إن انعدام حس المسؤولية، وفشل المنتخبين والمنتخبات في مهامهم، وغياب المساءلة إلا فيما ندر وفي ملفات أصبحت قضايا رأي عام، إن هذا الفشل ومن خلال المظاهر التي عرضنا لبعضها، هو الذي أعطى بالأمس، ويعطي اليوم للإدارة مبررات (موضوعية) حق تقديم بدائل لكل أنواع العطب التي تعيشها جماعاتنا والتي أخذت تقضم شيئا فشيئا اختصاصات الجماعات فمن الوكالات الحضرية التي كانت في البدء تقوم بدور استشاري إلى أن أصبحت شرطي مرور رخص التعمير، إلى تمثيلية السلطة في اللجان الدائمة للمجالس، إلى الموجة الجديدة من إحداث شركات التنمية المحلية في المدن الكبرى في مجالات السكن و النقل والتهيئة، والمحافظة على التراث المعماري، ومواكبة و تقييم وتدبير المرافق العمومية، وتدبير المرافق الثقافية والرياضية. إن هذه المجالات هي في الأصل من اختصاصات الجماعات الترابية. ولا ندري ما يخبئه المستقبل القريب لجماعاتنا؛ فهناك حديث الآن عن الفصل مستقبلا بين ماهو تقريري وما هو تدبيري؛ إذ سيبقى التقريري في يد المجالس المنتخبة بينما ستحدث آلية للتنفيذ (إدارة عامة أو آلية مشابهة) تتمتع باستقلالية عن الهيئة المقررة. فماذا سيبقى للمنتخبين غير صفتي التداول و التقرير؟ وبالتالي هل سنكون أمام أشكال جديدة من التدبير المفوض لباقي اختصاصات المجالس الجماعية؟ نكتفي بطرح السؤال ونترك الجواب للمستقبل القريب.