كرست خطابات عبد الإله بنكيران، كرئيس حكومة يتحدث باسم الحزب الذي يقودها، شبه مسلمة في التداول السياسي مفادها أنه «ضامن» الاستقرار في البلاد. ومن قبة البرلمان إلى اللقاءات الجماهيرية والنقابية والحزبية، يردد عبد الإله بنكيران عبارته الحمالة الأوجه:« الحكومة جابت الاستقرار والشوارع خلت من المحتجين» وكل عاد الى بيته آمنا، وسلمت الدولة من شيء كان يظهر في دول الجوار أكثر مما كان يظهر بين جدرانها. يكاد يقول «الاستقرار هو أنا ، وأنا هو الاستقرار»! والتعبير عن هذه الأطروحة تعددت أشكاله، إلى حد التناقض الصارخ أحيانا: من جهة ، يقدم الحكومة ضامنة للاستقرار، وبما أن الاحزاب التي تكونها كانت موجودة قبله، فإن الجديد هو العدالة والتنمية، وبالتالي فليس الحكومة برمتها هي ضامنة الاستقرار، بل إن نواتها القيادية هي المعنية. ومن جهة ثانية، يرد على مسامع مخاطبيه بأنه إذا تم المس بالتجربة أو تم إقلاق راحته من طرف خصومه، فإن الشارع مازال مفتوحا لعودته هو ومن معه إلى زعزعة الاستقرار، وأحيانا يذهب إلى حد التصريح بأن «الربيع مازال كيتسارى..»، بحثا عن مدخل للعودة الى الحقل السياسي المغربي، وأن عبد الإله بنكيران ومن معه يسدون منافذ عودته ( في تركيب هو مزيج من الترغيب والترهيب ، على عادة الخطاب الدعوي). هذا الإصرار هو الذي دفعنا إلى طرح السؤال حول جدية الإسلاميين المغاربة في قضية الاستقرار، ولا سيما عندما يكون العرض مقدما من طرف حزب «العدالة..»، بتاريخه الطري، وبإيديولوجيته المعروفة. هل فعلا يشكل الاسلاميون أشقاء بنكيران عنصر استقرار في البلاد؟ في معنى الاستقرار أولا؟ الاستقرار السياسي، هو في التعريف العملي قبل العلمي، هو الصلابة والثبات وقدرة النظام السوسيو سياسي على الاشتغال، بدون التفريط في ذلك، أو المس بقوته ، مع الحفاظ على توازنه. وهنا يمكن أن نسأل: هل كان النظام في حاجة إجبارية لكي يشتغل، وأنه بدون حزب الرئيس كان سيتوقف أو يترنح توازنه؟ في واقع الأمر، لم يكن طلب الرئيس سوى أن يكون جزءا من الاستقرار المؤسساتي والسياسي المغربي، حتى بدون إصلاحات كبرى ، تعزز المطالبة بها التوجه نحو الاستقرار، نظرا للترابط بين الإصلاح والاستقرار والتنمية ، والحال أنه من هذه الزاوية لم يكن الحزب الرئيسي يطالب أكثر من .. التطبيع: فلا هو كان يضع الإصلاحات السياسية المؤسساتية الدستورية ضمن أولوياته، ولا التنمية والاستقرار كانا مشروطين بوجوده ما دام الوعي بهما والعمل بهما سابقين عليه! الاستقرار، العنف والشرعية: في الشق المرتبط بالتهديد باللاستقرار، يكون بنكيران قد لعب دوره بالتهويل بإمكانية التوجه نحو العنف، على غرار أنظمة اخرى. وبرر ذلك بانفلات لا يكون هو السد ضده. وإذا كان «الاستقرار يعني ، أيضا ، في التداول العام: غياب تهديد فعلي لعنف لا شرعي أو وجود إمكانية، تجسدها الدولة، من خلال سياستها لاستعمال العنف لاجتثاث هذا العنف وهذا التهديد»، فإن عبد الاله بنكيران كان يستعمل، تارة إمكانية عنف الشارع، الذي حرم على حزبه النزول إليه، وتارة أخرى نزوله هو نفسه الى هذا الشارع، من أعلى رئاسة الحكومة. وبالنظر الى «الفدلكة» السياسية الواضحة في هذا العرض المقدم، فإن ما هو أكثر جدية هو مراقبة المعطيات الفعلية والملموسة في هذا السياق بعيدا عن الماركوتينغ العصابي الذي يستعمله الرئيس. وللإجابة عن ذلك، يقتضي الأمر الإجابة عن السؤال: ما حقيقة هذا المعطى - نقصد وجود التهديد بالعنف وإمكانية استعمال الدولة لعنفها لدرء التهديد؟- في المغرب؟ أولا: لم يكن هناك عنف لا شرعي، أو توجه الى تقويض المؤسسات والدولة تقويضا نهائيا، حتي في أقسى درجات الموجة المطالبة بالإصلاح. فقد كان السقف المطلوب من ضمن الاحتمال الممكن للنظام نفسه وضمن قدرته على التجاوب معه، لا ضمن الاستحالة. ولهذا لم تكن هناك توجهات رسمية للعنف ( من طرف الدولة).. المفارق في هذا الوضع هو أن الأحزاب التي استعدت الدولة على الحركة التغييرية، بتخوين المشاركين أو إسقاط المواطنة الحزبية عنهم، هي التي كانت تشكل عنصر تهديد بالعنف واستمالة الجانب العنيف في الدولة لكي تدبر حركة 20 فبراير وما بعدها.. بالعنف. (ومن هذه الاحزاب العدالة والتنمية..). وفي الحقيقة كانت تلك الاحزاب «تتفاوض» مع الدولة، ليس على بقائها، بل على ما بعد التغيير المؤسساتي. وهو ما يشكل بحد ذاته نقضا لفكرة وجود عنف محتمل أو رد بعنف من طرف الدولة. الاستقرار .. والاستمرار كانت أكثر اللحظات استعمالا لفكرة ضمانة الاستقرار من خلال الحكومة، هي اللحظة التي كان الربيع العربي فيها يبتعد عن «الحل الإخواني» لمطالب التغيير واستبدال الأنظمة والحكومات. ولعل المتتبعين مازالوا يذكرون التركيز والإصرار على ترديد الأغنية الرابطة بين استمرار الحكومة واستمرار الاستقرار( يكفي العودة إلى تصريحات بنكيران وقتها). الترابط بين تجربة الإخوان وبين العدالة والتنمية يحسب عليه وليس له، إذ أن الإخوان / الأم لم يكونوا عنصر استقرار، بل العكس، وفي اللحظات التي استفردوا بها بالسلطة كانوا عنصر ردود فعل قوية أو عنيفة من المجتمع. كما أن التجارب التي استمرت، كما في تونس، استمرت لوجود عناصر استقرار .. ضد الإخوان وليس بهم أو معهم ( الشركاء الاجتماعيون والمرأة والقوى الديموقراطية لم تسمح بسقوط الدولة في الخيار الصعب: أيهما أحسن، النهضة أو مقاتلو جبل الشعانبي؟). والحال أن هناك خلطا بين تجربة معينة وبين ربط الاستقرار باستمرار الحكومات. إذ لا يمكن أن نقيس انعدام الاستقرار بسقوط حكومة معينة . أبدا، فتاريخ الديموقراطيات هو في جزء منه تاريخ سقوط الحكومات، وأحيانا قبل موعدها التشريعي أو دورتها التنظيمية.. لهذا، يكون من المنطقي أن نبحث في أطروحة الرئيس عن أسباب أخرى، ويمكن أن نقدم الفرضية التالية: سقوط الحكومة - بالرغم من عدم وجود أي مؤشر على اقتناع قوي داخل الحقل السياسي بذلك وقتها- كان يعني نهاية محاولة التطبيع كما يفهم ذلك رئيس الحزب والحكومة. وإذا سلمنا بأن من دواعي الاستقرار اشتغال الحكومة لمدة طويلة، مع الاحتفاط بقدرتها على التأقلم مع متغيرات الواقع ، فإن الحكومة التي سبقت مع عباس الفاسي، كان رحيلها شعارا من شعارات الحركة الاجتماعية في 20 فبراير، لكن التي جاءت بعدها لم ترحل ، حتى عندما أبانت عن عدم قدرتها على التأقلم مع وضع ما بعد الحركيات الاجتماعية..بل لم تستمر إلا بوجود الحزب الذي قاد الحكومة التي تمت المطالبة برحيلها، لم تستمر بدون الأحزاب الأخرى ضمنها!! في السلوك السياسي للحكومة ولجهاز التنفيذ العمومي، لم يستدرج رئيسها التيارات الإسلامية الأخرى إلى شبكته في قراءة الوضع الراهن. كما أن بنكيران لم يستطع أن يطور عرضا سياسياoffre politique يتماشى مع ما بعد التغيرات الحاصلة، يمكنه من إغراء القوى التي تعارض العمل النظامي والسياسي المؤسساتي، وذلك بتقوية أدائه وتقويض أرضيتها السياسية التي تقول بأن الحاكم الفعلي هو المخزن ، وأن الحكومات ماهي إلا صورية .. الخ ولم يتفوق عليها، من حيث أدائه الذي يبرهن على أن المشاركة السياسية هي أفضل أسلوب لمواجهة إكراهات الانتقال الديموقراطي والتنمية معا. إنه في أفضل الأحوال يتعامل معها كضد