مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة . هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد. بعد معركة الاستفتاء على الدستور الممنوح و دعوتنا لمقاطعته، جاء استحقاق الانتخابات التشريعية لسنة 1963 ، و في هذه الانتخابات استفاد المخزن من خطئه الأولي في الانتخابات البلدية لسنة 1960،التي لم يتدخل فيها بشكل كبير، فقام في 21 مارس من سنة 1963 نفسها (أي قبل أقل من شهرين على الانتخابات) بتشكيل جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية "الفديك" و هي عبارة عن تجميع للحركة الشعبية و شبكة الأعيان من بقايا المتعاونين مع الاستعمار من الإقطاعيين و القواد القدامى و أزلامهم. و قد فازت هذه "الجبهة" بزعامة وزير الداخلية آنذاك محمد رضا اكديرة بحوالي 70 بالمائة من مقاعد البرلمان. استعدادا لهذه الانتخابات التي كانت أول انتخابات برلمانية بالمغرب، قمت بالاتصال بالأعيان المعروفين بنظافتهم و استقامتهم في الإقليم، و دعوتهم واحدا واحدا إلى الترشح باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فكان منهم من يتردد و منهم من يطلب مهلة للاستشارة و التفكير، إلا واحدا وافق على الترشح، فسلمته ملف الترشيح كي يُعبئه و يأتيني به صباح اليوم الموالي و كان آخر أجل لوضع الترشيحات، غير أنه جاءني على الساعة الحادية عشر ليلا يعتذر رادا الملف كما تسلمه مني. و في نفس الليلة جاءني بلمقدم رحمه الله، فقال لي أن الباشا اتصل بالشتيوي عبد السلام أمد الله في عمره و هو زميل لي في التعليم و طلب منه أن يبلغني أنه إذا ما رغبتُ في الترشح باسم حزب آخر فإن الإدارة مستعدة لتمويل حملتي الانتخابية و تضمن لي الفوز في الانتخابات. فقلت لبلمقدم و لماذا لم تَدَع الشتيوي نفسه يحمل رسالة الباشا فأجابني بأنه لم يجرؤ على ذلك. فقلت له أني سأقدم الجواب غدا. و في الغد أعلنت عن ترشحي باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. كانت الدائرة واسعة جدا، فهي تضم برشيد و اولاد حريز جميعها و اولاد سعيد و جمعة أولاد عبو (فوكو) و نصف المذاكرة، كانت تسمى دائرة الشاوية الوسطى. بدأت الحملة الانتخابية في هذه الدائرة الشاسعة في مواجهة الإدارة و سلطاتها من جهة و في مواجهة مرشح الجبهة الذي تسانده الإدارة بشكل واضح و كذا في مواجهة حزب الاستقلال الذي رشح لمنافستي صاحبي العماري نفسه الذي وقعت لي معه قصة الاستفتاء التي ذكرت سابقا. ترأستُ تجمعات ناجحة في برشيدالمدينة، و في عدة أسواق من أسواق القبائل التي تشملها الدائرة. و من هذه التجمعات تجمع نظمتُه في جمعة فوكو (أولاد عبو)، حيث كان لنا مناضلون أقوياء و عاطفون متحمسون من بينهم ولد الحريزي و الحاج الحطاب، و كان هذا الأخير من الأغنياء و أعيان القبيلة و قد أصبح يتعاطف معنا بفضل الصداقة التي ربطها مع القايد العايدي، و هو مقاوم سابق عُين قائدا بالقبيلة و كان معروفا بنزاهته و استقامته