ظل يشغلني دوما سؤال بالبداهة يكتنز مضمرا أصيلا في تكشف خيوط أنطولوجيا الحاضر، يحضرني بمناسبة أو بدونها، كلما هَمَمت بالتفكير في واقع الحال، واقع الفكر الإنساني وانعطافاته الفارقة، وواقع الممارسة البيداغوجية باختزالاتها المعيبة، واقع تبيئة المشترك الإنساني في بيئة تستلذ بالتراث. كلما دنوت من درس الأنوار الأروبي المبرمج لتلامذة الجذع المشترك إلا واعترتني نشوة مخصوصة، متعة السباحة في مدارات العقلانية الإنسانية وشعابها العميقة، من حيث هي إيمان بالعقل وحده كسلطة علىا لحقيقة، ومن حيث هي حرية وعدالة في تنظيم حياة البشر في الزمن، ومن حيث هي فصل للسلط في تدبير أمور الرياسة. يخيب ظني في الان ذاته، حينما يجنح عقلي نحو إقامة مقايسة حضارية، مع سؤال يظل جاثما على مسيرتنا التاريخية، عن حدود إخفاقات العقل العربي الإسلامي في سكب ورسكلة خطاب الأنوار في معينه الحضاري. ظل هذا السؤال كما يقول الفرنسيون يمثلle dégrée zéro في منشأ تفكير يحول عوائق التنوير والأنوار، التحديث والحداثة، المقدس والمدنس، الحياة العامة والحياة الخاصة، الفردانية والأنانية، الحرية والعبودية… وغيرها من الدوال المتضادات، بدت لي المسألة عميقة من أن تختزل لتلميذ في معارف وأفكار، من أن تكثف في نماذج وبراديغمات، من أن أجعل تلميذ المدرسة المغربية اليوم يتذوق تاريخانية الأنوار ضمن أفق زمني ضيق، مع ما تطرحه من إمكانيات الانعتاق والتحرر من هلامية الواقع البئيس. أقول هذا وأنا أنطلق من فراغ ابستيمي واضح، يجعلني أستغور مكنونات الفكر الأنواري في غياب قاموس تاريخي في ثقافتنا العربية الإسلامية، يعمل على تفكيك المفاهيم الكبرى من حيث دلالتها وسياقها، ويجعل مبحث تاريخ المفاهيم أو أركيولوجية المفاهيم على الأصح منطلقا للتفكير في قضايا الفكر العربي الإسلامي، على نحو ما نجده مثلا لدى المدرسة الألمانية مع الفيلسوف كوزليك الذي قضى أزيد من 30 سنة، وهو يؤلف معجما تاريخيا للمفاهيم الأساسية في الفكر الألماني. ماذا حينما نعود بكلمة الأنوار إلى السياق العربي الإسلامي؟ هل ثمة ما يفيد في هذا الشأن يعيينا على ضبط أركيولوجية المفهوم؟ لا نكاد نعثر على شيء ذا بال في هذا الصدد، إذ الإنارة تعني التبيين والايضاح، والتّنَور عند العرب يعني الطلاء بالنَّوْرَة، والتَّنور هو من ينظر إلى الاخرين بالنار، ومفهوم الاستنارة هو الذي يأخذ النار من شخص، نترك هذا جانبا، ونبحر في مصنفات التراث، إذا ما توجهنا نحو ما كتب عن التنوير والأنوار في مطالع الأنوار، والأنوار القدسية، ورسالة الأنوار نجد أن القدامى لم يكونوا يعنون ما نعني به نحن اليوم بكلمة الأنوار، فهذا ابن عطاء السكندري صاحب كتاب التنوير في إسقاط التدبير يعني بالتنوير تدبير الإنسان لشؤون حياته، قد يبدو قريبا من المعنى الحالي الذي نعرفه، لكنه يقصد بإسقاط التدبير الخضوع لمشيئة الله، حيث التنوير نقيض التدبير، ومن لم يُدبر دُبر له. أقدم نص أزعم توقف عند كلمة الأنوار سنجده في رحلة الطهطاوي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى باريس، لحظة الاحتكاك بفكر الغرب حيث يقول(… ولا تُعظم القس في هذه البلاد إلا في الكنائس، عند من يذهب إليهم، ولا يسأل عنهم أبدا، فكأنهم ليسوا إلا أعداء للأنوار…)، نص ينطلق من مقايسة بين مرجعيتين مختلفتين، مرجعية مصر الفقهية، ومرجعة أروبا ما بعد الإصلاح الديني، حيث يبدو الطهطاوي متأثرا بفلاسفة عصر الأنوار، وبتجربة خروج الإنسان من الوصاية الدينية والتفكير