ما يهمنا نحن في هذه «الحلقات الرمضانية» هو إلقاء بعض الضوء على «حياة محمد قبل النبوة»، وتحديدا على الفترة الممتدة ما بين زواجه من خديجة بنت خويلد ونزول الوحي؛ وهي مرحلة «مظلمة» تستغرق 15 سنة وتدخل بالمستطلع، حسب ما يراه الباحث سعيد السراج، «ظلاماً دامساً إلى حيث لايدري كيف يسير وإلى أين يمضي وماذا يلاقي، فهو لا يحس إلا بخشونة الريب إذا مد يده لامساً، ولا يسمع إلا زمجرة الشكوك إذا مد عنقه مصغياً». والسبب في ذلك أن محمدا لم يكن، عموما، قبل النبوة وقبل أن يشتهر أمره «إلا واحداً من قومه وعشيرته، فلا يهم الناس أمره ولا يعنيهم نقل أخباره ولا التحدث بها في بيوتهم ونواديهم، توضح المعطيات الأثرية والبحوث الحديثة التي تناولت "الإسلام المبكر" وعلاقة الإسلام باليهودية كديانة كانت تزاحم الوثنية وتنافسها في مرحلة ما قبل الوحي، حسب ما يذهب إليه باحثون مستشرقون متخصصون في الدراسات القرآنية، أن الرواية الإسلامية- التي تمعن في "تأصيل" العداء بين محمد والأحبار- تستظل بالتباسات كثيرة، وتعكس "قضايا" تاريخية غامضة وغير مفهومة. حيث يرى موريس فايق في مقال له بعنوان "نحو قراءة جديدة في نشأة الإسلام" أن دراسات بعض هؤلاء المستشرقين (أمثال باتريسيا كرونه ومايكل كوك) تذهب إلى أن "الظواهر اليهودية في الإسلام تبدو بمثابة حجر الأساس، وسابقة على التأثيرات المسيحية المتأخرة والتي يدلل عليها ليس وحسب التسليم بعيسى، بل كذلك العداء الكبير لليهود في الإسلام، والذي يبدو أنه إسهام متأخر في الإسلام. بالمقابل يلاحظ المرء أن تشابهات مهمة بين الأصداء التي نقلت عن النقاشات اللاهوتية التي دارت في العصر الأموي حول مسائل الجبر والحرية، مع تلك المسيحية في الفترة السابقة مباشرة. كما يمكن بوضوح التمييز ضمن الإسلام بين فترتين، واحدة منهما تخضع لتأثيرات يهودية جلية ومعادية للعرب، والأخرى تبدو فيها تأثيرات مسيحية وترفع من شأن العرب بشكل واضح وتعتبرهم مادة الإسلام، والاختلافات هذه لا يمكن تفسيرها بما يقدمه بوب، وخاصة أن المرحلة الأولى (ذات التأثيرات اليهودية والمعادية للعرب) لا يمكن أن تكون لاحقة على التأثيرات المسيحية العربية التي تميز الإسلام الآخر، من هنا ربما علينا أن نقول أن الإسلام بدأ يهوديا، وليس مسيحيا كما يرى بوب". وإذا كان "الإسلام قد بدأ يهوديا"، بمعنى أنه لم يكن يخلو من تأثيرات يهودية ناتجة عن حوار محمد مع بعض الأحناف المتحنثين في غار حراء أو ناتجة عن عوالق الطريق أثناء سفراته إلى اليمن، أو ناتجة أيضا عن تأملاته الخاصة في الديانات التي كانت تحيط به، فهل يمكن أن نقبل بسهولة أن عداء اليهود لمحمد كان متأصلا فيهم، وأن محمدا رد الصاع صاعين، وشن عليهم حربا لا هوادة فيها، يعكسها الخطاب القرآني، كما تعكسها كتابات الفقهاء ورواة السيرة والإخباريين؟ يقول محمد النجار في مقال له بعنوان:"هوامش على كتاب" تاريخية الدعوة المحمدية في مكة" لهشام جعيط": كان بعض اليهود ينتظرون مجيء نبيّ فعلا يليه مجيء المسيح مثلما نقرأ في مخطوط قمران رقم (4Q174) حيث أنّ هذا النبيّ سيكون مصدّقا لشريعة موسى ومبيّنا لها (قارن مع سورة المائدة، آية 15 : "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرا ممّا كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" وقارن كذلك سورة الفرقان، آية 33: "ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحقّ وأحسن تفسيرا" حيث يعتقد أنّ تفسيره [للشريعة] هو الحقّ والأحسن) ويشير هذا المخطوط كذلك إلى أنّ هذا النبيّ المنتظر سيقوم ببناء معبد آدم (قارن مع الروايات المحاكة حول الكعبة، حيث نرجّح أنّه هو فعلا من بناها ولم تكن مبنيّة من قبل، ونجد صدى لهذه المسألة في السيرة حينما عاون قريش على بناء الكعبة) ونقرأ في مخطوط رقم (Q175) أنّه سيأتي نبيّ مثل موسى (في إشارة إلى سفر التثنية 18، 18-19) وكذلك كاهن كبير وكذلك ملك من نسل داود (أي