مما أثر على الحاج الحطاب و دفعه إلى التعاطف مع الاتحاد الوطني و رجالاته. و لأنه لم يكن لنا مكتب بالجمعة فقد عقدت التجمع في السوق الذي حضرت إليه صحبة ثلة من المناضلين من أبناء برشيد من بينهم "الجيل" المناضل الصلب المعروف ببرشيد و من النساء السيدة الشنانية و هي من المناضلات القويات. حين جئت و شرعت في التحضير لمخاطبة المواطنين المتسوقين و أغلبهم من البدو، و صعدت فوق صندوق خشبي أعددتُه كي أكون مشرفا على حلقة الناس المتجمهرين حولي، طوقني قائد المنطقة بمخازنيته، فتوجهت إليه بالقول لماذا كل هؤلاء المخازنية قال لي أن ذلك لحمايتك فأجبته إحم نفسك فقط أما أنا فلا حاجة لي إلى حماية من هذا النوع. ثم توجهت إلى المواطنين بواسطة الميغافون أدعوهم للدنو و الاقتراب قائلا لهم أن هذه الانتخابات هي انتخاباتكم و ليست لأحد آخر، فإذا قال لكم القايد أو الشيخ أو غيرهما صوتوا على فلان أو على علان فقولوا له أن هذا ليس حقك بل صوتوا على من ارتأيتم فيه الاستقامة و النزاهة و الشجاعة في الدفاع عن حقوقكم... ثم عرجت على القايد فقلت لهم هل تعرفون من هو قائدكم؟ إنه إبن الشرادي و هو أكبر إقطاعي في ناحية خريبكة و ليس له أي حق في توجيهكم أو توجيه تصويتكم.... و لما أنهيت التجمع و اتجهت نحو السيارة، التحق بي القايد متهما إياي بتحريض الناس ضده، فقلت له أن ما قلت لهم هو أن الانتخابات لا حق لك في التدخل فيها فهل يحق لك ذلك قانونا، فقال لي إن "العروبية" يفهمون الأمور بشكل أعوج، فقلت له لا بالعكس فهم يفهمون أحسن مني و منك و ما كلمتهم إلا باللغة التي يفهمونها. فاحتج بالقول أني ذكرت لهم والده و قلت لهم أنه إقطاعي، قلت له هذا صحيح فإذا أردت التنصل من ذلك فتنازل عن الهكتارات التي تملك كي نوزعها على الفلاحين و نكون متساوين، و كان هذا الحوار بيننا يتم علنا و أمام جمهرة من المتحلقين. في تلك الأثناء، كان منافسي الاستقلالي العماري الذي ذكرته سابقا، يقف مع المتحلقين فقال مغتنما هذا الجو الحماسي : "الحق ما قاله سعد الله" فأجابه القائد :"أسكت أنت هذا ليس شغلك" فقلت له كيف تقول لمرشح قد يصبح غدا نائبا عن الأمة في البرلمان أن هذا ليس شغله، فارتبك القائد و قال : "أنا أتكلم معك أنت فما شأنه هو؟" و في طريق عودتنا إلى برشيد، كنت أجلس في سيارة الحاج سعيد رحمه الله و هو يقود سيارته "أوبيل" فيما جلس ثلاثة من الشباب في المقعد الخلفي، بينما كانت ثلاث سيارات أخرى من المرافقين تتبعنا. و فجأة تكسرت الواجهة الزجاجية الأمامية للسيارة بسبب حجر لا أدري لحد الآن هل كان مقصودا و بفعل فاعل كان ينتظر عودتنا إلى برشيد، أم كان صدفة نتيجة لارتطام حجر من أحجار الطريق بالزجاج؟ المهم هو أن السيارة و بعد تشتت الحطام الزجاجي مما حال دون السائق و الرؤية الصحيحة، قد مالت أولا يسارا ثم يمينا قبل أن تنقلب على ظهرها على بعد عدة أمتار من الطريق. خرج السي سعيد سالما و كذلك فعل الشبان الثلاثة و بقيت أنا عالقا داخل السيارة، هبط المرافقون الآخرون من سياراتهم و أخرجوني. لم أُصب إلا بجرح بسيط. واصلنا المسير حتى برشيد حيث كان تجمع آخر مُبرمج بملعب يوسفية برشيد المقابل للمحطة الطرقية "لاغار" ينتظرني فدخلت و ألقيت كلمة حماسية و كان دم الحادثة لا يزال على جبيني، فهاجت الجماهير و خرجت في مسيرة صاخبة في شوارع برشيد، كان يوم الجمعة ذاك يوما مشهودا. و في الجمعة التالي 17 ماي توجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع، و في نهاية المساء بعد عمليات الفرز بدأنا ننتظر نتائجها. و أُعلنت النتائج فكان أن الفائز بالمقعد هو مرشح "الفديك" (لا أذكر إسمه) و وجدت شيخا يبكي حسرة فلما سألته عن السبب قال لي كيف يعقل أن الجميع صوت على لون الاتحاد و أن الأرصفة مليئة بألوان الأحزاب الأخرى مرمية و لا وجود لأثر لوننا و مع ذلك يفوز آخر، فقلت له أننا فزنا لأننا كشفنا هذا التزوير و تبين لكم من يريد بكم شرا و هذا فوز عظيم. بعد حوالي أسبوعين على إعلان نتائج الانتخابات، تم استدعاء أعضاء المجلس الوطني للحزب لحضور اجتماع بالدار البيضاء، من أجل تقييم مجريات الانتخابات بأكملها كان هذا الاجتماع برئاسة عبد الرحيم بوعبيد و عبد الرحمان اليوسفي. و طفق أعضاء المجلس الوطني في تقديم تقارير و عروض عن الاستفزازات التي تعرضوا لها في دوائرهم و مناطقهم من طرف السلطات المحلية. شعرت بأمر غير عادي، إذ ذهبت إلى مطبخ المقر، الذي كان موجودا بزنقة علال بن عبد الله، و أطللت من النافذة الخلفية فرأيت حوالي خمسين سيارة شرطة مركونة (لم يكن الفندق قد بني بعد) فاستفسرت بلحاج العمدة رحمه الله و هو أحد المداومين بالمقر، عن سبب هذا الكم الكبير من سيارات الشرطة فقال لي أنه لا يعلم لذلك سببا فهذه أول مرة يحدث فيها هذا الأمر". كان الداخلون للمقر لا يلاحظون شيئا و لا يتعرض لهم أي أحد، لكن ما أن يجازف أحد بالخروج حتى يتم اعتقاله، و قد حدث هذا لعدد قليل من المناضلين دون أن نشعر به، لكن حين جاء دور أحد إخواننا من الجنوب الذي كان يحمل معه بعض المال لاقتناء بعض السلع من البيضاء بعد انقضاء الاجتماع، ما أن أحاط به رجال الأمن السريين يريدون اعتقاله حتى شرع في الصراخ ظنا منه أنه وقع ضحية لصوص. هنا تأكدنا بأن الأمر يتعلق بحملة اعتقالات واسعة و أن السيارات الخمسين إنما جاءت لنقلنا. في هذه اللحظة شرعت أنا و محمد المكناسي رحمه الله في التحرك بحثا عن منفذ لتهريب المناضلين المحتجزين بالداخل فاكتشفنا أن البوليس كان بالمرصاد في كل المنافذ. عدت إلى مقعدي فكتب لي محمد المذكوري رحمه الله، و هو غير المذكوري الذي كان معي في جيش التحرير، ورقة يطلب أن أتطرق في تدخلي إلى نقطة معينة ذكرها لي، فكتبت على ظهرها "البوليس في انتظارنا" و مررتها إلى أن وصلت عبد الرحمان اليوسفي الذي قرأها و وضعها أمامه إلى حين الانتهاء من عرضه ثم توجه إلى المجتمعين قائلا: "أيها الإخوان ، قد ننزل ضيوفا على البوليس هذه الليلة و لكننا سنقرر البقاء هنا معتصمين" فضجت القاعة بالتصفيق. و على التاسعة إلا ربعا، سمعنا رنة جرس واحدة ثم طرقا عنيفا على الباب و ضربات متوالية بأعقاب البنادق حتى تحطم الباب، و دلف علي بلقاسم مدير الأمن الإقليمي محاطا برجال الشرطة ، و صاح في السيد العربي حارس المقر لماذا لا تريدون فتح الباب؟ و صعد مباشرة إلى المنصة حيث توجه بخطابه إلى السي عبد الرحيم و السي عبد الرحمان قائلا: "لدي أمر باعتقالكما" فقال السي عبد الرحمان اليوسفي متوجها إلى المجتمعين : "أيها الإخوان هذا مدير الأمن الإقليمي السي علي بلقاسم يقول أن لديه أمرا باعتقالنا و نحن نقول له مرحبا" و بدأ التصفيق ثانية. و شُرع في عملية الإنزال، فلما جاء دور الصحفيين الأجانب الذين تم استدعاؤهم من طرف عبد الرحيم بوعبيد لتغطية الاجتماع في الخروج، اكتشف مدير الأمن الإقليمي أنه شرب مقلبا لن ينساه لأنه كان ينوي القيام بالمداهمة دون شهود، و ربما كان رؤساؤه يريدون تقديمنا للمحاكمة صحبة سلاح يزعمون أنهم وجدوه بالمقر أو ما شابه ذلك، لكنه الآن أدرك أن العملية ستُسلط عليها أضواء الصحافة العالمية فغضب غضبة كبرى. أما نحن فاكتشفنا أن السلالم ، التي كانت تصل باب الكتابة العامة للحزب في الطابق الثالث بالباب الرئيسي، كان يقف على كل درجة من درجاتها شرطيان مسلحان ، أحدهما على اليمين و الآخر على اليسار، و هكذا إلى حين وصولنا للشارع حيث نجد جمهرة من رجال الشرطة يحيطون بسيارة الفوركونيت الفاغرة فاها لالتقام كل من ينزل من المقر. بدأ إنزالنا إذن، واحدا واحدا و إركابُنا في سيارات الفوركونيت التي كانت مركونة بانتظارنا منذ الصباح. جيء بنا جميعا إلى كوميسارية المعاريف ،حيث وُضعت أربع طاولات في ساحتها، و شرع البوليس تباعا يسجلون المعلومات المتعلقة بنا ، بأشخاصنا و بمهامنا و مسؤولياتنا الحزبية. بعد ذلك رأينا السي عبد الرحيم و السي عبد الرحمان يُساقان إلى أحد المكاتب بينما وُضعنا نحن في قبو تحت الأرض. و في حوالي الحادية عشر و نصف تقريبا أو منتصف الليل، و أنا أطل من نافذة القبو و هي نافذة تهوية صغيرة و مشبكة تطل على أرضية شارع الروداني، رأيت السي عبد الرحيم مُغادرا فقلت للإخوان أن السي عبد الرحيم قد أُفرج عنه. و في الصباح الموالي، تم إخراجنا مجددا إلى الساحة لاستكمال عمليات التسجيل الأولية التي لم تتم في الليلة السابقة. و هناك رأيت سي عبد الرحمان اليوسفي ، الذي قال ضاحكا: "لقد ترقينا عنكم بعض الشيء"، في إشارة إلى منامة (بينوار) كان متلفعا بها في ذلك الصباح البارد. سرى نبأ اعتقالنا إلى أقاربنا و بدأت بعض العائلات المقيمة بالبيضاء أو بالقرب منها في إرسال التغذية إلى ذويها المعتقلين، فكانت جميع هذه الأغذية تُجمع و تُوزع بالعدل على المعتقلين الذين كان معظمهم من خارج البيضاء، و كان المُشرف على هذه العملية آنذاك هو الأخ عبد الواحد