بالبدل (… قرأت روح الشرائع، مؤلفه يقال له مونتسكيو، وهو أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والمذاهب السياسية، ومبني على التحسين والتقبيح… ويلقب عندهم بإبن خلدون الإفرنجي، كما أن إبن خلدون يقال له مونسكيو الشرق، وقرأت أيضا عقد التأنس- ويقصد le contrat social- والاجتماع الانساني، مؤلفه يقال له روسو، وهو عظيم في معناه، وقرأت عدة محال- نُتف- نفيسة في معجم الفلسفة للخواجا فولتير، وعدة محال من كتب كوندياك…) إذن ما الذي عاق فكر الأنوار في ثقافتنا العربية الإسلامية؟ وما الذي يعوق الان؟ ما الذي يجعلنا نحيا في التراث؟ وما الذي يجعل العقل الجمعي يختفي في التراث؟. الثقافة العربية الاسلامية عاشت تجاذبا بين تيارين، واحد تجديدي تنويري وأخر محافظ يجرها دوما للخلف، لسوف نعثر في أدبيات التاريخ الوسيط الإسلامي على أصوات تنويرية، تكاد تكون معزولة عن سياق فقهي مهيمن، فهذا الأستربادي وهو فقيه شافعي بمصر يتحدى مجتمعه الغارق في إيمانه المطلق بالسحر، إذ يقول (…إن السحر لا حقيقة له، وإنما مجرد تخييل…)، وهذا الحكيم الطوسي واحد من كبار فلاسفة الإسلام خارج أهرامات الفلسفة الإسلامية المألوفين، الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد يقول (…إن القول بتأثير النجوم ضرب من الهذيان le délire)، وهو يفند ما ظل يعتقد فيه إلى اليوم من طرف عامة الناس أن الأفلاك مُدبرة لحياة البشر، أو ما يسمى بعلم التنجيم Astronomie، وذاك ابن برهان النحوي فيلسوف ومنطقي ونحوي يبطل أساسيات المعرفة بقوله (… لو كان علم الكيمياء حقا لما احتجنا إلى الخراج، ولو كان علم الطلاسم حقا لما احتجنا إلى الجند، ولو كان علم النجوم حقا لما احتجنا إلى الرسل والبريد…) قد تبدو هذه النماذج المضادة رأي قلة من المتنورين، ظلت تقبع في الهامش، مفتقدة للسلطة المعرفية التي كانت بيد رجال الدين غير المتنورين، الذين كانوا يضعون حدودا وعوائق وموانع للعقل، فابن القيم الجوزية في كتابه صيد الخاطر يعتبر المؤمن مؤمنا بحدود، (… ولو قال قائل ما الصواعق؟ وما البرق؟ وما الزلازل؟ قلنا شيء مزعج ويكفي…لو كشفت حقائقه خف مقدار تعظيمه- الله-…)، وابن عطاء الله السكندري في كتابه التنوير في إسقاط التدبير اعتبر علم الفلك Astrologie من باب التجسس على الله (… ما فائدة التجسس على علم علام الغيوب، وقد نهانا الله سبحانه أن نتجسس على عباده…) أسوق نموذجا آخر، هو أبو الحسن الأنباري فيلسوف وعالم هندسة، تلميذ عمر الخيام دخل ذات مرة في نقاش مع فقيه حول تفسير آية من الكتاب الحكيم ( أو لم يروا إلى السماء فوقهم كيفبنيناها/ الآية)، فتصادم معه، فقط لأنه كان يبتغي تفسيرا علميا. هذه النماذج تجعل طيف ابن عطاء السكندري وابن الجوزي وغيرهم يحاصرنا في كل لحظة وحين، ويجعلنا كائنات تراثية بامتياز، فكيف يبدو اليوم موقف عامة الناس من الأرصاد الجوية؟ أو ليس موقفا مشككا يمتح من عالم الغيبيات. مفهوم أخر يعكس هذا التضاد، مفهوم العالِم، سبق لرحالة مغربي زار باريس ما بين 1845 و1846 أن توقف عند هذا التضاد، حيث يطلق لفظ العالِم في الحضارة الإسلامية على الفقيه، بينما العالِم عند الأوربيين على الشخص القادر على استنباط القوانين، وتمحيص الفرضيات واختبار التجارب. لقد حملت الكتابة السفارية نوعا من الإعجاب والافتتان بالآخر، وسلبت عقول السفراء، وسحرت منجزات الحداثة التقنية أفئدتهم وعقولهم، بل وعملوا على تسحير أدواتها، إذ اعتبروا التلغراف مثلا ضرب من السحر. في مثال آخر مثير، لمفكر جدير بالتقدير، يحلق بعيدا في حقل الاقتصاد واجتماعيات البشر، حينما يحلل الحياة الاقتصادية بمصر وسوريا على عهد المماليك خلال القرنين التاسع والعاشر الهجري، هو الصيرفي والجوهري داوود بن ابراهيم الخطيب الجوهري، يكتب سنة 875 هجرية ( … وأما الناس صاروا ثلاثة وأثلاث، الغني افتقر، والمكتسب- الطبقة الوسطى- ما يفي بنفقته، والفقير صار يطلب لقمة لُبابة….)