لا بد منه لكي يلوح بخطورتها وبضرورة الاعتماد عليه كبديل دائم. فمازال الحقل السياسي المغربي لم يستقر نهائيا، بسبب وجود فعاليات تشتغل على هامشه، ومازال بنكيران لم يتقدم أية خطوة في دفع هذه المكونات نحو المشاركة( لا على غرار دفع اليسار الراديكالي الى المشاركة ، كما في التناوب المغربي، ولا في تجربة سواريس الاسباني وإدماجه للحزب الشيوعي في الانتقال الديموقراطي). الاستقرار دستوريا: إذا كان سلوك المكونات المجتمعية، الغاضبة منها وغير الغاضبة، والمنخرطة في منظومة المجتمع وغير المنتظمة، لم يكن يتجه نحو زعزعة الاستقرار ، فإن من الواضح أن الاستقرار السياسي تجلى في مغرب الحركية السياسية المطالبة بالتغيير من خلال الحفاظ على استمرارية الحياة الاجتماعية والنظام السياسي عبر الشرعية ( وليس غير الشرعية الديموقراطية )، كما أقام الدليل على فعالية ونجاعةالبنيات السياسية والمؤسساتية، مدعومة بثبوت القيم والمعايير المؤطرة للثقافة السياسية، واستقرار العلاقات السياسية ،عموما، بين مكونات المجموعة الوطنية. غير أن النقطة الحاسمة في الدلالة على وجود استقرار سياسي في كل الديموقراطيات.. هي وجود نظام دستوري، إلى جانب سلوك اجتماعي يحافظ على المطالبة بصيغ سلمية، ولنا أن نسأل : إلى أي حد ساهم بنكيران في قيام نظام دستوري جديد - ومن خلاله في توفير شروط الاستقرار، مع ارتفاع جيد في منسوبه؟ وهل يمكنه أن يقول بأنه كان سببا في هذا الاستقرار، نسبيا، أم أن حقيقة الامر أنه كان مستفيدا منه، وأن حكومته ، أصلا، هي نتيجة وليست سببا لهذا الاستقرار؟ إن السلوك الدستوري لرئيس الحكومة يكشف بأنه يسلم باستقرار سابق عن الاستقرار المتقدم الذي حصل بعد 2011، لأنه يعيش على هويته السياسية السابقة عن حركية التغيير، وتسليمه بأن المعايير السابقة لدستور 2011 بل لدستور 1996 هي التي تتحكم في اللعبة. فهل يمكن لحزب يعيش على وسادة 1996، أن يفكر بأنه يحقق استقرار بيت يُبنى منذ 2011..؟ مجرد سؤال لمن يفضل الحلم.. القضية الأم لا يتردد أي متتبع، فبالأحرى المنشغل والفاعل السياسي، في أن يجعل القضية الوطنية، قضية الصحراء في صلب الاستقرار السياسي المغربي، منذ منتصف السبعينيات. فغير خاف أن الانفراج السياسي، والتوصل الى مشترك سياسي ووطني بين المعارضة، المنحدرة من حركة التحرير الشعبية ، والتي التحقت بها، وبين الدولة ، والقصر تحديدا، بدأ وتأسس على قاعدة الدفاع عن الارض، وربطها بالديموقراطية، ومنذ تلك الفترة لم تكن عناصر زعزعة الاستقرار في البلاد إلا مؤقتة ومحدودة، سياسيا ومجتمعيا ، ولم يتهدد البلاد شبح التوتر من جديد سوى في 1981، عندما تم الإخلال بالتعاقد حول القضية الوطنية، وإعادة النظر فيه، واختلاف القراءة لقرار قبول الاستفتاء على الأرض، مهد المقاومة وجيش التحرير وأساس الشرعية السياسية والنضالية للنظام، وللقصر تحديدا. ويمكن أن نسأل في هذا الباب: ما لذي تغير أو انضاف مع بنكيران في قضية الصحراء الوطنية، بما يجعل الاستقرار يتكرس ويتقوى، ويحسب له وحده؟ لاشيء إن لم نقل الانمحاء التام في ملف هو جوهر التعاقد، ما بعد السبعينات وعندما انفجرت أزمات النظام، عموديا (الانقلابان المتتاليان 1971/1972) وأفقيا، المعارضة المسلحة، ثم المواجهات والإعدامات وسنوات الرصاص، التي تعني اللااستقرار فعلا؟ على بنكيران أن «يوسع خاطرو» عندما يريد أن يفتح ملف مساهماته في الاستقرار، وألا يعتبر أن ..دخول المغرب موجة جديدة من الحياة الوطنية.. مناسبة لكي يمسح ما سبق، وأنه الضامن لاستقرار بلاد .. أكبر من كل الأحزاب الطارئة!.