الراضي، ثم توليت هذه المهمة ، بعد أن أخذته "الغولة". و "الغولة" هاته لقب أطلقناه على عملية كنا ننتظرها و نعاني منها كل ليلة. إذ ما أن يتقدم الليل و نَخلُد إلى النوم، حتى تتم المناداة على أربعة أو خمسة أسماء من إخواننا فيذهبون بهم لا ندري إلى أين دون أن يعود الذاهبون أو يظهر لهم أي أثر. و لأن الأمر بات يتكرر كل ليلة كنا نتساءل عن مصيرهم، و كنا نقول حين يُفتح علينا الباب ليلا أن "الغولة جات" (ها قد جاءت الغولة). و هكذا إلى أن تمت المناداة علي صحبة آخرين بعد مرور حوالي ثمانية أيام على اعتقالنا. فعلمت حينها أن الغولة كانت تنقلهم إلى غارها في مُعتقل درب مولاي الشريف الرهيب، الذي ما أن دلفناه ? و لم نكن معصوبي الأعين و لا مُقيدي الأيدي ? حتى سمعنا صراخ المعذبين في جوفه، و بدأنا نتلقى حصتنا الأولية من الضربات بالعصي و السلاسل الحديدية (سلاسل الدراجات) و نحن في الممر لا نزال. و في هذا السياق لا زالت صورة أحد مناضلينا من مدينة خريبكة و هو بلبصير (أصبح برلمانيا فيما بعد) يتلقى ضربة في خده من أحد الجلادين الذي بتنا نُلقبه فيما بعد ب "العافية" و الذي أمسك بقب جلابية آخر و لفه عدة مرات قبل أن يرميه ليرتطم بالجدار...كان كل هذا يحدث و نحن بالممر لا نزال. و حين وصلنا تم اقتيادنا إلى زنازين بالقبو الأرضي للمعتقل في مجموعات صغيرة و أحكموا إغلاقها علينا. كنت أسمع المناداة على بعض إخواننا : "فلان أين هو فلان؟" ثم يتم اقتياده إلى مكان آخر مجهول ما لبث أن أصبح معلوما لدي حين حل دوري و تمت المناداة علي و اقتيادي إلى مكتب جلس خلفه المحقق الذي طلب مني الجلوس على الكرسي المقابل، تحقق من إسمي ثم سألني عن المؤامرة التي كنا نحيكها لقلب نظام الحكم، أجبته بأننا حزب سياسي معارض يعمل في العلن و طبقا للقوانين، فرد بهدوء أنه لا يتحدث عن الواجهة الحزبية و لكن عن الانقلاب الذي يتم تدبيره، و ما أن سمع نفيي للأمر حتى أمر الجلادين الذين كانوا خلفي مباشرة فانتزعوني انتزاعا من الكرسي الذي كنت أقتعده، و شرعوا في عملية ضرب قاسية. كانت أدوات التعذيب حاضرة في مكتب التحقيق، و هي تتمثل في الطيارة التي تجعل من الخاضع للتعذيب محمولا على عمود و يتلقى الضرب المبرح على أخمص القدمين. و قد ظل هذا ديدننا في المُعتقل لحوالي شهر، اختاروا بعده من ضمننا مجموعة مثلت أمام المحكمة ، و أفرجوا عن الباقين و كنت من بينهم. أما الذين حوكموا، فقد وُجهت لهم تُهم "التآمر لقلب نظام الحكم" و "المس بسلامة الدولة الداخلية" و توبع بمقتضاها 102 من قادة و مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. و صدرت في حقهم في الخامس عشر من مارس 1964 أحكام قاسية، من بينها الحكم بإعدام كل من محمد البصري و عبد السلام الجبلي و عبد الفتاح سباطة و محمد بنسعيد و الحسين الخضار حضوريا، و كذا أحمد أغوليز (شيخ العرب) و المهدي بنبركة غيابيا. الحلقة المقبلة: الإرهاب و التضييق