المسيح) لكن يمكن أن يحمل هؤلاء الثلاثة لقب "المسيح"، فلا عجب إذن أن نجد نصوصا تخبرنا بأنّ اليهود تعاونت مع محمّد في بداية دعوته في يثرب، مثلما ذكر تيوفان Theophane (ت818م/196ه) في تاريخه باليونانيّة قائلا: (عندما بدأ محمّد دعوته ضلّ اليهود معتقدين أنّه المسيح فاتّبعه بعض القادة منهم تاركين ديانة موسى الذي كان يعرف الله. وقد كانوا عشرة رافقوه طيلة حياته، لكنّهم حينما رأوه يحلّل لحم الجمل عرفوا أنّه ليس هو الرجل الذي كانوا ينتظرون...) ولا عجب أن تكون القبلة في البداية متوجّهة إلى بيت المقدس كقبلة اليهود، ولا عجب أن يخبرنا "سبيوس" Sébéos بالأرمينيّة حوالي سنة 660م/38ه أنّ العرب واليهود قد تعاونوا مع بعضهم في البداية، أو أن نعلم أنّ أبيّ بن كعب كاتب النبيّ وحافظ القرآن كان حبرا من أحبار اليهود، أو أنّ زيد بن ثابت، كاتب النبيّ وجامع القرآن، كان يهوديّا قبل إسلامه وله ذؤابتان، أو أن نقرأ ?أبوكاليبس? معاصرا للإسلام المبكّر كتبه يهوديّ فيه أنّ نبيّا يخرج من بني إسماعيل [العرب] ويخلّص بني إسرائيل من مملكة أدوم الشريرة [الروم] ويمهّد لمجيء المسيح، أو أن نعلم بأنّ اليهود كانوا يغزون مع النبيّ فيسهم لهم، أو أن نلاحظ أنّ القرآن يمتح كثيرا من التراث التلمودي والمدراشي، فهو مصدّق لما بين يديه، أو أن يتمّ ذكر اسم موسى في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرّة، ولا غرابة أن يستقرّ المقام بالنبيّ أوّل هجرته بقباء وأغلبها من اليهود، فكثير من الدلائل تشير إلى الفضاء الدينيّ اليهوديّ بما فيه اسم النبيّ الذي هو امتداد لرؤيا دنيال، لكن حدثت القطيعة فيما بعد بينه وبين اليهود وليس منذ البداية. قد يعترض البعض مؤكّدين على أنّ القطيعة مع اليهود حدثت منذ بداية دعوته، مشيرين إلى سيرة ابن هشام حيث يذكر بيعة العقبة قبل الهجرة بين النبيّ والأنصار فيقول النبيّ: (أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده، ثمّ قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيّا، لنمنعنّك ممّا نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. فاعترض القول، والبراء يكلّم رسول الله (ص)، أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إنّ بيننا وبين الرجال حبالا، وإنّا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسّم رسول الله (ص) ثمّ قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم) فقول الهيثم بن التيهان: (إنّ بيننا وبين الرجال حبالا، وإنّا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت...الخ) يوحي بابتداء العداوة قبل الهجرة بين النبيّ واليهود وأنّ الأنصار سيقطعون هذه الحبال، وقد نقل أغلب رواة السيرة اللاحقين هذا المقطع كما هو، لكن هذا النصّ فيه تصحيف غير متعمّد أو تحريف متعمّد من طرف ابن هشام، فالكلمة الأصليّة التي كتبها ابن إسحاق هي (العهود) وليس (اليهود)، ففي تفسير البغوي نقلا عن ابن اسحاق نفسه نجد (إنّ بيننا وبين الناس حبالا يعني العهود، وإنّا قاطعوها فهل عسيت...الخ)، وفي مسند أحمد نقلا عن ابن اسحاق أيضا: (العهود)، وأخرجها الطبراني في المعجم الكبير بأكثر وضوح: (إنّ بيننا وبين الناس حبالا - والحبال: الحلف والمواثيق - فلعلّنا نقطعها ثمّ ترجع..الخ). فالمقصود هي العهود والحلف والمواثيق، وقول ابن اسحاق: (يعني العهود) هو تدخّل منه في النصّ ليفسّر للقارئ معنى (بيننا وبين الرجال حبالا) وفي ذلك قول الأعشى: (وإذا تجوّزها حبال قبيلة**أخذت من الأخرى إليك حبالها) لكن وقع تغيير كلمة (العهود) ب (اليهود) عند ابن هشام. ونحن نتساءل هنا: من يقصد الأنصار بقولهم سنقطع العهود والحبال مع الناس إذا اتّبعناك؟ من هؤلاء الناس؟ هذا يجيبنا عليه ابن قتيبة في غريب الحديث قائلا: (وأراد أبو الهيثم أنّه كانت بيننا وبين قوم يعني قريشا عهود ومواثيق ثمّ قطعناها فيك فلعلّك ترجع إلى مكّة إذا ظهرت وتخلّينا..)".