، ويضيف في نفس السياق ( … وانقضت هذه السنة 873 هجرية، والناس في أمر جهيد وبلاء عظيم من كثرة الفتن…عظم الغلاء بالديار المصرية حتى وصل الإردب القمح إلى ألف درهم…)، وصف دقيق لا يقل شأنا عن وصف المقريزي صاحب الأسعار، بل ويسير بعيدا في ذلك، إذ يقول:(… وأما الظلم الموجود في بعض الناس فلا فائدة في ذكره، وعدم الأمن في السبل والطرقات، والحق أقول أني لم أرى فيما رأيت من عمري أبشع وأفضح حالا من هذه السنين الثلاث…)، تحليل غاية في الدقة والتشخيص، يبعدنا عن حياة البلاطات والقصور نحو حياة البسطاء والمهمشين في التاريخ الإسلامي، لكنه، حينما يَهُم بتحديد سؤال المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية في هذه الحوادث (… فما شاء الله كان…)، هنا يتدخل اللاهوت في تفسير حياة الناس، ويتوقف العقل العربي الاسلامي عن الفهم، ولا ينفذ إلى تحليل بنية الاحتكار الاقتصادي وقوى الانتاج وتراتبيات المجتمع. حينما يصبح الغلاء والرخاء من صنع الواحد الخلاق، تكون مسؤولية الإنسان قد انتفت، وأقصد مسؤولية المضارب والمحتكر والمزايد والمرابي. في نص آخر حول الفيضانات، نجد( أن الأمطار قد ملأت الأسواق والدروب، والخبز لا يوجد، والناس يزدحمون عليه في الأسواق، وهو أسود كمكم، وأما الفقراء والمساكين، ففي أمر عظيم… ولكن الأمر إلى الله العظيم، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا مُعقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير…). لفظ مسلم عند الألمان يعني مُستسلم للقضاء والقدر، فكل شيء يقع له في حياته من باب القضاء والقدر، أين هي العقلانية الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل الناس يحسبون حساباتهم ويتحملون مسؤولياتهم؟ مشكل الثقافة العربية الإسلامية أنها لم تسر بالتحليل إلى أقصى مداه، وجعلت الإنسان خاضعا للقدرHomo fatôme، مُستكين ومستهين، مقابل الإنسان الاقتصادي عند الأنوار Homo économicos، ولربما ذلك تسرب من خلال سريان التفكير الصوفي الذي يمنع الإنسان من التفكير في مسألة التدبير، فحسب الصوفي النوري يصير» التوكل يُفني تدبيرك في تدبيره»، بينما عند كانت المفكر الأنواري التدبير مسؤولية إنسانيةّ. لقد وضعت الثقافة العربية الإسلامية حدًّا على الفردانية التي خلطت بالأنانية، وأهملت قيمة الفرد، الأنا، مقابل الإمَّعة أو الإمَّرة التي جعلها الفقهاء من المنهيات الشرعيات في التفكير، فابن القيم الجوزية يحذر من طغيان الأنا، ويعتبر ألفاظ مثل (لي/ عندي) ألفاظ ابتلي بها ابليس وفرعون وقارون. هذه الأنا الخنوعة، المستسلمة والمستكينة التي تجري عليها الأقدار، جعلت امرأة صوفية تنتفض ضد هذا الخنوع بالقول (…أُخِدَمني أنا فبقيت بلا أنا…)، وغايرت القول المأثور(…لا تكلني إلى نفسي طرفة عين…) بالقول (…يا الله تكلني إلى نفسي طرفة عين…) هل وجدت هذه الأنا التي تؤكد على حرية الفرد؟ لماذا تراثنا الصوفي قام بإنكار هذه الأنا وعمل على تمويتها؟ ولماذا تم التحجير على العقل؟ وألا يعيق ذلك حرية المبادرة والفكر والعلم؟