لم يكن ديكارت إذا يخشى آراء أولئك السفلة الذين يحاربون الفيلسوف والفلسفة في نفس الآن: "وأن كل من صمم على محاربتها لن يجني سوى الاندحار"(12) والشاهد على ذلك أن الفلسفة استمرت في الوجود، بالرغم من إعدام الفيلسوف أو نفيه والقضاء عليه، ولعل هذا الوضع المأساوي يمكن اعتباره مشتركا بين الفلاسفة منذ سقراط إلى أيامنا هذه، وبإمكاننا النظر إليها كلعبة ماكرة يدبرها اللاعقل في حق العقل ويتم تنفيذها بواسطة المادة الأولى: "فإن المانع أيضا للشيء من أن يكون بالفعل معقولا هو المادة، وهو معقول من جهة ما هو عقل، لأن الذي هويته عقل ليس يحتاج في أن يكون معقولا إلى ذات أخرى خارجة عن تعقله، بل هو بنفسه يعقل ذاته، فيصير بما يعقل من ذاته عاقلا وعقلا بالفعل"(13). والخلاصة في مظهرها الأنيق، حسب الفارابي، أن الإنسان كلما ابتعد عن العقل يتحول إلى مجرد شيء يتم تصنيعه من قبل أعداء النزعة الإنسانية كهيولي، هكذا يصبح أداة تسخر لقمع العقل واضطهاد الفلاسفة والعلماء، ولذلك فإننا نجد أن المدن الجاهلة تكون خالية من أهل الصنائع الذين يستضيفهم الاغتراب في عتماته ويسكنهم في عمق حميميته، ولنا أن نتساءل عن الصيغة الملتبسة التي يقترحها الفارابي لحل مشكل الوجود عند الفيلسوف، وبعبارة أخرى هل استطاع الفارابي أن يقدم حلا للفيلسوف،بعدما فشل ديكارت الذي اختار الاختفاء في مخبأ الميتافيزيقا الرفيع؟، هل بإمكاننا أن نعود إلى الفارابي ونقرأ معه إشكالية الفيلسوف وإزعاجه لعقل الجمهور داخل تجليات إشكالية المدينة الجاهلة والفاسقة، والفاضلة؟، فأي مدينة يقصدها الفيلسوف؟. لم نكن نتوقع بأن المعرفة ستتحول إلى لعنة تطارد الفيلسوف، وتجعله يعيش تحت رحمة من يدبرون المدن الجاهلة، ويتحكمون في وجدان الجمهور ويحرضونهم على اضطهاد الحكماء، بيد أن لعنة الكتابة الممتزجة بذلك القدر الحزين للميتافيزيقا، قد دفعنا إلى الاستسلام لهذه النشوة العابرة والتي جعلت الذات ترمي بنفسها قطعة ثم قطعة في طية الحب، الذي يحفظ الكون من الانهيار، ولذلك اخترنا العيش مع الفلاسفة في معاناتهم، بدلا من استعراض نصوصهم ومذاهبهم من وجهة نظر تاريخ الفلسفة، لأن ما يهمنا هو اقتسام مذاق انطولوجية الاغتراب مع هؤلاء الناس الذين حكم عليهم بالغربة مدى الحياة، ومع ذلك امتلكوا الشجاعة وبعثوا لنا بهذه الرسائل التي نقرأها بصوت مرتفع، على الرغم من أننا نزعج زعماء الجمهور، هؤلاء الذين يتقنون الترهيب والترغيب، وحكموا على أمة بكاملها أن تنتظر انتقالها إلى السماء، بعدما فشلت في الأرض، بيد أن إقامة الفيلسوف شعريا بين السماء والأرض أضحى يزعجهم، وبخاصة وأنه يمشي على الأرض ونظره متجها إلى السماء، وعندما يسأله أحدهم قائلا: لماذا جئت إلى هذه الدنيا، فإنه يجيب باقتناع؛ من أجل أن أتأمل السماء، وأبدع ما في الأرض، ولذلك فإنه يترك بصماته في طرق الوجود كما يفعل الفلاح في الحقل. هكذا يكون الفيلسوف ضروريا للأمة لكي تنتقل من المدينة الجاهلة إلى المدينة العاقلة. وإلا ستسقط في أزمة فكر أبدية من جراء اهتمامها بتربية الوجدان وصناعة العقل الهيولاني، الذي حرم من التفكير لارتباطه بالهيئات النفسانية الرديئة: "هذه الهيئات المستفادة من أفعال الجاهلية هي بالحقيقة يتبعها أذى عظيم في الجزء الناطق من النفس، وإنما صار الجزء الناطق لا يشعر بأذى هذه لتشاغله بما تورد عليه الحواس"(14). نحن إذن أمام مفارقة شرسة، يمكن تسميتها بلغة معاصرة، بحرمان الناس من الحق في المعرفة، ومصادرة كل حقوقهم في الوجود، لأنه ما معنى أن يتحول الإنسان إلى مجرد بهيمة تقاد باللذة والسوط؟، وأي حياة هذه التي تتم في كهف أفلاطون؟. وهل سيظل الإنسان العربي يعيش في هذا الكهف؟ ومتى تتحرر المدينة من جهلها؟. هوامش : 12 - ديكارت م م 13 - أبو نصر الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، دار المشرق ص 46. 14 - الفارابي م م ص 143.